إعداد: يارا انبيعة
قبيل سنوات، سئُل الرئيس السوداني، عمر البشير في برنامج تلفزيوني، عن الكتاب الذي احتفظ به لفترة طويلة، فأشار دون تردد الى كتاب “اعترافات قاتل اقتصادي”، للكاتب الأمريكي جون بيركنز. حينها، استفاض الرئيس البشير شارحاً حجم المؤامرة والألاعيب الإقتصادية التي تحاك ضد دول العالم الثالث كما حواها ذلك الكتاب، وتجسدت فعلياً في ضخ القروض التي يصعب سدادها، وخصخصة كل شيء، وترك الدول نهباً للعائلات الثرية التي تسيطر على موارد العالم.
المثير في الأمر ان السودان نفسه انتهى به الحال الى وضع اشبه بذلك، فتعثر في سداد الدين، وانتهج سياسة الخصخصة بـ “شراهة”، وعجز عن السيطرة على الإنهيار الاقتصادي، لدرجة اللجوء الى وصفات البنك الدولي.
عقدين من العقوبات
شطبت وزارة الخزانة الأميركية عشرات الشركات السودانية من قائمة العقوبات في اعقاب القرار القاضي برفع العقوبات الإقتصادية عن البلاد، التي استمرت نحو عشرين عاماً. تلك العقوبات المفروضة منذ العام 1997، حرمت المصارف السودانية من استقبال او ارسال اية تحويلات خارجية عبرها، لكن القرار لم يتضمن رفع الخرطوم من قائمة الدول “الراعية للإرهاب”، المدرج عليها منذ 1993، مما يحرمه فرص الإستفادة من برامج الإعفاء من الديون والحصول على قروض تنموية.
إصلاحات في ظل الأزمة
مع اعلان الرئيس البشير عن اجراءات تقشف شديدة اضافة الى التغيير الوزاري الكبير الثاني في حكومته على مدار اربعة شهور، فإن الأوضاع في السودان لا تزال تتجه نحو الأصعب. فالإستراتيجية الإقتصادية الجديدة، التي اعلن عنها في 10 سبتمبر/ايلول 2018، تقضي بتخفيض الإنفاقين الفيدرالي والحكومي على مستوى الولايات بنسبة 34٪، وتخفيض عدد الوزارات الحكومية من 31 الى 21، وتخفيض حجم المجلس الرئاسي، واعادة هيكلة الحكومة على مستوى الولايات.
الى ذلك، اعلن الجهاز المركزي للإحصاء عن وصول نسبة التضخم الى 60.93% (مسجلاً اعلى مستوياته منذ سنوات في ضل مواجهة البلاد لأزمة اقتصادية متفاقمة) في حين كانت نسبة التضخم بحدود الـ 57.65% في شهر ابريل/نيسان، كما عزا الزيادة في شهر مايو/ايار الى ارتفاع اسعار الأغذية مع تنامي الطلب عليها في شهر رمضان ما ادى الى اشعال فتيل شرارة الإحتجاجات التي صاحبها اعمال شغب على نطاق واسع.
هذا ويعد الإقتصاد السوداني من اكثر الإقتصادات التي شهدت معاناة كبيرة بسبب الصراعات الاجتماعية، والحرب الأهلية، والضغوط الخارجية، وغيرها من الأسباب الأخرى.
تراكم للديون
بالرغم من رفع حكومة الإنقاذ الوطني شعارات مثل “نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع”، الا انها لم تتحقق شيئاً على ارض الواقع ولو نسبياً، وظل السودان يستورد السلع الأساسية بما فيها القمح والدواء، وتدهورت نتيجة للحصار الأمريكي اهم المشروعات المنتجة، من بينها “مشروع الجزيرة الزراعي”، وبلغت ديون السودان الخارجية بحدود الـ 54 مليار دولار منها 85% متأخر التسديد.
