خاص “سيتا”
رياض عيد*
كان ملفتاً بعد إعلان الرئيس الاميركي دونالد ترامب لإستراتيجيته الجديدة للأمن القومي سعي واشنطن إلى رفع التعصيد في ثلاثة مناطق استراتيجية حسّاسة تعتبرها روسيا نقاط صدام جيو-بوليتيكي لا تقبل اللعب بها.
الحرب في أوكرانيا
أعلنت الإدارة الأميركية بأنها ستعطي كييف سلاحاً فتاكاً كاسراً للتوازن، بالرغم من وعود الرئيس ترامب، سابقاً، بعدم التدخل في هذه الأزمة. هذا الإعلان أتى بعد أن كانت كندا قد أعلنت بدء توريد الأسلحة إلى سلطات كييف. وترافق هذا الإعلان مع تقارير منظمة التعاون والتنمية، التى تصدر تقاريرها أسبوعياً، إن مخزونات كبيرة من الأسلحة والصواريخ المضادة للدروع، التي مفترض أن تكون في المستودعات، قد اختفت. هذا الأمر، حدى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرد على هذا الإعلان عقب لقائه مع بعض العسكريين الروس، في 22 كانون الأول 2017، بالقول “هذه بلا شك استراتيجية هجومية إذا استعملنا اللغة الدبلوماسية، ولكن إذا استخدمنا اللغة العسكرية فقد يكون لهذا القرار طابع عدواني.”
يأتي هذا القرار في وقت تم الإعلان عن إرسال فريق “القبعات الزرق” بمهمة حماية ومراقبة الحدود بين الانفصاليين، في إقليم الدومباس، والجيش الأوكراني إضافة إلى حماية مراقبي منظمة التعاون والتنمية. مقابل ذلك اقترحت كل من أوكرانيا وواشنطن تفعيل اتفاقات أخرى تتمثل في الانسحاب الروسي من الجهة الأوكرانية والانسحاب الأوكراني من جانب إقليم الدومباس، هذه المقترحات جوبهت بالرفض من قبل الانفصاليين وروسيا، وهو ما يعني العودة إلى تصعيد الوضع العسكري وتجدد الاشتباكات والحرب الأهلية مجدداً بسبب تأثير الانسحاب على عمل اللجنة وقدرتها على مراقبة وقف وتسجيل وتوثيق الخروقات والانتهاكات لاتفاقية وقف النار، والتي يرى ىسكان إقليم الدومباس أنها ستتضاعف من الجهة الأوكرانية كبداية لعودة الحرب والدمار إلى أوكرانيا وإقليم الدومباس المصمم على الدفاع عن سكانه ضد هجمات الجيش الأوكراني مهما كان الثمن.
أما الخوف الكبير فهو أن أي هجوم واسع قد تقوم به كييف سيجبر موسكو على دخول الحرب لأنها لن تقبل بتشريع إبادة المواطنين الروس في “لوغانسك ودونتيسك” وفتح الحرب في حديقتها الخلفية. مما سيؤدي إلى اختفاء أوكرانيا عن الوجود “إن وقعت الحرب” وفق تعبير النائب في البرلمان الروسي فرانتس كلينتسيفيتش. وبالرغم من أن الإدارة الأميركية تتكلم عن سلاح للدفاع عن النفس، إلا أن الريبة الروسية الكبيرة، من الإجراء الأميركي، تمكن في الخوف من تتكرار التجربة السورية في أوكرانيا “لجهة إعطاء الأسلحة للمعارضة المعتدلة للدفاع عن النفس، ثم تقع في أيدي القوى التكفيرية التى ارتكبت المجازر بحق المدنيين”. هذا الخوف الروسي من تكرار المشهد يزداد مع الوجود الكبير للميليشيات النازية الجديدة التى لن تتورع في ارتكاب المجازر بحق المواطنين الروس كما فعلت في السابق.
