د. هشام حمدان*
عندما أتذكر الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، ودوره التاريخي، أعرف كم كنا نذهب في الأحلام، وكم كانت تأخذنا مشاعرنا القومية والوطنية والأخلاقية والنبيلة إلى درجة أننا وضعنا وطننا وأنفسنا على طاولة المراهنة، وجعلنا من أرضنا وبيوتنا وقوداً لنيران القيم والمبادئ والمشاعر التي كانت مسكونة في أعماقنا.
بعضنا تعلق بكمال جنبلاط، الذي شكّل جسرنا اللبناني إلى هذه القيم والمبادئ، وآخرون تعلقوا بفكر أنطون سعاده، الذي كان نبعاً يسقينا بفكره فكراً قومياً أوسع رغم وحدة المبادئ والقيم والمشاعر، وآخرون ذهبوا إلى الأممية بفكرهم الماركسي العالمي.
وحدتنا المبادىء والقيم والمشاعر، ودمرتنا العصبية والتعصب، وما زالت. خسرنا كل شيء. خسرنا العالم، خسرنا العروبة، خسرنا الهلال الخصيب. ظل لنا الوطن ويبدو أننا نخسره. كل ذلك بسبب العصبية والتعصب. لقد عادت العصبية إلى منبعها، أي المنبع الطائفي. كنا نعتقد أننا تجاوزنا بفكرنا كلنا هذه المشكلة، لكن عدونا كان أذكى منا. أذكى بكثير.
عاد بنا سريعاً إلى عصبية موروثة رضعناها مع حليب أمهاتنا، والتي منحتنا منذ ولادتنا هويتنا الطائفية من دون إستئذان. هي كانت مثلنا ضحية، من أرضعها مثل ذلك الحليب؟ كلنا ضحية ونحن لا نريد أن نعترف. أنظر اليوم كيف نجد كل المبررات لنحافظ على هذه العصبية.
صارت العالمية الملحدة تحت عباءة المرشد الإيراني العالمية، والقومية العربية حليف الصهيوني الذي ولد ليدمرها، وقومية الهلال الخصيب جندياً في المعسكر الإيراني، والإشتراكية جندياً في محراب المذهبية والإقطاعية وشريكاً للراسمالية.
لا نريد أن نعترف حتى ولو ذهب الوطن وبقينا أخيراً مشردين في أصقاع الدنيا. سنحمل هذه العصبية إلى العالم في الخارج لنبقى هناك مشتتين في هويتنا.
في ذكرى الرئيس عبد الناصر، إستذكر “إتفاق القاهرة” المشؤوم الذي وضعنا بضغوط منه، ولو من دون وجو نية سيئة، كي نصبح ساحة مفتوحة لصراعات المنطقة والعالم. ما زلنا نعتقد أننا سنغير العالم من هنا، من لبنان. أنا أيضاً كنت أحلم، ما زلت، بتغيير العالم نحو الأحسن، لكن!
إن الفارق بينانا أن البعض ما زال مصراً، تحت العباءة العصبية، على مسيرته ذاتها، بينما رأيتُ أين يمكن لنا فعلاً أن نغير العالم، وبدلت مسيرتي. إنها نظرية بسيطة: إعرف عدوك!
هو يستخدم الدين، ببعده التعصبي، كوسيلة لتدميرنا، ونحن ندرك ذلك. هنا تكمن قوته الحقيقية. فلماذا لا نستخدم نحن الدين وإنما بأجمل صورة قدمها لنا بلدنا؟ صورة العيش المشترك. “لبنان الرسالة”، أليس كذلك؟ أليس هذا ما قاله لنا قداسة البابا، يوحنا بولس الثاني، خلال زيارته لبنان العام 1997؟
نعم، هذا ما حمله لنا يوم كان رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم، والذي سيطوب بعد ذلك قديساً. هذا القديس، الساكن اليوم في السماء، يتطلع إلينا بحزن. فلماذا لا يكون هذا الإرشاد هويتنا النضالية؟
وحدة الإيمان بالله وترك الطريق إليه لحرية كل شخص وإحترام الآخر بإيمانه الديني وتقديم النموذج المعاكس للعصبية من خلال الحوار الحضاري هو السبيل من أجل إنتاج لبنان جديد. هذا هو لبنان، ثروة للتغيير الحقيقي بين أيدينا نحرقها بتعصبنا.
*سفير سابق – لبنان.
مصدر الصورة: لبنان 24.
موضوع ذا صلة: لبنان بين الدويلات “العميقة” و”العقيمة” و”الغميقة”