الجزائر مُقْدمة على استحقاقات انتخابية هامة، لكن هل ستكون كسابقتها من حيث التحديات التي عرفتها البلاد آنذاك وما فرضته من تحولات ألقت بظلالها على الساحة السياسية؟
بطبيعة الحال لا يمكن الاجابة على هذا السؤال دون التطرق لما عايشته الجزائر قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة العام 2019 من تطورات جاءت كتتويج لمحطات حاسمة في تاريخها المعاصر، حيث تميزت بحراك بلغ اوجه في المدنية والسلمية وعرف سقفاً عالياً من المطالب السياسية، ورفعت فيه شعارات مختلفة، لكن في مجملها صبت في خانة حب الوطن والرغبة في تحقيق تحول سياسي يتناسب مع رؤية مجتمع رفض الفساد جملة وتفصيلا،
كما تأكد للعدو قبل الصديق وللخارج من داخل الوطن وبجاليته في المهجر بأن الجزائر لحمة واحدة وهي فعلاً عصية عن كيد الأعداء بقوة تلاحم شعبها مع أهم مؤسسة دستورية متمثلة في الجيش الوطني الشعبي، الذي كان وسيظل سداً منيعاً ضد كل محاولات المساس بأمن الجزائر، بقطعه الطريق أمام تجار الفتن، حين رمى بثقله ومكانته العالية في الوجدان الشعبي، فدافع مرة أخرى عن حرية الشعب الجزائري كما كان جيش التحرير بالأمس القريب، كما حرصت مؤسسة الجيش ومختلف أجهزته على حماية مظاهرات شعبية كانت مليونية دامت لأشهر دون أن تقع فيها قطرة دم واحدة، لينسجم الشعب بمسؤوليته ووعيه مع احترافية جيشه وأمنه، بدفاع مستميت عن سلطة الشعب، وإقراره لحقه في المطالبة بإنهاء مفهوم العهدات الرئاسية المفتوحة ورفضه لما عرفته الجزائر حينها من تراجع كبير في مستوى الممارسة السياسية للسلطة بالدستورية المطلوبة والضامنة للشفافية.
تبع ذلك تراجع مفهوم دولة المؤسسات والقانون مقابل تنامي كبير لظاهرة المحيط الفاسد المعطل للتنمية والمرسخ للاستمرارية السلبية المناقضة لتطلعات مستحقة تعطلت بسبب بعض الذين سولت لهم أنفسهم لعب أدوار رجعية على حساب الوطن والشعب لأجل بقاء المصالح والحسابات الأنانية، التي لم تقدم شيئاً ما عدا فتحها لابواب المجهول بكيفية كانت ستغرق الجزائر – لا سمح الله – في مخاطر محدقة بامنها واستقرارها، لكن بنات الجزائر وأبنائها المخلصين لم يترددوا في تحمل مسؤولياتهم ففوتوا على اعدائها فرصة التلاعب باستقرارها وأمنها، بحنكة سياسية وصلابة جبهة داخلية ضد مروجي الفتن وعرابيها من الذين لهم حسابات موجهة لإعتماد مداخل الفتنة والتحريض لفرض منطق الفوضى وكل ما هو ضد الاستقرار، وذلك بمحاولات فاشلة تجلت حينها بفكرة المراحل الانتقالية وشعار لا للانتخابات.
