علوان أمين الدين**

تشكّل استراتيجية إدارة “المدن الضخمة” تحدّياً كبيراً، في الدول العظمى والكبرى تحديداً، من عدّة جوانب ونواحي، لا سيما من الناحية الأمنية، في حال حدوث أي عمل أمني ما، إذ عليها أن تكون جاهزة لأي طارئ من خلال خطط معدّة مسبقاً. فبعدما أصبحت بعض العواصم، الإدارية والتجارية، للكثير من الدول، الكبرى والصناعية، تحتوي على كثافة سكانية عالية، بات من المهم دراسة هذه الظاهرة.

من هنا، تشير بعض التقارير إلى تأثر المدن ذات الكثافة السكانية العالية، بمجموعة متنوعة من التهديدات، التي يجب إيجاد تنظيم معين لمنعها الكبيرة منها والصغيرة أو التصدي لها، مثل الحوادث التقليدية كالكوارث الطبيعية أو التكنولوجية.(1)

ومن أجل حصر الموضوع، يتطرّق هذا البحث إلى الشق الأمني فقط إذ أن الدراسات الحديثة تشير إلى عدد من القضايا المهمة، مثل التلوث البيئي، وإدارة النفايات، وإدارة الخدمات، والاكتظاظ السكاني، وغيرها من الأمور المهمة الأخرى.

“ميغا سيتيز – Mega Cities

تصنف بعض الدراسات الحديثة المدن على أساس أنها “ضخمة” بالنسبة لعدد السكان الموجودين فيها بالتحديد، حيث يتغير التصنيف مع مرور الوقت بحسب نسب الزيادة. لتوضيح ذلك، تعتبر المدينة “ضخمة” عندما يصل عدد سكانها حدود الـ 10 مليون شخص، وما فوق، في حين كانت تصنف سابقاً كذلك عند وصول العدد فيها إلى 3.5 مليون شخص.(2) غير أن اللافت هنا عدم قيام التقسيم على قاعدة المساحة، بل على عدد السكان لأنه العنصر الأهم، وهو مقياس منطقي.

لمعرفة المزيد عنها، تشير إحدى الدراسات إلى أن هذه المدن تشكل 2٪ من مساحة سطح الأرض، ولكنها تستخدم 75٪ من الموارد.(3) للتوضيح أكثر، هناك 40 مدينة ضخمة تحتوي على حوالي 300 مليون شخص، وتستأثر بـ 40% من الموارد، و18% من الناتج المحلي، كما تنتج حوالي 10% من مجموع الانبعاثات الكربونية.(4)  نتيجة لذلك، فإن مثل هذه المدن تشعر بالقلق إزاء أبعاد رئيسية ثلاثة:

  • البعد الاجتماعي (مثل: التنوع الثقافي، والتعليم، والفن، والظروف المعيشية، والنقل، والأمن، والرعاية الصحية، والابتكار، الخ)

  • البعد الاقتصادي (مثل: العمل والبطالة الجماعية، وتحسين البنية التحتية، والتكنولوجيات الجديدة، واللامركزية، وإعادة تقسيم الثروة، والمعدات الرأسمالية، الخ)

  • البعد الإیکولوجي (مثل: مصادر الطاقة، التنمیة المستدامة، تلوث الھواء والماء، تلوث الضوضاء، ازدحام المرور، إمدادات المیاه، الزحف العمراني، البیئة الحضریة الحماية، النقل العام، إدارة النفايات، الخ).(5)

  • البعد الاستراتيجي (الأمن، الحماية، الخ)، وهو بُعد أضفناه وسنتطرق له بالتفصيل.

 ومن أبرز الأمثلة على هذه المدن، بيكين (الصين) 21.5 مليون، شنغهاي (الصين) 24.15 مليون، ديلهي (الهند) 19 مليون، مومباي (الهند) 19 مليون، اسطنبول (تركيا) 15 مليون، موسكو (روسيا) 12 مليون، لاجوس (نيجيريا) 21 مليون، وغيرها من المدن غير أن هذا العدد لا يشمل حركة الانتقال اليومية للوافدين. فعلى سبيل المثال، تشير التقديرات بأن عدد سكان القاهرة (مصر) المقيمين يصل إلى حوالي 10 مليون شخص، لكن هناك ما يقارب الـ 7 ملايين يدخلون اليها ويخرجون منها يومياً للعمل، أو لإجراء معاملات، أو غيرها، وهذا الأمر يسري على الكثير من العواصم العالمية، الادارية والتجارية.

