تميّزت “قمة جدة للأمن والتنمية” بوضوح الرسائل التي اعلنها ولي عهد المملكة العربية السعودية، الأمير محمد بن سلمان، الذي تبنى رؤية مستقبلية لم تعهدها المنطقة فيما مضى، خاصة من الناحية الاقتصادية وبعث المشاريع التنموية لصالح حاضر الاجيال ومستقبلها الذي لم يعد مرتبطاً بتوجهات القوى الغربية وما كانت تفرضه من توافقات أمنية، خاصة مع الأوضاع العالمية المعاشة التي فرضت تباينا في المواقف والسياسات المعهودة في المنطقة، ليتضح جلياً أن القرار الخليجي قد توحّد – وفق المبادرة السعودية – في قمة جدة التي شارك فيها الرئيس الأميركي، جو بايدن، وقادة 9 دول عربية، والتي ستؤسس لعهد جديد من الشراكة بين دول المنطقة وعلى رأسها السعودية مع الولايات المتحدة.
وتتمثل الأهمية الاستراتيجية لهذه القمة في تأكيد المملكة على استقلالية وسيادة قرار دول المنطقة، كما أن القمة لم تغفل القضايا الإقليمية التي كانت حاضرة في جدة، بداية من فلسطين والمبادرة العربية لحل القضية، وكذلك ملف اليمن والحل الذي يجب أن يكون داخلياً بين اليمنيين أنفسهم، من جهة. من جهة أخرى، يمكن ملاحظة هدوء الخطاب السعودي تجاه ايران باستناد ولي العهد إلى روابط الثقافة والدين ليوجه ندءاً لطهران يدعوها للانخراط في الرؤية التنموية المعلنة لصالح المنطقة مع التأكيد على ضرورة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، دون إغفال الملف النووي الذي كان حاضراً بدعوة إيران إلى التعاون مع وكالة الطاقة الذرية.
فهل تحمل الدعوة في المقابل احترازات سعودية بخصوص التسليح وتفعيل بنود التوريد التي عطلها الرئيس بايدن قبل عامين؟ أم أن المملكة ستتوجه إلى اعتماد تنويع استراتيجي بالتعاون مع روسيا التي ظهرت مؤخراً كحليف موثوق وقوي في الخليج، وأسلحتها لها خاصية الردع الميداني وقدرة الدفاع الاقليمي، خاصة وأن موسكو لا تطمع في ثروات المنطقة ولا تطمح للتدخل في شؤون دولها؟ وهل تعمدت المملكة بقمتها وجمعها لقادة 9 دول عربية امام الولايات المتحدة الأمريكية لتقول نحن متحدون ومتفقون في أمورنا فلا تتدخلوا فيها والخيارات والبدائل ممكنة ومتاحة والعالم يجب أن يعلم بذلك وبشكل قاطع بأن التوازنات العالمية يجب ان تاخذ بعين الاعتبار مصالح المنطقة العربية؟
إقرأ أيضاً: كيف ستتغير الخريطة السياسية في الشرق الأوسط بعد المصالحة الخليجية؟
أيضاً، هل سيتأكد كل ذلك بالنظر لجرأة التوجهات السعودية تجاه أغلب التحديات الراهنة وما تبعها من طلبات القوى الغربية الملحة بالنسبة للطاقة في ظل تصاعد تبعات الازمة الأوكرانية؟ وهل حقق الرئيس بايدن مبتغاه من هذه القمة؟ أم أنه جاء لتقديم تنازلات سبقت وصوله للمملكة التي حازت مؤخراً على جزيرتي تيران وصنافير الاستراتيجيتين بانسحاب الجنود الأمريكيين وكل المراقبيين من هناك؟
بالرجوع لما قبل انعقاد القمة وما عرفته العلاقات السعودية – الأمريكية تحديداً من تحولات تطرقت لها تقارير إعلامية عربية وأمريكية، حيث تجدر الإشارة ان الرئيس الأمريكي لم ينتظر طويلاً حتى يقف أمام فشل تصوره وقصر نظره تجاه السعودية، كما أنه انتظر مدة أطول بكثير ليلتقي بالقيادة السعودية التي لم تستقبله في المطار كما كانت عادة استقبال الرؤساء الأمريكيين في المملكة، حيث استقبل الرئيس بايدن من طرف أمير منطقة مكة عكس القادة العرب الذين استقبلهم ولي العهد، وفي ذلك دلالات دبلوماسية تبين اهتمام المملكة بمكانة الدول العربية وبتوحيد الصف العربي وجعله في صالح المنطقة العربية عموماً، هذا من جهة، ولتعكس، من جهة أخرى، عدم اكتراث القيادة السعودية بما روّجت له بعض التقارير والأقاويل في بداية عهدة الرئيس الديموقراطي الذي توّعد بـ “معاقبة” المملكة، لكن في الواقع قد إنقلب الأمر على صاحبه، وجاء محتاجاً لها في ظروف عالمية أقل ما يقال عنها أنها حساسة وتعرف تحولات جيواستراتيجية، حيث توقعت الرياض وواشنطن 18 اتفاقية؛ وحسب بعض المواقع، فإن الدور الكبير في كل ذلك كان لكل من جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي، وبريت ماكغورك، منسق البيت الأبيض.
ومع إعلان المملكة عن رفع طاقتها الانتاجية إلى مستوى 13 مليون برميل من النفط يومياً، هل ستستقر اسعار النفط المرتبطة بضرورة الاستمرار في ضخ استثمارات بقطاع الطاقة المتجددة خاصة في ظل ما تشهده أسعار النفط الخام والغاز الطبيعي من مستويات مرتفعة بسبب زيادة حجم الطلب عالمياً ومحاولات الغرب فك الارتباط بمصادر الطاقة الروسية؟ هل ستكفي هذه الخطوة أم أن الازمات المتسارعة ومراوغات الدول الغربية لن تجدي نفعاً في ظل تفاقم أزمة أوكرانيا وتراجع الثقة بين الدول الغربية في حد ذاتها. فلقد وصلت الأمور لدرجة ان الكل أصبح يفكّر بشكل منفصل لصالح أمنه الطاقوي، ما عدا الولايات المتحدة لأنها المعني الأول وبشكل مباشر بصراع التحولات العالمية، وبما يحدث من تطورات على الساحة الأوكرانية، وما تدهور العملة الأوروبية وتراجع قيمتها أمام الدولار إلا ارهاصات للتحولات العالمية وتراجع تلاحم القوى الغربية بما يعزز فرضية البحث الذاتي لكل دولة غربية عن مصادرها الطاقوية بعيداً عن الضمانات الأمريكية ومساعيها الحثيثة في منطقة الخليج العربي، ولو على حساب تنازلات ملموسة ومعنوية لصالح المملكة، أما استقرار اسعار النفط والغاز فهو مرهون بتطورات الأحداث الأوكرانية وبما تقرره مجموعة “أوبك” ومقررات “أوبك+”.
إنها تحولات واضحة تستحق الاهتمام والتحليل لأن العالم الجديد ونظامه المتعثر في حاجة لقوى حقيقية قادرة على الأخذ بزمام المبادرة وجمع الدول وتوحيد صفها تحت راية المصلحة الملحّة لمستقبل المنطقة والعالم، بعيداً عن ازدواجية المعايير وما حملته من تدخلات سلبية في المنطقة العربية.
مصدر الصورة: روسيا اليوم.
عمار براهمية
كاتب وباحث – الجزائر.