صدر عن دار قلم بيروت – لبنان، كتاب للمحامي الأستاذ زكريا الغول بعنوان “بيروت 1887 – 1918: إجتماعياً – صحياً – مصرفياً“، ويقع في 136 صفحة من الحجم الوسط.

يروي هذا المؤلَّف حقبة مهمة من تاريخ بيروت على صُعد متعددة، أبرزها الاجتماعية والصحية وحتى المصرفية، حيث كانت المدينة منارة وقِبلة للكثير من الشركات المصارف العالمية آنذاك، إذ كانت – كعادتها – تعتبر محطة مهمة علة شواطئ شرق المتوسط لا بد من التوقف بها وعندها.

عن الكتاب، يقول الأستاذ الغول: “تقع مدينة بيروت على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، تبلغ مساحتها 67 كلم2، وترتفع عن سطح البحر 34 متراً فقط، إن موقعها المميز لجهة وقوعها على واجهة بحرية بموازاة الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، جعل من مرفأ بيروت مصدراً أساسياً لحركة التجارة الدولية وأكسب المدينة أهمية خاصة، لكن من ناحية أخرى أصبحت المدينة محط أطماع الدول الإستعمارية ومركزاً للصراع الدولي.”

ويضيف “شكلت مدينة بيروت مركز الثقل في الإقتصاد اللبناني، حتى أصبح يطلق عليها في الفترة ما قبل الحرب اللبنانية بـ ‘مصرف العرب’ ومستشفاهم، تلك المدينة الراسخة في الجذور منذ القدم، منذ أن كانت مملكة سامية في العصر الكنعاني – الفينيقي (2000- 64 ق.م)، ثم مستعمرة جوليا اغسطا السعيدة في العصر الروماني (64 ق.م)، وتأسيس مدرسة الحقوق، للترسخ هويتها مع الفتح العربي سنة 635م، مروراً بأحداث كبرى عصفت بتلك المدينة التي شهدت الغزوات والحروب والثورات والنكبات عبر تاريخها، بقيت مشرقة مطلة على شرق البحر المتوسط، وقد قال فيها القيصر الألماني ويلهلم الثاني خلال زيارته لها في العام 1898: ‘انها الجوهرة في تاج السلطنة’.”

أما عن نشأة ولاية بيروت، فيقول المحامي الغول “إن أبناء بيروت كانوا قد تقدموا بإلتماس إلى السطان عبد الحميد الثاني للإنفصال عن ولاية سورية وإنشاء ولاية مستقلة تكون مدينة بيروت مركزاً لها، وقد إستجاب السلطان عبد الحميد لذلك وأعلنت ولاية بيروت، بمقتضى الإرادة السلطانية بتاريخ 25 ديسمبر/كانون الأول 1887، وضمت المنطقة الساحلية الممتدة من اللاذقية حتى شمال يافا، تحدها من الشرق ولايتي حلب ودمشق، كما ضمت خمسة سناجقهي : سنجق بيروت – سنجق طرابس الشام – سنجق عكا – سنجق اللاذقية – سنجق نابلس. وكان يتم تعيين ولاة أتراك على ولاية بيروت، يكون تابعاً لوزارة الداخلية في الدولة العثمانية، أما مدينة بيروت نفسها، وهي مركز الولاية، فكان يعين عليها متصرف تركي أغلب الأحيان.”