تحديات حقيقية

لا شك أن إدارة مدن بهذا الحجم قد يشكل تحدٍ كبير للقيادتين السياسية والأمنية، بالتحديد، في البلاد لجهة احتواء وإدارة الأزمات التي تنتج من جراء حدثٍ ما، سواء طبيعي أم بشري. ومن بعض تلك الأحداث:

  1. الكوارث الطبيعية، كالحرائق الضخمة أو الزلازل المدمرة او ثوران البراكين، حيث يستتبع على تلك الدول المعرضة لمثل هذه الحوادث، ويمكن معرفة ذلك من تاريخها كالحرائق السنوية في غابات كاليفورنيا، وإيجاد خطط معينة لإجلاء السكان.

  1. العمليات الحربية خصوصاً وأن العالم اليوم يشهد تجاذباً كبيراً بين القوة الكبرى لجهة إعادة إنتاج الأسلحة النووية الذكية، والتي تستطيع أن تقتل عدداً كبيراً من الناس في لحظات، وما يتطلبه الموضوع من إيجاد الملاجئ الخاصة للحد من، ولا نستطيع القول لمنع، وقوع الكثير من الخسائر البشرية، إضافة إلى القدرة على معالجة هذه الآثار في حال وقوعها وهي تحدٍ كبير أيضاً قد يوازي الحدث نفسه. على سبيل المثال، وخلال زيارة لي، تجبر السلطات السويسرية أصحاب البيوت، عند إنشائها، على إقامة ملجأ يتسع لعدد من السكان، يوازي قاطني المبنى نفسه، كي يستطيع حمايتهم من أية اعتداءات حربية، بما فيها النووية.

  1. أصبح الإرهاب من أهم التحديات التي تواجه المدن الكبرى حيث تشهد، وقد تشهد، الكثير منها اعتداءات كبيرة لا سيما مع تطوير العناصر الإرهابية لعملياتها وطرق عملها، والحديث عن قدرة بعض تلك المنظمات من استخدام المواد الكيماوية والبيولوجية، والبعض يقول المشعة، من أجل تنفيذ اعتداءاتها.

  1. تأثير ما يسمى بـ “العشوائيات” والتي عادة ما تضم الكثير من عناصر الطبقة الفقيرة، بحيث تشكل “خاصرة رخوة” قد تكون سبباً في زيادة الهواجس الأمنية في تلك المدن، خصوصاً وأنها كثيراً ما تحتوي على مناطق “مقفلة” على أجهزة الدولة نفسها، وبالتالي تشكل بؤرة جرمية ذات مضار حقيقية.

  1. لا شك بأن التقسيمات الديموغرافية، لا سيما تلك القائمة على الإثنية أو العرقية أو الدينية، داخل المدن الضخمة تشكل خطراً أمنياً حقيقياً عليها بحيث تكون تربة خصبة لخلق وتفعيل الأزمات، وهو ما يظهر جلياً من خلال دراسة أسباب انتشار ظاهرة الإرهاب حيث تثبت قيام رابط بين هذه الظاهرة والديموغرافيا بشكل وثيق. ضمن نفس الموضوع، يمكن ملاحظة مسألة مهمة يطلق عليها مصطلح “ترييف المدينة” أي إقامة كانتونات داخل تلك المدن، ومن أبرز الأمثلة عليها ما يعرف بـ “القرية الصينية” أو “China Town” والتي تتواجد في عدد كبير من الدول والمدن الكبرى أو حتى التجمعات الخاصة بأصحاب البشرة السمراء. إن مثل هذه المنظومة قد تكون من الأمور التي تشكل ضغطاً، إن لم نقل خطراً، على الأمن في حال تفلتها خصوصاً لجهة الجريمة المنظمة، كتجارة السلاح أو المخدرات.

  1. الموقع الجغرافي للمدن الكبرى يلعب دوراً مهماً في مسألة التحديات الأمنية. فعلى سبيل المثال، تعتبر المدن الضخمة الساحلية أكثر تعرضاً للخطر من سواها “الحبيسة”، أي الداخلية، حيث يعتبر البحر، في حال عدم وجود مراقبة كافية من قبل خفر السواحل، عنصراً من عناصر التهديد الأمني الجدي بحيث يجعل المدينة مفتوحة بشكل أم بآخر. إضافة إلى ما سبق، يوجد نوع ثالث من المدن الضخمة التي يمر فيها نهر أو مجرى مائي، كشنغهاي وباريس والقاهرة واسطنبول، وهو ما قد يشكل خطراً أمنياً عليها في حال عدم وجود قوات متخصصة لمراقبة وحماية هذه الأنهار أو المجاري.