قلب المشرق: سوريا والعراق
عادت الإدارة الأميركية لإحتلال المنطقة مجدداً بذريعة الحرب على “داعش”، التي أنشأتها هي لتكون أحد أدواتها في حروبها الناعمة لتفتيت المنطقة إلى دويلات إثنية عرقية، وضرب النفوذ الإيراني والروسي والصيني وإفشال مشاريعهم في هذه المنطقة المفتاحية في الصراع، والتي تشكل قلب العالم كونها نقطة التقاء ثلاثة قارات، وأقصر ممر لأنابيب الطاقة إلى أوروبا، وبوابة قارة آسيا على المتوسط، وأحد أهم الممرات لمشروع “القرن الصيني” لآسيا، ألآ وهو طريق الحرير والحزام الاقتصادي الصيني إلى ضفتي المتوسط.
في سوريا، بعد سقوط المناطق التي سيطر عليها داعش بأيدي الجيش العربي السوري وحلفائه في محور المقاومة بدعم وتغطية جوية روسية وبعد كسر الكثير من الخطوط الحمر التي رسمتها أميركا بوجه الجيش السوري وحلفائه لمنعه من إنهاء المعركة ضد التكفيريين، وبعد إعلان الرئيس بوتين انسحاب الكثير من القوات الروسية من سوريا لانتهاء مهماتها وتحرير أكثر من 90 % من مناطق سيطرة داعش، فاجأنا وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس بقوله إن القوات الأميركية لن تنسحب من سوريا محذراً الجيش السوري من شن أي هجوم على “قوات سوريا الديموقراطية” ذات الغالبية الكردية المدعومة من واشنطن والتي فرزت لها إدارة ترامب من ميزانيتها الجديدة مبلغ 500 مليون دولار كمساعدات تسليحية وتدريبية.
وقال في مؤتمر صحفي في البنتاغون، 30/12/2017، بأن “لدينا خط فاصل” بين المناطق التي يسيطر عليها حلفاء الولايات المتحدة في الشرق السوري، وتلك الخاضعة لسيطرة القوات الحكومية المدعومة من روسيا في الغرب، وأضاف متوعداً “سيكون من الخطأ، تجاوز هذا الخط”، جيث أكد أن مسؤولين أمريكيين سيذهبون إلى شرق سوريا لتنظيم شؤون نزع الألغام وإعادة الإعمار. وأضاف رداً على سؤال حول طبيعة الدور الأمريكي في سوريا، في 2018، “سترون مزيداً من الدبلوماسيين على الأرض”. وتابع أن مهمة العسكريين الأمريكيين الموجودين في سوريا هي “الانتقال من السيطرة على الأراضي إلى تأمين الاستقرار”، وإن “العسكريين سيؤمنون تحرك دبلوماسيينا وأمنهم”، علما أن للقوات الأميركية في مناطق الكرد 10 مطارات عسكرية معلنة.
وما تجدر الإشارة إليه هنا عدم توضيح السند القانوني الذي اعتمد عليه الوزير ماتيس لإرسال دبلوماسيين إلى سوريا، علما أن الرئيس السوري بشار الأسد قد سبق واعتبر الوجود الأميركي في سوريا هو احتلال، مطالباً تلك القوات بالانسحاب من كامل الأراضي السورية فوراً.
في العراق، زار وفد أميركي المسؤولين العراقيين قبل أشهر عدة، يونيو/حزيران 2017، ومع اقتراب بغداد من حسم انتصارها في معركة الموصل، وحين سأل مرجع سياسي عراقي كبير “ماذا تريدون منا؟” كان الرد الأميركي “نريد تحقيق نقطتين: الأولى، أن لا تتحول قوات الحشد الشعبي إلى قوات مماثلة لحزب الله اللبناني التي تلتزم بالأجندة الإيرانية في الصراع القائم في المنطقة. والثانية، زيادة عدد القواعد الأميركية وعديد قواتها وأماكن انتشارها في العراق، وتحديداً في وسط البلاد وغربها”، رافضين الانسحاب من العراق بعد تحريرها من داعش محاولين تغليف الاحتلال الأميركي الجديد للعراق بمسميات جديدة وعناوين مختلفة (تحالف دولي – مستشارون – شركات أمنية)
التركيز على إيران
تشهد طهران، منذ أيام، مظاهرات مناهضة للحكومة شارك فيها آلاف الأشخاص وبدأت من مدينة مشهد، التي تعد مركزاً دينياً مهماً في البلاد، لتتوسع لاحقا إلى العاصمة طهران ومدن إيرانية أخرى تندد بالغلاء والفساد والسياسات الحكومية، وتردي الأوضاع الاقتصادية في عهد الرئيس حسن روحاني.