وعن بداية التطور فيها، يقول الكاتب “خلال فترة الحكم المصري لها عبر إبراهيم باشا في العام 1832 حين قام بهدم السور وأباح بناء المساكن خارجه، فعاد لبيروت دورها المهم مرة أخرى ، بعد سنوات من الصراع بين الشهابيين ووالي عكا حينها أحمد باشا الجزار الذي دفعت بيروت ثمناً باهظاً له. وبقيت بيروت تحت الحكم المصري من سنة 1832 حتى 1841 وهي المدة التي بقيت فيها بلاد الشام في حوزة إبراهيم باشا. وفي هذه الفترة عرفت هذه المدينة تطوراً أساسياً شمل سائر مرافقها العُمرانيّة والإداريّة، وذلك بسبب امتداد رقعتها إلى خارج السور الذي أمر إبراهيم باشا بهدمه وسمح للناس ببناء مساكنهم في الضواحي التي أصبحت فيما بعد جزءاً من المدينة نفسها، كما ازدهرت أحوالها التجاريّة بسبب اختيارها مركزاً للحجر الصحي، الأمر الذي أجبر جميع القادمين إلى الشام على الخضوع له للتأكد من سلامتهم الصحيّة وخلوهم من الأمراض المعديّة. وفي العام 1841، تمكنت الدولة العُثمانيّة من استعادة سيطرتها على بلاد الشام، فقاموا بنقل كرسي الولاية إليها وعيّنوا عليها والياً من قبلهم اسمه سليم باشا. وفي عهد هذا الوالي بدأت بيروت بالازدهار فازدادت عماراً وسكاناً، وانتقلت إليها تجارة الإفرنج، وعظم شأنها، وكثر مجيء المراكب الأوروبيّة إليها؛ وخلال أحداث 1860 بين الدروز والمسيحيين، لجأ إليها الكثير من الموارنة، فقد أسهمت أحداث العام 1860 في جبل لبنان في إحداث تغيير ديمغرافي في بيروت، نتيجة إنتقال الرساميل المسيحية للإقامة فيها، ليأتي إعلان ولاية بيروت وجعل مدينة بيروت مركزاً لها بمثابة إنطلاقة المدينة نحو الحداثة.”

ويستطرد بالقول “إستفادت مدينة بيروت من كونها مركز الولاية، فتطورت المشاريع القائمة لتحسين وتطوير المدينة، وتمثل ذلك بتطور عدد سكانها وإزديادهم كما حدث تطورفي الحياة الصحية، من إنشاء مستشفيات ومنها المستشفى الفرنسي والحميدي والمستشفى الأمريكي ومستشفى ربيز، وتأسيس المصارف الأجنبية والمحلية كما تطور دور بلدية بيروت، وتم إنشاء الشركة العثمانية لمرفأ بيروت، وإنارة مدينة بيروت بالغاز، كما تم إفتتاح سكة حديد بيروت – دمشق، وتم أيضاً تأسيس غرفة التجارة والصناعة في مدينة بيروت وبناء برج الساعة وتدشين المحطة البحرية وتوسيع الطرقات ورصفها، إلى غيرها من الأمور الإنمائية كتسيير الترامواي الكهربائي ثم إنارة بيروت بالكهرباء، كما وحدث تطور في الحياة التعليمية.”

وخلال منتصف القرن التاسع عشر، إزداد عدد سكان مدينة بيروت وتوسعت لتتخطى أسوارها هذا التوسع فقامت الإرساليات الغربية بدور بارز في تطوير المدينة، كما مركزاً للثقافة والفكر العربي ومركز تنوع عالمي بوجود الأوروبيين والأميركيين، حيث إنشأت المدارس والجامعات ومن أشهرها الجامعة الأميريكية في بيروت، واشتهرت فيها صناعات وتجارة الحرير، كما أنشأ الفرنسيون مرفأ بحرياً عصرياً في سنة 1894، ومدوا سكك الحديد بين بيروت ودمشق وحلب وسرعان ما أصبح للفرنسيين تأثير أكبر من أية دولة غربية أخرى .

بنهاية الحرب العالمية الأولى، يشير الكاتب إلى أنه وبعد دخول القوات الفرنسية إلى المدينة “إنتهت ولاية بيروت العثمانية، التي إستمرت حوالي 31 عاماً حافلة بالأحداث السياسية والعسكرية والإقتصادية والثقافية والعمرانية. وبنهاية القرن التاسع عشر، أصبحت بيروت أكثر أجزاء السلطنة العثمانية تقدماً، وتحولت إلى مركز تجاري مهم وبخاصة بعد تطور وسائل النقل بين أوروبا والمشرق العربي. ومن نتائج الفورة تلك، بدأت الرساميل الفرنسية تتجه نحو بلاد الشام، وقامت تلك الرساميل بربط بيروت بمتصرفية جبل لبنان وبالمدن الساحلية بشبكة من المواصلات، تسهيلاً لتجارة الحرير وتأمين وصول الحرير الخام إلى بيروت.”