لكن بالرغم من كل ذلك، لم تكتفي الجزائر بتجاوز هذه المخاطر بل برهنت للعالم بأسره بأن شعبها له من الوعي ما يكفي ليضيف لسجله الحافل بالبطولات صفحة أخرى ناصعة ومشرفة في تاريخه النضالي، عنوانها السيادة الوطنية بتلاحم الجبهة الداخلية، التي رفضت أي تلاعب بمستقبل الجزائر، فكانت الانتخابات الرئاسية التي مكنت الرئيس عبد المجيد تبون من تولي زمام الأمور لتكون البداية باقتراحه مناقشة دستور جديد أصر فيه على إشراك المجتمع من خلال قواه الحية ونخبه المدنية، وأهم ما ميز هذا الدستور تسقيف العهدات الانتخابية بعهدتيه، وجعل ذلك في مواده الصماء غير القابلة للتعديل، بالاضافة للكثير من الترتيبات الضرورية لصالح ثوابت الأمة وثقافتها الضاربة في التاريخ لغلق الباب في وجه العابثين بالهوية، كما تجلى التحدي الكبير الذي عرفته الجزائر في مساعي تحقيق نمو اقتصادي يليق بمقدراتها وثرواتها ويلبي طموحات شعبها، لتتحرك الدولة بمؤسساتها وبحركية تسارعت وتيرتها لحد تسليط الضوء من اعلى هرم السلطة على الحياة اليومية للمواطن خاصة مستويات معيشته وحماية قدرته الشرائية ومحاربة مختلف الممارسات الاستغلالية من احكتار او تخزين ومضاربة غير عادلة وانتهازية في السلع والمواد الاستهلاكية خاصة الأساسية منها، وبمستوى اهتمام سجلته مختلف الاجتماعات الوزارية، كما كانت أيضا البرامج المبنية على التحفيز والتسهيل بالنسبة للاستثمار وترقيته ومحاربة البيروقراطية ومختلف مظاهرها باعتماد سبل أكثر كفاءة وفاعلية بداية بالشباك الموحد ووصولا للرقمنة ومختلف المنصات الالكترونية.
كل ذلك كان من التوجهات المؤكدة التي لا يمكن لأحد ان ينكرها او يتجاوزها، كما كانت الفترة الأخيرة مليئة بالالتزامات الاجتماعية حيث التزم الرئيس تبون بسياسة متوازنة بمدلول أكثر اجتماعية إن لم نقل انه رجح كفة هذه الاخيرة لصالح انعكاسات اقتصادية ايجابية ولو مستقبلية، على غرار منحة البطالة وزيادات معتبرة في الأجور مست مختلف الفئات والشرائح العمالية، كما كانت للعلاقات الخارجية نصيبها من الاهتمام بالتركيز على تمام السيادة الوطنية في مختلف المعاملات السياسية والاقتصادية بل كانت للجزائر خيارات قوية باستخدامها لاوراق اقتصادية ضاغطة لصالح مبادئها وقيمها باقرار التزامها بالمواثيق الأممية وتعهداتها حتى في الحالات المعقدة اقليميا ودوليا، لتعلو بسمو شأنها بين الأمم بثبات مواقفها في عالم يعيش تقلبات وتجاذبات خطيرة، كما اتقنت الجزائر سياسة ضبط النفس أمام استفزازات كانت مغرضة وموجهة من أعدائها، الذين اخرجتهم “من جحورهم” وجعلتهم يظهرون للعلن حين فضحت تورطهم في محاولاتهم البائسة ضد امنها وسيادتها، وهنا قد يطول الحديث عن المكاسب التي تحتاج للتثمين، لكن هل حقاً تجاوزت الجزائر تحدياتها السياسية خاصة ما تعلق بالذين يحبون اظهار المساندة لتكريس منطق التقرب عسى أن يتيح لهم ذلك فرص الاستفادة من المناصب وامتيازاتها وما يتبع ذلك من واقع ارهق كل متابع ومهتم بالشأن السياسي؟ وهل نضجت النخبة السياسية لتتمكن من اعتماد برامجها الحزبية القادرة على طرح منافسة انتخابية تضمن توازنا منتجا للديمقراطية الحقيقية؟ هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، لماذا يستمر مفهوم التسابق للمساندة المبنية على تغليب التملق على حساب الكفاءة؟ وهل نالت هذه الأخيرة فرصتها الحقيقية في تدعيم قاطرة النهوض بالجزائر؟
كلها أسئِلة تستحق نقاشاً مستفيضاً بعيداً عن مزايدات البعض بالمساندة الظاهرية خاصة وأن منهم من كان متردداً في فترة الحراك وحتى بعده تحديداً اؤلائك الذين يبحثون عن الامتيازات الذاتية حتى وإن تناقضت مع المقتضيات الوطنية، وهي معضلة اغلب الأوطان التي تعاني من تراجع دور الكفاءات خصوصا تلك التي ابانت مواقف وطنية صادقة غير انتهازية.
مصدر الصورة: إندبندنت عربية.
إقرأ أيضاً: عواقب التدخل العسكري في النيجر على أمن الجزائر
أ.د عمار براهمية
كاتب وباحث – الجزائر