أقرت القيادة الإيرانية بأحقية مطالب المتظاهرين، حيث طلب المرشد الأعلى للثورة السيد علي خامنئي من الجيش الإيراني والحرس الثوري عدم التصدي للمتظاهرين المحتجين على الأحوال المعيشية والحياتية الصعبة التي يعيشها الشعب، وارتفاع الأسعار الناتجة من العقوبات الأميركية القاسية التي فرضت على إيران والتي شملت أي شركة، في العالم، تتعامل مع إيران. إن قانون العقوبات، الذي أقره الكونغرس الأميركي وأقره ونشره الرئيس ترامب، جاء فيه أن أي شركة في العالم تقوم بالاستثمار في إيران، لن يكون لها الحق في أي عمل تجاري أو مالي مع المصارف الأميركية أو بيع بضائعها، بل يتم فرض عقوبات أميركية عليها وتتم محاصرتها. ولذلك، بعدما كانت أوروبا قد قررت استثمار حوالي 450 مليار دولار في غيران، بعد توقيع الاتفاق النووي، توقفت بسبب العقوبات الأميركية ومُنعت 27 دولة أوروبية من التعاطي مع إيران، كذلك أوقفت استثمارات يابانية وكورية جنوبية وأندونيسية وهندية وصينية عملها، إضافة إلى شركات تركية وآسيوية أخرى.
إضافة إلى الوضع المعيشي والحياتي الصعب الذي يعيشه الشعب الإيراني، بسبب العقوبات، جاءت مسألة انخفاض سعر البترول من 77 دولاراً إلى 42 دولاراً للبرميل ليزيد الأزمة تفاقماً. فإيران، التي كانت تنتج في السابق 6 ملايين برميل نفط يومياً، تنتج حالياً مليونين ونصف مليون برميل، وهي كانت على وشك توقيع اتفاق لإنتاج 4 ملايين برميل سنة 2018، و6 ملايين برميل سنة 2019، لكن الشركات الأوروبية توقفت عن توقيع الاتفاقات بسبب العقوبات الأميركية. لذلك، تعمل وزارة النفط الإيرانية، عبر خبراء إيرانيين وآخرين من روسيا، على زيادة القدرة الإنتاجية لتصدير النفط من مليوني برميل ونصف إلى 4 ملايين سنة 2018 بمساعدة شركات روسيا، وهذا يعطي إيران مدخولاً مالياً يقدر بقيمة 23 مليار دولار، مما يعطي الخزينة الإيرانية القدرة على إلغاء ضرائب ودعم منتجات حياتية لتخفيض الأسعار، كما سيفتح المجال لإنشاء المصانع، والانطلاق بالمشاريع الزراعية المتقدمة، مما يؤمن فرص عمل لحوالي 12 مليون إيراني في مجالات الصناعة والخدمات والزراعة، ويخفض من نسبة البطالة المتفاقمة.
لكن التظاهرات خرجت عن سلميتها، بتحريك من الخارج، وتدخلت عبرها قوى مدسوسة أحرقت مراكز الشرطة وأطلقت النار على المتظاهرين والشرطة معاً حيث أعلنت وزارة الأمن والمخابرات اعتقال العديد من “المخربين ومثيري الفوضى والشغب” أثناء المظاهرات، الذين بلغ عددهم حوالي 400 شخص.
لقد اعتادت إيران على مواجهة امتحانات داخلية، كل عدة سنوات، لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية، تماماً كحال الهزات الطبيعية والزلازل التي “تزورها” كل فترة. وتنبع أرضية هذه الأحداث من توترات تخلقها نقاط ضعف في مشاريع التنمية، أو تعرض شريحة اجتماعية لما تراه تهميشاً، أو بسبب إشكالات سياسية بين التيارات الناشطة. لكن الداخل الإيراني حيوي في التعبير عن نفسه، بالرغم من أنه يلامس أحياناً مناطق الخطر في التعبير عن مطالبه.
