حسين الموسوي*
ما بین یونیو/حزیران 1994 ویونیو/حزیران 2018، حوالي ربع قرن من العلاقات المتوترة والثقة المفقودة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية. منذ لقاء جيمي كارتر (ممثلاً لإدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون حينها) وكيم إيل سونغ، مؤسس كوريا الشمالية، إلى لقاء دونالد ترامب، اليوم، وكيم جونغ أون تبلورت خلفيات ووجهات نظر مختلفة قد تكون اللاعب الاساسي في رسم ملامح المرحلة المقبلة بين البلدين.
خلال زيارته إلى كوريا الشمالية، توجه المبعوث جيمي كارتر إلى الدبلوماسيين المرافقين له قائلاً “لم تخبروني بما يجب أن افعله، لم تخبروني أن كيم ايل سونغ يريد الاحترام وسأمنحه الاحترام.”
إذا ما أردنا البدء بهذه النقطة، فإن “الاحترام” لم يبدو واضحاً في لقاء ترامب – كيم. للتفصيل قليلاً، إن المختصين بلغة الجسد يؤكدون لأن الرئيس ترامب كان يتصرف مع كيم بـ “غرور وقلة تقدير”، بينما في مواضع أخرى تعامل الزعيم الكوري الشمالي معه على قاعدة “لو لم أكن قوياً، لما قبلت لقائي”.
من هنا، يمكن القول إن “الحب للسلام” لم يكن محرك اللقاء في سنغافوره، وإن العوامل التي دفعت الرجلين لقبول عقد القمة تتخطى الأسباب الخاصة بسياسات كل من البلدين، إذ لا يمكن القبول بإستبعاد اللاعبين الروسي والصيني من المشهد.
لم تكن خافية نوايا الولايات المتحدة وتهديداتها بتوجيه ضربة ضد كوريا الشمالية من كلام الرئيس ترامب، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى صريحات مندوبته في المنظمة الدولية، السفيرة نيكي هايلي. لكن بناء على أسلوب الرئيس الأميركي، فإن المفاجآت تبدو الطاغية على ساحة القرار السياسي في واشنطن. مصادر في البيت الأبيض تكشف أن الأمر لم يستغرق كثيراً كي يقرر الرئيس الموافقة على لقاء كيم حيث أخبر المبعوث الكوري الجنوبي، تشانغ ايو يونغ (مستشار الامن القومي لسيول)، أنه موافق على اللقاء وطلب من تشانغ إعلان ذلك أمام الكاميرات.
خلفيات هذه الموافقة السريعة يضعها المطلعون في خانة الرؤية الخاصة بترامب. فهم يعتبرون أنه ينظر إلى المكاسب التي يمكنه تحقيقها على المدى القريب وربما أبرزها تعزيز الصورة التي حرص على وضع نفسه فيها منذ البداية أي مناهضة كل ما قام به سلفه، الرئيس باراك أوباما؛ إضافة إلى مناهضة كل ما يسعى الديمقراطيون للقيام به. فأوباما نصح ترامب، في الخلوة التي سبقت تنصيب الأخير، بأن ملف كوريا الشمالية قد يكون التحدي الأصعب أمام ولايته، وعليه فإن الرئيس الأميركي يريد إثبات أنه استطاع حل “المعضلة” الكورية بسهولة لم يكن ليتخيلها أوباما نفسه.
إضافة إلى ذلك، يضيف المطلعون أن استحقاق الانتخابات النصفية يلقي بثقله على قرارات البيت الأبيض وتوجهات الدولة الخفية، او “The Establishment”، حيث يسعى ترامب إلى تحقيق إنجاز يبدو وحيداً على مستوى السياسية الخارجية لاستثماره لدى الشارع واستقطاب أصوات الناخبين، في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وتجنب تمضية السنتين المتبقيتين من ولايته تحت رحمة أكثرية ديمقراطية تخطط منذ الآن لسيناريوهات “تقليم أظافر” الرئيس في حال حصولها على أغلبية ضمن الكونغرس.
أما فيما يتعلق بخلفيات بيونغ يانغ، يبدو أنه من الصعب الحكم بشكل قاطع على دوافع الموقف المغاير لتصريحاتها وتجاربها الصاروخية. فهناك شبه إجماع على أن كيم جونغ أون ليس بالزعيم البسيط الذي يمكن خداعه بسهولة، كما أن قبوله بعقد القمة والرسالة التي بعثها إلى واشنطن، بعد إعلان ترامب إلغاء القمة، يوحيان بأن هناك أبعاد تتخطى حدود بيونغ يانغ.
من هنا، تبرز العوامل الخارجية التي ساهمت بعقد القمة. فقد كانت ملفتة الزيارات التي قام بها كيم جونغ أون إلى الصين فيما يشبه “الاستدعاء” من قبل بكين، النظام الذي يدين لها بالكثير، وبعدها زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى كوريا الشمالية.
هذه الزيارات واللقاءات تشير إلى أن انعقاد القمة أتى تحت رعاية صينية، بالمقام الأول، وروسية وهي نفس الرعاية التي منحت للقاء كيم جونغ أون والرئيس الكوري الجنوبي، مون جي ان، عند الحدود بين الكوريتين وقبلها زيارة وفد رفيع المستوى من سيول إلى بيونغ يانغ. وعليه، لا بد من الإشارة إلى أن المصالح الصينية، ومن خلفها الروسية، هي التي حددت مسار قمة سنغافورة حيث لا يمكن اعتبار أن واشنطن تعاطت مع القمة على أنها “بين ندين” بل على مع طرف يمثل خصمين تعتبرهما المؤسسة السياسية الأميركية “الخطر الأكبر” عليها عسكرياً واقتصادياً، وهما الصين وروسيا.