من خلال ما سبق، ينتج عن هذه الأحداث عدد من المشكلات الأساسية، ويمكن القول الحيوية أو المصيرية، خصوصاً عندما لا تكون الخطط الموضوعة على مستوى الحدث نفسه. ومن أبرز هذه الآثار:

  1. معوقات عمليات الإخلاء إذ لجهة التحضيرات اللوجستية أم لجهة المناطق الآمنة التي يجب نقل السكان إليها خصوصاً في حال وقوع حدث كبير، كالقصف بالأسلحة النووية.

  1. انتشار الفوضى بين المواطنين، ولهذه الفوضى تأثيرات كبيرة قد تزيد من حالات فقدان الأرواح، إذ يرى بعض الخبراء بأنه يجب النظر للموضوع على نطاق أوسع لا سيما في مجالي السلامة والأمن وذلك من ناحيتين:

(أ) يجب إعطاء الوكالات والمسؤولون عن التعامل مع الزلازل والحرائق وانقطاع التيار الكهربائي وأعمال الشغب نفس التسهيلات والقدرات اللازمة للتصدي للإرهاب.

(ب) أن هذا النهج يسمح بجهد معقول ومستدام.(6)

  1. انتشار الجرائم، لا سيما السرقات وأعمال العنف، خصوصاً خلال وبعد وقوع الأحداث حيث تشير بعض الإحصاءات إلى أن الجريمة المنظمة، بما في ذلك العصابات المسلحة، هي أكبر تحدٍ، بنسبة 36%، فيما يأتي بعدها الإرهاب بنسبة 18%.(7)

خلاصة هذه الفقرة، هناك موضوع يجب إيضاحه بأن بعض الأحداث قد تتداخل فيما بينها، الجريمة مع الإرهاب على سبيل المثال، وليس بالضروري أن تقوم كل واحدة على حدا، غير أن متطلبات البحث تستوجب تفنيدها من أجل إيصال الفكرة بشكل واضح ودقيق.

حلول رئيسية

بعد عرض المشكلات التي تواجه المدن الضخمة، وجب الانتقال إلى وضع ومعرفة بعض الحلول التي قد تسهم في منع، أو على أقل تقدير مواجهة الأحداث المهمة والمصيرية حال وقوعها خصوصاً إذا ما تطرقنا إلى المستجدات العالمية وما تحمله من مخاطر جمّة على الكثير من المستويات والصُعد، وأبرزها:

  1. وجود أجهزة دولة متخصصة تستطيع إدارة الأزمات من خلال خطط مدروسة ومعدّة سلفاً تحاكي الكثير من السيناريوهات التي قد تطرحها الأزمة خصوصاً مع عدم وجود نهج شامل وواضح لهذه التهديدات، حيث يرى بعض المختصين الأمنيين بأن الأسباب الكامنة وراء الجريمة هي من خارج نطاق اختصاصهم. ورداً على مسألة أفضل السُبل، التي يمكن للقيّمين على أمن المدن الضخمة، لمعالجة القضايا الأمنية فإن الإجابة الأكثر شعبية هي توظيف مختصين إضافيين وانفاذ القانون (نبسة 28%) في المرتبتين الأولى والثانية، والتأهب والتخطيط الأفضل في المرتبة الثالثة بنسبة 17٪.(8)

  1. من المفيد تقسيم هذه المدن الكبرى إلى مناطق إدارية على غرار باريس، مثلاُ، المقسمة الى 20 منطقة لها بلدياتها وخدماتها الأخرى بدون أن تكون معزولة عن الإدارة الأساسية لباريس ككل، وهو ما يعطي فكرة واضحة عن كيفية وضع خطة جدية لتوزيع الخدمات والقوى بحسب عدد سكان كل منطقة، بإستثناء المناطق التي تتواجد فيها السفارات على سبيل المثال وبغض النظر عن عدد قاطنيها، من أجل حفظ الأمن والاستقرار.