تدرك القيادة الإيرانية ان امتصاص المشاكل الداخلية يتطلب معالجة متعددة الأوجه، فإن وجود إيران على “فوالق سياسية” متحركة وساخنة وسط منطقة تعصف بها الزلازل الجيو-سياسية من جميع الاتجاهات، مع الأخذ في الاعتبار الدور الاستثنائي والكبير الذي تلعبه في تحدي الهيمنة الأميركية والصهيونية وحلفائهما، يجعل منها هدفاً مثالياً للتصويب. وما كشفه الكثير من المسؤولين الأميركيين بتغريداتهم على تويتر ومواقع التواصل الاجتماعي لجهة ضرورة دعم المتظاهرين وتوجيههم لتقويض النظام، وتحديداً مطالبة سفيرة الولايات المتحدة في مجلس الأمن نيكي هيلي والسفير السابق جون بولتون السعودية وإسرائيل بدعم المتظاهرين بالمال وتوجيههم لأن هدف تغيير النظام الإيراني يجب أن يبقى هدف أميركا وحلفائها. وما كشفته وسائل إعلام إسرائيلية، أخيراً عن تشكيل أميركا وإسرائيل لـ 4 طواقم عمل هدفها “وقف النشاطات الإيرانية في المنطقة”، يوضح بعضاً مما يحاك لإيران من أجل إضعافها واسقاطها.
عام 2009، بادرت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، إلى الاستثمار في الأزمة الانتخابية لتحض الإيرانيين على تغيير النظام، مخصصة مبالغ مالية كبيرة لتعزيز حضور “منصات ناعمة” مثل تويتر باتجاه إيران. وإذا كانت إدارة أوباما لم تتمكن من تحقيق نتائج تذكر لهذا الاستثمار السياسي واضطرت لاحقاً إلى الاعتراف بقوة النظام الإيراني وتوقيع الاتفاق النووي معه، فإن تعامل الرئيس ترامب مع الأزمة الراهنة، وتغريداته هو ونتنياهو أعطت نتائج سلبية ووحدت التيارين في إيران، قد لا يكون أوفر حظاً، خصوصاً انه لا يتمتع بـ “الخصائص الناعمة” التي كانت إدارة اوباما تغلف نفسها بها. هذا إضافة إلى الوعي الوطني والقومي للتيارات السياسية الإيرانية بأن ما يجري هو مؤامرة مبرمجة ومنسقة لتقويض أسس الدولة الدولة الإيرانية من الداخل، ما جعل التيار الأصولي المحافظ يضع خلافاته مع حكومة روحاني جانباً ويتحد مع الإصلاحيين لمواجهة الخطر الخارجي الذي يستهدف رأس الثورة، مع تحميلهم حكومة روحاني مسؤولية الأزمة الاقتصادية بسبب رهاناتها على الاستثمارات الخارجية بعد توقيع الاتفاق النووي.
الصراع على البوابات الثلاث
تمثل هذه المناطق الثلاث، أوكرانيا – سوريا والعراق – إيران، بوابات أوراسيا إلى المياه الدافئة ونقاط صدام جيو-بوليتيكي حاكمة على حافة اليابسة (Rime Land) التي تعتبرها روسيا خط الدفاع الأول عن أمنها القومي.
إن أوكرانيا بإستراتيجية روسيا “الأوراسية” هي البوابة الأولى لروسيا إلى المياه الدافئة عبر أوروبا، وهي نقطة عبور أنابيب الغاز الروسية إليها. أما القرم، وتحديداً ميناء سيفاستوبل، فهي مركز أسطول البحر الأسود الروسي والتي دونها تصبح روسيا دولة حبيسة غرباً. يدرك الحلف الأطلسي وأميركا أن الرئيس بوتين يعلم أن الغزاة عبر التاريخ تمكنوا من مهاجمة روسيا خلال السنوات الـ 500 الماضية مراراً وتكراراً عبر الساحة الأوكرانية، فعبرها هجم البولنديون على روسيا في العام 1605، وعبرها أيضاً جاء السويديون، بقيادة تشارلز الثاني عشر في العام 1707، والفرنسيون بقيادة نابليون في عام 1812، وعبرها أيضاً هاجم الألمان روسيا مرتين في كلا الحربين العالميتين 1914 و1941.
