منذ فترة وجيزة، قرأت مقالة لكاتب فرنسيّ يدعى ألكسندر راسين – Alexandre Racine، سأل فيها: من هي الدّولة الأحب للفرنسيين؟ ولماذا؟ – Quel est le pays que la France aime le plus ? Pourquoi؟

تلقّى كاتب السّؤال العديد من الأجوبة. فتّشتُ بينها لأجد إسم لبنان – الذي تربطه بفرنسا علاقات تمتدّ لألف عام – فلم أجد أحداً يشير إليه. كلّهم أشاروا إلى دول أوروبيّة. واحد فقط أشار إلى المكسيك. لا عجب. بل العجب في أن نستمرّ بالإعتقاد أنّ لبنان موجود أصلاً في الوعي العام للشباب والناشئة في دول العالم.

ربّما لو كان هؤلاء يعرفون لبنان وعلاقاته التاريخية مع فرنسا والغرب، ودوره الحضاري في العالم، لتبدّل الأمر. لكنّهم يجهلون كلّ شيء عنه. لبنان – بالنّسبة إلى شبيبة الغرب – هو البلد الذي يأوي جماعات إرهابية شاركت في خطف الفرنسيّين والغربيّين، وفي قتلهم. فيه سياسيّون فاسدون، سرقوا أموال المكلّف الفرنسي أو الأميركي أو الخليجي. فيه قبل كل شيء، شعب عنيد يقدّم نفسه رخيصاً للموت بحجّة الدّفاع عن الكرامة؛ لذلك، يكفي لقاداتهم – في فرنسا أو أميركا أو روسيا – أن يزرعوا فيهم وفي عقولهم المكان الذي تكمن فيه كراماتهم.

هذا هو دور قادة الإستعمار وسارقي ثروات الشعوب لتنعم شعوبهم بالرّفاه، وقد وجدوا ذلك سهلاً جداً. ففي لبنان، كما في معظم الدول النامية، الدين والطّائفة وزعيم القبيلة هم الكرامة. كلّ شيء إلا الوطن. فالوطن – بالنسبة للشّعب اللبناني – هو حالة إسميّة. أما بالنسبة إلى غلاة الطوائف، فهو الطائفة بامتدادها الإقليمي أو الدولي. أما بالنّسبة لغلاة الفكر الإيديولوجي، فهو المحيط الجغرافي، سواء ما يسمّى بالمحيط العربي، أو بالمحيط السوري الكبير.

وعليه، كان من السهل جداً تشتيت اللبنانيين في رسم مفاهيم الكرامة على هذا الأساس، فتحوّل عنادهم وبأسهم إلى صراعات داخلية يستمتع الخارج بها، ويزداد شراسة في إشعالها وتذكيتها. ما أهون التّجييش الطائفي. وما أهون شراء ذمم زعماء القبائل. وما أهون رفع الشّعارات القومية. فالصعوبة تبقى فقط عندما تسعى إلى شراء أناس آمنوا بالوطن حصناً لكراماتهم. هؤلاء لا يسعون إلى رخاء كاذب أو أمن خادع، بل يبحثون عن أمن دائم ورخاء مستدام ودور كريم بين الشعوب.

مطلبنا كالتالي:
– نريد مرشّحين يؤمنون بلبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه، دون أيّ تمييز في الدين أو المنطقة أو الطائفة.
– نريد مرشّحين يؤمنون بلبنان بلداً صديقاً لكلّ الشعوب، بلداً مسالماً كما كان عليه دائماً تاريخنا الطويل، لكنّه عنيد في الدّفاع عن حقوقه المشروعة، وفي مواجهة كلّ من تسوّل له نفسه تدنيس حرمة ترابه الوطني، أو سرقة ذرّة من ترابه أو قطرة من مياهه الإقليمية والداخلية، أو التدخّل في شؤونه الداخلية، أو الإساءة لصورته حول العالم.
– لا للإحتلال الإسرائيلي لأيّة بقعة من لبنان. لا للتدخّل الإيراني، لا للتدخّل السوري أو العربي أو الأجنبي في شؤون لبنان. لا للتّفاوض على أيّة حقوق وطنية مهما كانت الظروف والأسباب.