أما معطيات الموقف الصيني فلا تنفصل عن رغبة بكين في قطع الطريق أمام مساعي ترامب لخلق أزمة معها، قد تتجاوز البعد الاقتصادي رغم خطورته. وبالتالي، لا بد من إغلاق ملف بيونغ يانغ دون تسليم كافة مفاتيحه إلى واشنطن، وما يترتب على ذلك من إغلاق الباب أمام مواجهة قد تغرق منطقة بحر الصين الجنوبي بمواجهة مدمرة، الصين بغنى عنها.
أما روسيا، فهي لا تريد رؤية درع صاروخية أخرى “مزروعة” بالقرب من حدودها، كما أنها لا تحبذ فكرة اتساع رقعة النفوذ الأميركي من جهة الشرق أو الجنوب الشرقي حيث يمكن أن تستخدم واشنطن هكذا توسع من أجل الضغط على موسكو في ملفات أخرى، كالملفين السوري والإيراني بشقيه العسكري والنووي.
كل ما سبق لا يُخفي العامل الكوري الشمالي الذي يتمثل، تحديداً، بإمتلاكه سلاحاً نووياً يشكل تهديداً لخصومه وعلى رأسهم الولايات المتحدة بالرغم من أن هذا العامل كان تحت إشراف وتحكُّم الصين، نوعاً ما، التي شكلت عامل ضمانة، في أوقات سابقة، محوره “عدم تخطي هذا التهديد الحدود المسموح بها”. وعليه، يمكن وضع قمة سنغافورة في إطار “المغامرة” التي يبدو فيها “قبول” الطرفين على خوضها ليس على أساس السلام بقدر ما هي على أساس تحييد خطر الطرف الآخر، الأمر الذي سيسمح بالتركيز على أخطار أهم وأكبر.
يضاف إلى ذلك كله، الغموض الذي يكتنف الاتفاقات المعلنة في القمة والأبعاد غير المكتملة في تصريحات ما قبل، وأثناء، وما بعد القمة؛ إلى جانب التجارب السابقة بين الطرفين والتي لا تشجع على التسليم بنتائج القمة رغم تصريحات ترامب والتأييد الذي حصلت عليه من قبل الصين وروسيا والجاني الأوروبي.
من هنا، يجدر التساؤل حول مصير هذا التفاهم في ظل العديد من المعطيات:
1. هل يريد ترامب تحقيق “نصر دبلوماسي” خارجي على غرار ما حققه الرئيس السابق، باراك أوباما، في ملف كوبا والتفاهم التاريخي الذي تم بين البلدين منهياً خصومة عمرها عقود من الزمن؟
2. هل يهدف ترامب إلى توظيف هذا الحدث داخلياً بعد الفشل الكبير في تشكيل إدارته وما تواجهه من استقالات متتالية ومستمرة؟ وحرف النظر عن الكثير من الملفات التي تفتح في وجهه، كالتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية؟
3. هل سينتهي “مفعول” الصفقة بعد سيطرة الجمهوريين على أغلبية مقاعد الكونغرس؟
4. هل سيصمد الاتفاق، خصوصاً مع وقوف دولتين كبيرتين خلف الزعيم الكوري وهما الصين وروسيا، على عكس الملف النووي الإيراني الذي يعتبر، في جزء كبير منه، ورقة “ابتزاز” في وجه دول الخليج من أجل “استدرار” الأموال من خزائنها، وهو ما لا يمكن القيام به مع بكين وموسكو؟
5. ماذا لو عادت واشنطن إلى سياسة “الابتزاز” خاصة وأن وزير خارجيتها، مايك بومبيو، أكد أن رفع العقوبات عن بيونغ يانغ لن يحصل إلا بعد الاطلاع على كل تفاصيل البرنامج النووي الخاص بها ومن ثم تفكيكه بشكل كامل؟
6. ارتباطاً طُرح أعلاه، هل يعني هذا أن واشنطن ستصر على تفكيك البرنامج النووي العسكري لكيم جونغ أون أم أن طموحها يطال البرنامج السلمي للطاقة النووية خوفاً من إعادة تطويره مستقبلاً (على غرار ما تهدد به طهران اليوم بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق)؟ وماذا لو رفضت الأخيرة هذا الطرح؟
7. هل استطاعت الصين وروسيا، عملياً، نزع فتيل الأزمة في شبه الجزيرة الكورية؟ أم أن “جنون” ترامب قد يعيد الحالة إلى سابقاتها بل حتى إلى أسوأ ما كانت عليه؟
بإنتظار اتضاح ما إذا كانت “قمة سنغافوره” ستُترجم تفاهماتها على الأرض، تبقى حقيقة أن كيم جونغ أون ليس “معمر القذافي”، الذي قدم كل عناصر قوته للغرب، ولن يسلم الورقة الأهم والأقوى التي يمتلكها بين يديه، أي القدرات النووية؛ إضافة إلى حقيقة الانطباع السلبي الذي تركه انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، وفوق ذلك كله ارتهان الملف ككل بمسار المصالح الصينية والروسية.
في ظل وجود رئيسين مصابين بـ “جنون العظمة”، ترتفع أسهم الرأي القائل بأن قمة ترامب – كيم “صنعت التاريخ”.. لكن ليس بالضرورة أن يكون تاريخاً جيداً.
*باحث لبناني_ باحث زميل
مصدر الصور: سبوتنيك.