الآن، تحاول أميركا إعادة توريط أوكرانيا بنفس سيناريو 2014، الذي أدى إلى سلخ منطقة القرم عنها وضمها إلى روسيا ومطالبة إقليم الدومباس بالاستقلال عن أوكرانيا بعد استفتاء صوت 92% من سكان الإقليم لصالح الاستقلال، بهدف ضمها إلى الحلف الأطلسي كي يصبح الحلف على تخوم موسكو. وهذا ما لن تسمح به روسيا حتى ولو أدى الأمر لإشعال حرب كونية جديدة، فلقد أوجدت روسيا بدائل عن أوكرانيا لنقل غازها إلى أوروبا عبر خطي السيل الشمالي عبر ألمانيا، وخط السيل الأزرق عبر تركيا، كما ضمت القرم إليها، وهذا ما تريده من أوكرانيا التي دخلت في أزمة داخلية واقتصادية لا تستطيع الخروج منها حتى بمساعدة الاتحاد الأوروبي. فلماذا تدفع أميركا والأطلسي أوكرانيا وأوروبا إلى سيناريو حافة الهاوية مع موسكو؟
أما سوريا، ففيها “مفاتيح” موسكو، وفق وصية الملكة كاترينا وبطرس الأكبر، بحكم موقع سوريا الجيو-ستراتيجي الحاكم بين ثلاث قارات ونقطة تقاطع طرق مواصلات برية وجوية وطاقوية. وسوريا، أيضاً، هي بوابة طريق الحرير الصينية على المتوسط. وميناء طرطوس السوري هو الميناء الوحيد لروسيا خارج روسيا وفي المياه الدافئة، وهذا الميناء مع قاعدة حميميم ووجود منصات الـ “اس.400” فيها، تستطيع تعطيل عمل قاعدة انجرليك وبالتالي دور تركيا الدولة الأهم في الحلف الأطلسي، حيث تصبح أنقرة محكومة بالتفاهم مع موسكو لأنها مطوقة بالقواعد الروسية في ارمينيا والبحر الأسود وسوريا.
بعد اكتشاف الغاز، أصبحت سوريا شريكاً مهما لموسكو، لا منافساً لها في سوق الغاز الأهم لروسيا، في أوروبا. لكل هذا، دخلت روسيا الحرب في سوريا بترسانتها العسكرية البحرية والجوية والبرية، فسحقت القوى التكفيرية، بمساندة الجيش العربي السوري ومحور المقاومة، ومنعت سقوط سوريا وتقسيمها، وحمتها بـ 9 فيتوات في مجلس الأمن، وأفشلت مشاريع أميركا والأطلسي في المشرق، وأطلقت حواراً سياسياً بين المعارضة والنظام لإنضاج تسوية سياسية تضمن استقرار سوريا ومستقبلها. ودعت أميركا لكي تكون شريكاً بالحل، لكن واشنطن استمرت بالعرقلة، عبر حمايتها لداعش ونقلهم بطوافاتها، واحتلالها مناطق الكرد، والتلاعب بهم وانشاء “الجيش السوري الجديد”، الذي بلغ تعداده نحو 30 ألف جندي من الكرد والتكفيرين، لتعطيل الحل السياسي ووحدة سوريا وتقويض حكم الرئيس الأسد، الرئيس الشرعي والمنتخب لسوريا.