أيضاً، تشير الكتاب إلى نقطة مهمة وهي أن الصراع الدولي الذي كان سائداً وقتها بين القوى العظمى، قد يكون له بعض المساهمة في التطور الذي أصاب مدينة بيروت، نتيجة حجم التدخلات الأجنبية من فرنسية وبريطانية وحتى ألمانية والذي ترجم إلى إستثمارات مصرفية وتجارية. كما أن الموقع المميز لمدينة بيروت – وبخاصة لجهة وقوعها على واجهة بحرية بموازاة الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط – جعل من مرفأ بيروت مصدراً أساسياً لحركة التجارة الدولية وأكسب المدينة أهمية خاصة، لكن من ناحية أخرى اصبحت المدينة محط أطماع الدول الإستعمارية ومركزاً للصراع الدولي.”

مصرفياص، لا شك أن حركة الرساميل المحلية والدولية أسهمت في تطور سريع لمدينة بيروت، مهد لها الطريق لتحتل صدارة المدن العربية لناحية التطور، ما جعلها قبلة التجار والرساميل، كما جعلها فيما بعد المدينة المؤهلة لتبوأ لقب عاصمة دولة لبنان الكبير في 1 سبتمبر/أيلول 1920، ومن ثم عاصمة الجمهورية اللبنانية في 23 مايو/أيار 1926.

من هنا، تظهر أهمية الكتاب في أنه يلقي الضوء على التطور الذي شهدته مدينة بيروت من النواحي الإجتماعية والصحية والمصرفية، وبخاصة بعد إعلان ولاية بيروت، كما يبين النشاط الإقتصادي والصحي والإجتماعي الذي قامت به المدينة ما جعلها تتبؤأ مركز الصدارة بين المدن العربية للحوض الشرقي للمتوسط وهيأ لها أن تكون المركز المالي والتجاري بعد نكبة فلسطين العام 1948، وإنتقال النشاط التجاري من مرفأ حيفا إلى مرفأ بيروت.

إن أهمية الدراسة تكمن في أن النظام المصرفي في لبنان يشكل نقطة الثقل في إقتصاده، كما نظامه الصحي، وتعتبر بيروت مركز النشاط المصرفي والصحي في لبنان، الأمر الذي يقتضي وضع دراسة عن بداية التطور الصحي والإقتصادي والمصرفي كما الإجتماعي الذي أصاب المدينة منذ إعتمادها مركزاً لولاية بيروت، الأمر الذي يمهد الطريق إلى إعداد دراسات أكثر تخصصاً. وتبدو أهمية هذه الدراسة أيضاً في أنها ستفتح المجال لدراسة تأثير الصراع الدولي القائم وقتها في تطور مدينة بيروت، ومن الممكن أن تفتح المجال أيضاً لدراسات أكثر تعمقاً لفهم الأهداف الفرنسية من وراء إختيار مدينة بيروت لكي تكون قبلة للمصالح الفرنسية في المنطقة.

وعن اختياره للموضوع، يقول الأستاذ الغول “ما دفعني لإختيار هذا الموضوع هو دافع شخصي نابع من إنتمائي لهذه المدينة ومحاولة لإستيضاح مراحل تطور المدينة وكيفية حصوله، والبحث في أسباب إختيار بيروت لتصبح هذا المركز التجاري المهم ومن ثم عاصمة لدولة لبنان الكبير ومن بعدها عاصمة للجهورية اللبنانية. كما دفعني لإختيار الموضوع أيضاً هو أن المدينة لم تأخذ حقها بالإهتمام ممن كتبوا تاريخ لبنان قبل دخول الحلفاء العام 1918، كما أن مجمل ما كتب عن بيروت لم يتطرق بالتفصيل إلى كيفية حصول التطور في تلك المرحلة، إنما بمجمله كان سرداً لوقائع وإستناداً إلى وثائق لم تتطرق بشكل واضح إلى مسألة التطور الذي أصاب المدينة من النواحي الإجتماعية والصحية والمصرفية، خاصة أن تلك المحاور الثلاثة تشكل نواة تكوين مجتمع إقتصادي تجاري وهو أساس التحول إلى مجتمع مدني متطور. جعل من بيروت أهم مدينة على الحوض الشرقي للمتوسط.”

هذا، ويستند الكتاب إلى العديد من المصادر الموثوقة والمهمة التي ساهمت – مع معلومات المؤلَّف – في اعطاء صورة جلية عن واقع بيروت في تلك الحقبة التاريخية المهمة.