  1. معالجة أسباب النزوح لجهة اعتماد خطط الإنماء المتوازن للمناطق بالرغم من أن مسألة الفقر والبطالة والقضايا الاجتماعية قد حلت في المرتبة الأخيرة من بعض الاحصاءات (اذ تشير بعض الاحصاءات إلى زيادة التركيز على التهديدات نفسها بدلاً من الأسباب الكامنة وراءها. فلقد حلت الجريمة في المرتبة الأولى بنسبة 24%، وضعف انفاذ القانون أو عدم الكفاءة بنسبة 15%، وسوء التخطيط/إدارة المدن بنسبة 10%، والإرهاب بنسبة 9%، والكوارث الطبيعية بنسبة 9% ايضاً).(9) فعلى سبيل المثال، نصت الفقرة (ز) من مقدمة الدستور اللبناني على مسألة الإنماء المتوازن لجهة تثبيت السكان وإنماء المناطق البعيدة (Remote Areas) وذلك نظراً لأهمية المسألة وحساسيتها وانعكاسها على الاستقرار العام وبالتالي الناتج المحلي، بطريقة غير مباشرة، حيث يندرج تحتها توفير التعليم، الذي يرفع من مستوى الإنتاج والثقافة، وتأمين الحاجات الأساسية من مقومات العيش عبر إنشاء المنشآت الصناعية والتجارية. هذا البند بالذات، كان في صميم التخطيط الاستراتيجي الصيني فيما يخص إقليم شينجيانغ من خلال سياسة الإنماء بتمرير “طريق الحرير” البري منه كمنفذ تجاري ضخم يصل الصين بالغرب ويكون مقدمة لازدهار الإقليم ككل ورفع المستوى الاجتماعي فيه من جميع النواحي.

  1. توزيع النشاط من أجل التخفيف عن كاهل تلك المدن، لا سيما العواصم، من خلال بناء مدن إدارية جديدة تخفف من عبء الضغط الحاصل، وهو ما قامت به مصر عبر إنشاء “العاصمة الإدارية”، في منطقة قريبة من العاصمة القاهرة، التي ستضم فيها كافة المجمعات الرسمية قيام بعض الدول ببناء مدينة خدمات لتخفيف الضغط السكاني (القاهرة الجديدة ونقل المجمعات الإدارية إلى تلك المنطقة للتخفيف من دخول وخروج السكان). إضافة إلى ذلك، عمدت الكثير من الدول إلى إنشاء “الحكومة الالكترونية” بحيث يستطع المواطن إجراء أغلب معاملاته الضرورية من خلف الشاشة من دون الحاجة إلى التواجد شخصياً في الدوائر الحكومية.

خاتمة

لا شك بأن هذا الموضوع سيكون أحد أهم التحديات المستقبلية الجدية أمام الدول الكبرى لجهة تثبيت “هيبتها” ومكانتها على الصعيد العالمي بحيث سيكون سوء إداراتها للأزمة نقطة سوداء في سجلّها. وهنا يمكن استحضار مثال بارز على الموضوع يتمثل في كارثة نيو أورليانز التي ضربها إعصار “كاترينا” الشهير وعجز السلطات الأمريكية، المحلية والمركزية، عن إدارتها وهو ما انعكس سلباً على صورة واشنطن في العالم في تلك الفترة.

*شكر خاص للإعلامي الأستاذ سركيس أبو زيد والخبير الإستراتيجي العميد الياس فرحات على المعلومات والملاحظات القيمة التي قدموها لإغناء البحث.

**مؤسس ومدير مركز “سيتا”

المراجع:

(1) أنظر:

Lewis M. Branscomb. No date. Safety and Security in Megacities. Harvard University. (retrieved on 2/3/2018) from: http://bit.ly/2FeGUmq

(2) أنظر:

Mega Cities. Jan 2013. EURAMET – European Association of National Metrology Institutes. P: 1.

(3) أنظر:

Mega Cities.  EURAMET – European Association of National Metrology Institutes. Op. cit. P: 1.

(4) أنظر:

Ibid.

(5) أنظر:

Ibidem.

(6) أنظر:

Lewis M. Branscomb. Safety and Security in Megacities. Op. cit.

(7) أنظر:

J Egelhof. No date. Megacity Challenges: A stakeholder perspective. Siemens. P: 51. (retrieved on 2/3/2018) from: http://sie.ag/2oCgWzH

(8) أنظر:

J Egelhof. No date. Megacity Challenges: A stakeholder perspective.  Op. cit. P: 52 – 53.

(9) أنظر:

Ibid.

مصدر الصور: ITU – الجزيرة – airway.uol.com.br.