اضافة الى ذلك، تضم قائمة دائني السودان مؤسسات متعددة الأطراف بنسبة 15%، ونادي باريس 37% بجانب 36% لأطراف أخرى، اضافة إلى 14% للقطاع الخاص، في حين تحوز الصين على نسبة مقدرة في تلك الديوان. بالمقابل، يعاني السودان من ارتفاع اسعار صرف العملات الأجنبية امام الجنيه، منذ انفصال الجنوب العام 2011 وفقدان ثلاثة ارباع موارده النفطية التي تقدر بـ 80% من موارد النقد الأجنبي.
تعويم “الجنيه”
افادت العديد المصادر عن اعتزام الحكومة السودانية تحرير سعر الصرف اي تعويم الجنيه، وهو ما سبق وان اقترحه صندوق النقد الدولي على الخرطوم ورفضته، الذي هوى الى مستويات قياسية منخفضة في السوق السوداء هذا العام (2018)، مما دفع البنك المركزي الى خفض قيمته بشكل حاد مرتين، فيما اشارت المعلومات الى ان الحكومة السودانية رفعت يدها عن تحديد سعر الصرف، تاركة لآلية مستقلة من الخبراء ومديري المصارف تحديد سعر الصرف اليومي، مشيرة الى انتهاج سياسات مالية جديدة بهدف اعادة التوازن الداخلي والخارجي للإقتصاد، في حين نفى محافظ بنك السودان المركزي، محمد خير الزبير، ما تردد عن تحرير سعر الصرف.
يأتي ذلك في ظل العمل على انشاء سوق للنقد الأجنبي، واجتراح سياسات اقتصادية جديدة، والغاء القائمة السلبية للسلع المستوردة، اي فك حظرها، كل ذلك بهدف التعافي قليلاً من اجل جذب تحويلات المغتربين التي تبلغ نحو 4 مليار دولار، والقضاء على السوق السوداء. وقد اثارت تلك القرارات مخاوف عديدة بإرتفاع اسعار العملات الأجنبية امام الجنيه، وامكانية التسبب بموجة غلاء جديدة، وارتفاع اسعار المواد الاساسية كالدواء والقمح والوقود وقطع غيار السيارات، وغيرها الكثير من السلع المستوردة.
من هنا، كشف رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية والاقتصاد الوطني، معتز موسى، عن بعض ملامح السياسة الإقتصادية الجديدة، قائلاً “سنصدر قريباً سياسات شاملة للإقتصاد الكلي تهدف لوضع اقتصادنا في طريق النمو المستدام في ظل استقرار اقتصادي”، مؤكداً انه ليس لدى بلاده اي اتجاه لزيادة الدولار الجمركي او رفع الدعم عن السلع الأساسية، محاولاً التمهيد للقرارات بقوله “اجزنا حزمة السياسات الإقتصادية التي تهدف لإنطلاق الإقتصاد السوداني وتحقيق اكبر عائد من العملات الحرة من الصادرات غير البترولية، مستبشرين بحصاد زراعة اكثر من 50 مليون فدان هذا الموسم.”
الذهب بدل النفط؟!
قلل انتاج الذهب من تداعيات خسارة الخرطوم من قطاع النفط، حيث يرى الكثير من الخبراء الإقتصاديين وجود امكانية عاليه لنجاح هذا المعدن في تغطية النقص اذ ما تم تعديل السياسات الحالية حول الشراء والتصدير، ووقف التهريب الكبير.
شهد قطاع التعدين، بشقيه التقليدي والحديث، تقدماً ملحوظاً في عمليتي الإنتاج والتصدير، حيث قفز الإنتاج في 2016 – حسب تقارير رسمية – الى 93 طناً، دخلت البنك المركزي موارد بيع 30.8 طناً بعائدات بلغت قيمتها 1.232 مليار دولار، بينما تقدر القيمة الكلية للذهب المنتج بـ 3.566 مليارات دولار. كما بلغ انتاج الذهب، في النصف الأول من العام 2017، حوالي 80 طناً، في حين يتم التخطيط لإنتاج 130 طناً مع انتهاء العام 2018.