تدرك أميركا أنها فشلت في الهيمنة على سوريا والعراق وأن وجودها في المنطقة بات مسالة وقت بعدما احترقت كل أوراقها بما فيها ورقة الكرد الأخيرة. فلماذا تصر أميركا على الإبقاء على وجودها العسكري المعطل للحل؟
عن إيران، يقول الفيلسوف الروسي وزعيم “حركة أوراسيا”، الكسندر دوغين الملقب بـ “رأس بوتين”، خلال حوار اجرته معه وكالة أنباء “بارس تودي” أكد فيه أن التحالف بين طهران وموسكو هو أولوية بالنسبة للقوة الأوراسية الموحدة، إذ تتمتع ايران بمكانة خاصة في الساحة الاستراتيجية حيث تمنح المساحة المناسبة لأوراسيا للحفاظ على استقلالها عن طريق المحيط الأطسي. وأضاف دوغين أن بإمكان العلاقة الإيرانية – الروسية أن تتطور إلى مستوى أهم تحالف موجود بل ينبغي عليها ذلك، لتتمكن إيران من الدفاع عن نفسها ضد القوى الامبریالية في الغرب، وفي الوقت نفسه السماح لروسيا بالانضمام إلى المياه الدافئة التي كانت دائماً الهدف الرئيسي لسياستها الخارجية. إن العلاقات الإيرانية – الروسية تأتي في الدرجة الأولى وتجسد نوعاً من التقارب لإقامة أوراسيا قوية ومستقلة. وأضاف دوغين أن إيران يمكن أن تلعب دوراً رئيسياً في منظمة شانغهاي للتعاون، فإيران ليست مجرد قوة في المنطقة، بل يمكن أن تكون نواة أو قلب هذه المنظمة، لأن تحالف إيران مع روسيا يمكن أن يكون أهم تحالف في النظام الأوراسي بأسره.
إن إيران، بموقعها الجيو ستراتيجي الهام جداً في وسط آسيا، تمثل البوابة الثالثة لروسيا إلى المياه الدافئة خارج سيطرة الأطلسي، كما تمثل أيضاً نقطة عبور الزامية لطريق الحرير والحزام الاقتصادي الصيني إلى أوروبا والمتوسط، وأقرب ممر لنقل غاز وبترول بحر قزوين إلى الهند والمحيط الهادي ومنه إلى بقية العالم. لقد ازدادت أهمية هذا الموقع بعد الاتفاق الهندي – الروسي – الإيراني على انشاء “ممر شمال – جنوب” الذي يصل سان بطرسبورغ بمدينة بمومباي، عاصمة الهند، مروراً بإيران عبر قناة ضخمة تصل بحر قزوين بميناء بندر عباس ومنه إلى الهند. وبالتالي، باتت إيران تمثل حاجة ضرورية للأمن الاقتصادي والطاقوي الصيني والهندي والروسي.
لقد أثبتت إيران، رغم الحصار الأميركي الخانق عليها منذ ثورتها عام 1979، بأنها قادرة على تحدي الحصار وباتت دولة إقليمية عظمة قارعت أميركا وحلفائها وهزمتهم في الهلال الخصيب، كما باتت تشكل نقطة ارتكاز في استراتيجية أوراسيا الروسية – الصينية في المشرق، وبالتالي لن تسمح روسيا وحلفائها، الصين والهند ومنظمة شنغهاي، بتقويض استقرارها. فلماذا تبقي أميركا سيفها مسلطاً بوجه إيران؟ الجواب: لتطويعها واحتوائها.
لقد أكد الرئيس ترامب عند إعلانه استراتيجية أميركا الجديدة للأمن القومي بأن “أميركا دخلت عصراً جديداً من النتافس، سواء طاب لنا ذلك أم لا” وبأن “العالم بأكمله يشهد الآن مواجهات عسكرية واقتصادية وسياسية، بسبب تنامي تأثير روسيا والصين (المنافسين الجيو-ستراتيجين الرئيسيين) للخصائص الجيو-سياسية لأميركا على الساحة الدولية”، ولأنهما تحاولان تغيير النظام الدولي لصالحهما.
ردت روسيا والصين على هذه الإعلان بأنه يمثل عودة لأجواء الحرب الباردة، لا بل قرع لطبول الحرب، وبأن أميركا تحاول إعادة عقارب الزمن إلى الوراء وترفض الإقرار بالمتغيرات الكبيرة التي حدثت على الساحة الدولية، والتي تسعى روسيا والصين إلى ترسيخها عبر إقامة نظام عالمي جديد عنوانه الشراكة والتنمية لتأمين المصالح المشتركة والأمن والاستقرار.