كيف السبيل إلى ذلك؟

أن يتبنّى المرشّح الوطني هذه الفقرة في برنامجه: “إحترام دستور لبنان، والتّطبيق الكامل لإتّفاق الطّائف. فلبنان وطن سيّد حرّ ومستقلّ. وطن نهائيّ لجميع أبنائه. واحد أرضاً وشعباً ومؤسّسات في حدوده المنصوص عليها في الدّستور، والمعترف بها دوليّاً. هو عربيّ الهويّة والإنتماء، وهو عضو مؤسّس وعامل في جامعة الدّول العربيّة، وملتزم مواثيقها، كما هو عضو مؤسّس وعامل في هيئة الأمم المتّحدة وملتزم مواثيقها.”

أسئلة.. وأجوبة

السؤال الأول: ينصّ الدّستور على أنّ لبنان “عربيّ الهويّة والإنتماء. وهو عضو مؤسّس وعامل في جامعة الدّول العربية وملتزم مواثيقها”. فكيف يمكن للبنان أن يدافع عن القضايا العربيّة من دون التورّط بخلاف مع الدّول الأخرى في العالم، وخاصة الدول الكبرى؟

إقرأ أيضاً: التمثيل الطائفي في النظام السياسي اللبناني.. النشأة وآفاق الحلول

جواب: نعم، على لبنان الإلتزام بالعمل وبحسن نيّة بالإلتزامات التي اتّخذها على عاتقه وفقاً لميثاق جامعة الدول العربيّة. لكنّ ميثاق الجامعة نصّ على أنّ “التّعاون بين الدّول الأعضاء في الجامعة، يجب أن يضمن صيانة استقلال كلّ منها وسيادتها ومنع التّدخل في شؤونها الداخليّة.”

وعليه، ليس ملزماً بلبنان تحويل أراضيه إلى ساحة للحروب من أجل العرب، ولا من أجل غيرهم. لبنان يلتزم بالدّفاع عن القضايا العادلة والمشروعة المشتركة للدّول العربية، وخاصة القضيّة الفلسطينيّة، شرط أن يتمّ ذلك وفقاً لقواعد القانون الدولي. فلبنان لا يجب أن يتدخّل في الشّأن الفلسطيني إلّا بمقدار ما تفرضه مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدّولي والقرارات الصادرة عن الأمم المتّحدة، ولا سيما القرارين 242 لعام 1967، و338 لعام 1973. الشعب الفلسطيني هو صاحب الحقّ في تقرير مصيره، وصياغة قراراته المتعلّقة بمستقبله.

السؤال الثاني: ينص الدّستور، أيضاً، على أنّ لبنان هو عضو مؤسّس وعامل في هيئة الأمم المتّحدة، وملتزم بمواثيقها. فكيف يمكن الإلتزام بهذه المواثيق في ظلّ الإنتهاكات الإسرائيليّة المستمرّة لها في لبنان؟

جواب: لا يجوز الإحتجاج بالإنتهاكات الإسرائيليّة بغية تبرير عدم التقيّد بمواثيق الأمم المتّحدة، وخاصة في حالتنا كدولة صغيرة. يجب الإلتزام بالعمل، ولكن بحسن نيّة فعلاً، لتنفيذ كافّة الإلتزامات التي أخذها لبنان على عاتقه وفقا لميثاق الأمم المتّحدة، وخاصة كافّة القرارات التي اتّخذها مجلس الأمن بشأن لبنان. وعلينا أن نبدأ أولّا بالإلتزام بإتّفاقية الهدنة لعام 1949، وصولاً إلى القرار 1701 لعام 2006. يجب أن ندرك أنّ لبنان هو الذي أخلّ بموجباته المنصوص عليها في إتّفاقية الهدنة عندما وقّع، ولو مكرها، على إتّفاقية القاهرة “المشؤومة” لعام 1969، فسمح بالتّالي، بإستخدام أراضيه لانطلاق العمليات العسكرية الفلسطينية ضدّ إسرائيل. هذه الحروب هي التي أدّت إلى تحويل لبنان ساحة لحروب كلّ العرب والقوى الدولية تحت هذا العنوان. لقد تمّ إلغاء إتّفاقيّة القاهرة؛ بالتالي، من الضروري إزالة كلّ المظاهر الأخرى التي تخالف موجباتنا وفقاً لإتّفاقية الهدنة، كي يمكن للبنان مطالبة مجلس الأمن فرض هذه الإتّفاقية على إسرائيل وغيرها.

