إعداد: يارا انبيعة
“بلاد الثلج والشيوعية”، تعريف مختصر لتلك الدولة الممتدة على قارتين. ولو أردنا الإطناب في التعريف لقلنا “بلاد الثلج والشيوعية والصواريخ”. إلا أن روسيا لا تزال تبعث المفاجآت، فأصبحت تستطيع تعريف روسيا للجميع بأنها “بلاد القمح والحبوب” أيضاً.
منذ ازمة القمح في العام 1928 وقرارات الزعيم السوفياتي، جوزيف ستالين، الزراعية وحتى الآن، والبيانات جميعها والجداول تشير إلى “سهم تصاعدي” لا يمكن أن يوقفه شيء، حيث تشير الدراسات إلى أن الإنتاج الزراعي كان أحد أكثر القطاعات نشاطاً وتطوراً، حتى في سنوات الأزمة التي عصفت بشتى جوانب الحياة في روسيا بعد سقوط الإتحاد السوفياتي نهاية القرن الماضي، لكونه قد حافظ على مكانته بصفته قطاعاً مربحاً وواعداً، فضلاً عن أنه تمكن من لعب دوره الرئيسي في ضمان الأمن الغذائي لروسيا.
ثورة زراعية
قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إن الفورة الزراعية التي شهدتها روسيا في السنوات الأخيرة جعلت من الصادرات الزراعية أكثر ربحية للبلاد مقارنة بصادرات الأسلحة والمعدات العسكرية. وفي تصريح للرئيس بوتين، على هامش مشاركته في منتدى زراعي بإقليم كرسنودار الروسي في مارس/آذار 2018، أعلن أن الصادرات الزراعية باتت تتجاوز صادرات الأسلحة بأكثر من الثلث، حيث تبلغ الصادرات السنوية للقطاع الزراعي حوالي 28.8 مليار دولار، مقابل 15.6 مليار دولار لصناعة الدفاع.
وأضاف الرئيس بوتين أن صادرات روسيا من المنتجات الزراعية والغذائية قفزت بنحو 16 مرة منذ العام 2000؛ وفي العام 2016، تصدرت روسيا قائمة الدول المصدرة للقمح في العالم، حيث ازدادت حصة البلاد من السوق العالمي أربعة اضعاف، إي من 4% إلى 16%.
كذلك أشار الرئيس بوتين إلى أن روسيا تعتزم ضخ استثمارات لتطوير البنية التحتية، وتوسيع شبكة السكك الحديدية، وزيادة قدرة الموانئ البحرية ومصانع التخزين في إطار خطة تهدف للإرتقاء بروسيا كي تصبح دولة رائدة في المجالين الزراعي والصناعي العالمي، مؤكداً على أن روسيا تستهدف تصدير منتجات غذائية صديقة للبيئة وذات جودة عالية، بعدما تم حظر الكائنات والمنتجات المعدلة وراثياً منذ العام 2016.
هذا وتخطط روسيا لزيادة حجم إنتاجها الزراعي إلى مستويات قياسية جديدة بحلول عام 2030. ويدور الحديث بصورة خاصة عن منتجات زراعية استراتيجية مثل الحبوب والبذور المنتجة للزيوت، وهو ما أكده بيوتر تشيكماريف، مدير قسم الإنتاج في وزارة الزراعة، مشيراً إلى أن البرنامج يتضمن خطة لزيادة حجم إنتاج الحبوب حتى 150 مليون طن بحلول العام 2030، حيث بدأ تنفيذ هذه الخطة الممنهجة بداية العام 2018.
المصِّدر الأول
صعدت صادرات القمح الروسي بمقدار الربع تقريباً خلال العام 2017، وفقا لما ذكرته وزارة الزراعة الروسية، وتوقع اتحاد منتجي الحبوب الروسي أن تبلغ صادرات القمح الروسي، مع انتهاء العام 2018، مستوى 32 مليون طن، ما سيضمن لروسيا صدارة مصدري القمح في العالم، إذ صدرت موسكو، خلال العام 2017، نحو 27.1 مليون طن من القمح، متجاوزة بذلك الولايات المتحدة وكندا، أبرز المصدرين العالميين.