لقد عاد الجيو-بوليتيك يتحكم بإستراتيجية الدولة العميقة في أميركا، والتي بدورها أحكمت السيطرة على سياسة أميركا الخارجية. من هنا، يلعب مجلس الأمن القومي، الذي يتحكم به جنرالات صقور يكنون العداء الكبير لروسيا والصين وإيران، دوراً كبيراً في دفع العلاقات (الأميركية – الروسية – الصينية – الإيرانية) إلى التأزم ودفعها إلى حافة الهاوية، بالإضافة إلى دورالمجتمع الصهيوني المسيحي والمسيحيين الإنجيليين الذين يمثلون أغلبية قاعدة ترامب الانتخابية، من خلال التأثير على سياسة ترامب الخارجية.
كل هذه القوى ترفض الإقرار بأن “القرن الأميركي” قد انتهى، والنظام العالمي الأحادي القطب قد ولّى، ولم تعد أميركا قادرة على التحكم منفردة بمصير العالم بسبب وضعها الاقتصادي المتردي والتراجع الكبير لدورها على الساحة الدولية، وانفكاك حلفائها عنها. لذلك، تسعى هذه القوى إلى دفع ترامب “المتهور” والمفتون بـ “عنجهية القوة” إلى إعادة تأجيج الصراع في بؤر التوتر الجيو-ستراتيجية أعلاه، والتي تعتبرها روسيا خطوطاً حمر تتعلق بأمنها القومي، في محاولة أميركة مستميتة ويائسة لتعديل نتائج الصراع لمصلحتها في هذه المناطق الثلاث يترتب على ضوئها، حال حسم الصراع عليها، عدد من النقاط، أبرزها:
أولاً، نتائج المعركة الجيو-بوليتيكية الفاصلة بين استراتيجية قوى البر، الممثلة بأوراسيا وومنظمة شنغهاي للأمن والتعاون وحلفائهما، وبين استراتيجية قوى البحر، الممثلة بأميركا والأطلسي وحلفائهما.
ثانياً، مصير الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي ودورهما في التوازنات الدولية الجديدة.
ثالثاً، مصير روسيا الاتحادية وعودتها كي تكون دولة عظمة تقارع أميركا من موقع الندية على مسرح الصراع الدولي.
رابعاً، حسم المعركة العالمية على الطاقة ومساراتها ونوع العملة التي ستتم التسعير على أساساها.
خامساً، شكل النظام العالمي الجديد والقوى الحاكمة فية، وشكل المؤسسات التي ستنبثق عنه، والنمط الجديد للعلاقات الدولية التي سيرسيها هذا النظام.
سادساً، “مشروع القرن” الذي أعلن عنه الرئيس الصيني، شي جين بينغ، المتمثل بطريق الحرير والجزام الاقتصادي، هذا الجسر البري العظيم الذي يسعى لدمج أوراسيا، من خلال استثمار ضخم بقيمة تريليون دولار أميركي في البنية الأساسية يمتد من الصين إلى أوروبا، مع امتدادات إلى جنوب شرق آسيا وشرق أفريقيا، والذي تشكل البلدان الخمسة والستين المشاركة فيه ثلثي كتلة اليابسة على كوكب الأرض وتضم نحو أربعة مليارات ونصف المليار من البشر، بحيث سيتحدد نمط العلاقة بين الولايات المتحدة والصين اللتين لديهما الفرصة لتحقيق مكاسب كبيرة من التعاون في مجموعة متنوعة من القضايا مثل الاستقرار النقدي، وتغير المناخ، والقواعد التي تحكم الفضاء السيبراني، ومكافحة الإرهاب. لكن السؤال الأكثر صعوبة هو ما إذا كانت الولايات المتحدة، بإدارتها الحالية، مستعدة وقادرة على تحقيق الآمال المعلقة عليها أم لا.
*باحث في مركز سيتا
مصدر الصور: روسيا الآن – سبوتنيك – روسيا اليوم – defenseworld.net