قطاعات واعدة
تخطط حكومة الخرطوم لتصدير نحو 6.3 مليون رأس من الماشية، من بينها 1.8 مليون الى السعودية، بحلول نهاية العام 2018 بجملة عائدات من المواشي واللحوم والجلود تبلغ اكثر من مليار دولار، اذ يعد السودان من اغنى الدول العربية والأفريقية بثروته الحيوانية حيث تقدر اعداد الأبقار والأغنام والماعز والإبل فيه بحوالي 150 مليون رأس.
ويحاول السودان الإستفادة من ثروته الحيوانية لتعزيز الصادرات وتوفير العملات الصعبة بعد ان فقد 75% من عائدات النفط بإنفصال جنوب السودان، في يوليو/حزيران العام 2011، حيث كشف وزير الثروة الحيوانية في يناير/كانون الأول الماضي (2018)، ان شركة اماراتية تقدمت بدراسات استثمارية تستهدف زيادة صادر الماشية الحية الى 600 الف رأس سنوياً، بعد وقت قصير من اعلان الحكومة عن ان شركات فرنسية مرموقة بصدد انشاء اكبر مركز في افريقيا للتلقيح الإصطناعي بغية تحسين نسل الثروة الحيوانية بإنتاج جيل جديد من الحيوانات ذات جودة عالية من اللحوم.
اضافة الى ذلك وقعت “هيئة وادي النيل للملاحة النهرية” وشركة الإتجاهات المتعددة، اتفاقية لنقل المواشي الى مصر، فيما اوضح رئيس مجلس إدارة الهيئة، حميدة الحاج محجوب، ان الإتفاق يقع في اطار التكامل بين مؤسسات الدولة والقطاع الخاص في المجال الزراعي والحيواني عبر مواعين الهيئة. من جانبه، كشف مدير شركة الإتجاهات المتعددة، د. احمد رزق الله، عن ان جملة الصادر ستكون حوالي 300 الف رأس ما بين حي وذبيح بكلفة تبلغ 1.25 مليون دولار خلال الأعوام 2018 و2019.
بجانب الذهب والمواشي، يتم الحديث اليوم عن ثروة اخرى لا تقل شأنها عن مردود تجارة المعدن الأصفر وهي تجارة الزئبق الواعدة، والذي من المزمع البدء بتصديره في العام 2019. اضافة الى ذلك، لا يمكن غض النظر عن القطاع الزراعي السوداني، سواء من حيث بعض المنتوجات الأساسية، كالقطن، او لجهة تأجير الأراضي، على شكل استثمارات، للعديد من الدول الكبرى: كالصين على سبيل المثال.
ختاماً، لا شك ان السودان ما زال يعاني الكثير من الأزمات الكبيرة والعميقة، مثل ازمة دارفور والعقوبات الإقتصادية وانفصال الجنوب عنه وتحمل ديونه، اضافة الى ما يتحمله من ضغوطات دولية، بل حتى إقليمية، اثقلت كاهل ابنائه واضعفت قدرتهم على التحمل.
من هنا، تحاول الخرطوم انتهاج سياسة خارجية متوازنة، مع بعض الدول الإقليمية والخليجية تحديداً، عبر السير بين النقاط، وادل مثال على ذلك مشاركة السودان في الحرب اليمينة، في موقف يرضي الطرفين السعودي والإماراتي، يقابله تعاون اقتصادي كبير مع تركيا، وأيضاً قطر، وما فجره موضوع استثمار أنقرة لجزيرة “سواكن” على البحر الأحمر والخوف من ان تشكل قاعدة عسكرية تركية جديدة، بعد قطر والصومال.
مصدر الأخبار: وكالات.
مصدر الصور: “سي.ان.ان” – تلفزيون الوطن.