السؤال الثالث: هل يفرض إلتزام لبنان بإتّفاقية الهدنة توقيع إتّفاق سلام مع إسرائيل، أو إقامة تطبيع بينهما؟

جواب: لا طبعاً. على العكس، فإنّ إتّفاقية الهدنة تحمي لبنان من أيّة ضغوط لهذا الغرض. إتّفاقية الهدنة تقوم على أساس المادّة 40 من الفصل السابع من الميثاق. وتُعتبر إجراء إنتقالي ملزم من دون أيّ تأثير على مطالبهما ومواقفهما من أساس المشكلة، وهدفها فقط هو وقف الأعمال الحربية بينهما. لبنان يلتزم مبدئيّاً بما تقرّره الدّول العربية، وفي إطار جامعة الدّول العربية، بشأن السّلام مع إسرائيل، شرط أن لا يهدّد ذلك وحدته الوطنية. لبنان بلد ديمقراطيّ ويحترم إرادة شعبه التي يُفترض أن يتمّ التّعبير عنها في “مجلس الشيوخ” وفقاً لأحكام الدستور. لبنان يلتزم حتى الآن خطّة السّلام مع إسرائيل المعتمدة خلال مؤتمر القمّة للدول الأعضاء في جامعة الدّول العربية، المنعقد في بيروت – العام 2002، والمستندة بدورها إلى قرارات الأمم المتّحدة ذات الصّلة.

السؤال الرابع: هل يمكن أن تنفّذ إسرائيل إتّفاق الهدنة فعلاً، وهي تسعى إلى وضع اليد على النفط والغاز في بلادنا؟

جواب: يهمّ إسرائيل أن لا يتمّ تنفيذ إتّفاق الهدنة. وهي حاولت دائماً التملّص منه. لكنّ إسرائيل لم تستطع إتّخاذ موقف مخالف لإرادة المجتمع الدّولي. على المقلب اللبناني، يبدو أن هناك جهات سياسية تعلن وتمنع تطبيق هذا الإتّفاق بحجة عدم الإعتراف بإسرائيل كدولة، في حين أن الأخيرة تستثمر هذا الأمر لمصالحها وأهدافها.

إقرأ أيضاً: لبنان يحسم ملف التفاوض على الحدود البحرية: الخط 29 وإلّا..

فمن خلال مشاهداتي العملية، رأيت أن هناك موقفاً مزدوجاً لبعض مكونات المقاومة. فمن جهة، يمنع هذا البعض تطبيق إتّفاق الهدنة للأسباب التي أشرت إليها سابقاً. ومن جهة أخرى، يمارس – عمليّاً – الإعتراف بإسرائيل بطريق غير مباشر. أبرز مثال على ذلك هو القبول بترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وهو ما يعني – بحسب القواعد والأعراف الدولية – الإعتراف واقعياً بوجود دولة إسمها إسرائيل. فلماذا هذا الرفض حيال تطبيق إتفاق آخر هو “إتّفاقية الهدنة” التي ترسّم الحدود البريّة بين الجهتين؟

أيضاً، يراودني تساؤل آخر. لقد سبق لهذا البعض الالتزام بقرار مجلس الأمن رقم 1701، وقام بوضع إطار للتفاوض بين لبنان وإسرائيل بشأن ترسيم الحدود البحرية من خارج هذا القرار، حيث تم ترسيم الإطار للمفاوضات بحسب الخطّ الأزرق – بين الجانبين – متجاهلة الحدود المعترف بها دولياً، ممّا يعرّض لبنان لخسارة مساحات من أراضيه الوطنية سواء برّاً أو بحراً. فلماذا هذا التناقض بالمواقف؟

السؤال الخامس: لقد فشل “إتفاق الطائف” في تحقيق التّغيير المنشود في البلاد. ألا يجب النّظر في مؤتمر تأسيسيّ جديد لوضع اتّفاق آخر بين البنانيين؟

جواب: لا، لم يفشل “إتفاق الطائف”، بل تمّ وقف العمل به. يجب تنفيذ بنوده كاملةً قبل الحكم عليه. كما يجب أن نتذكّر بأنّ قرار مجلس الأمن 1701، نصّ صراحة على وجوب “التّطبيق الكامل لهذا الإتّفاق”.

مصدر الصور: إندبندنت عربية – الميادين.

د. هشام حمدان

كاتب وباحث / سفير سابق في المكسيك والأرجنتين – لبنان