وفي تقدير لمحاصيل العام 2017، حصدت روسيا ما يقارب على الـ 130 مليون طن من الحبوب، تم تصدير ما يقارب 45 مليون طن منها. هذا وقد ذكرت وزارة الزراعة الروسية أن صادرات الشعير تضاعفت على أساس سنوي لتصل الى 2.52 مليون طن، في حين نمت صادرات الذرة بنسبة 19.5% لتصل إلى 1.23 مليون طن.
أكد وزير الزراعة الروسي، ألكسندر تكاتشوف، أهمية نمو القطاع الزراعي إذ بات يشكل نحو 4% من حجم الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، كما أعلنت الحكومة الروسية أن قيمة صادرات البلاد من الحبوب والمنتجات الزراعية باتت تصل إلى حدود الـ 20 مليار دولار سنوياً، متجاوزة صادرات الأسلحة التي تبلغ نحو 15 مليار دولار سنوياً.
ومن الجدير ذكره هنا أن قطاع الإنتاج الزراعي قد استفاد من الحظر الغذائي على المنتجات الأوروبية، حيث تمكن من الحفاظ على حجم الإنتاج، والإنتقال إلى النمو.
15 مليون كلم
أعلن علماء من جامعة “كوينزلاند” وجمعية الحفاظ على الحياة الإيكولوجية، وهي منظمة بيئية، أن روسيا تحتوي على أكبر مساحات أراضي برية في العالم، حيث تقع على رأس التصنيف العالمي للدول حسب مساحة المناطق والأقاليم المائية التي لم تتأثر بالنشاط البشري، هذا الرقم يتجاوز علامة 15 مليون كلم مربع.
وتقدر مساحة البرية في روسيا بـ 8 مليون كلم مربع، والتالية في الترتيب هي كندا وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل، ومن وجهة نظر العلماء، تعمل النظم الإيكولوجية السليمة كبنوك طبيعية، فهي تحتوي على معلومات جينية، فتأتي إليها الحيوانات هرباً من الأماكن التي زاد فيها تأثير الإنسان.
الدعم الحكومي
إن لدعم هذا القطاع أهمية خاصة، فضلاً عن أهمية الإنتاج الزراعي عالمياً بإعتباره مصدراً رئيسياً لضمان الأمن الغذائي، فهو كما يشكل مصدر دخل رئيسي خصوصاً وأن روسيا بحاجة ملحة لزيادة حجم ورفع مستوى إنتاجها الزراعي كي تتمكن من التعويض قدر الإمكان عن المنتجات الزراعية التي حظرت استيرادها من دول الاتحاد الأوروبي وأميركا وكندا، ضمن تدابير عقابية روسية رداً على عقوبات فرضها الغرب ضد روسيا بسبب أزمة القرم.
فعلى الرغم من المؤشرات الإيجابية، إلا أن قطاع الإنتاج الزراعي الروسي لم يستنفذ كل إمكاناته وطاقاته الإنتاجية بعد، ويبقى الأمر رهنا بزيادة الدعم الحكومي. لهذا توجهت وزارة الزراعة الروسية بطلب إلى وزارة المالية لتخصص مبلغ 50 مليار روبل إضافية لدعم قطاع الإنتاج الزراعي. وتنطلق وزارة الزراعة في طلبها هذا من خطة الإجراءات الحكومية الرامية إلى استئناف النمو الإقتصادي في العام 2019، والتي خصصت 13.8 مليار روبل فقط لدعم البناء الزراعي، مثل صوامع لتخزين القمح، وبنى تحتية أخرى ضرورية لتحسين ظروف الإنتاج الزراعي والحيواني.
وتنوي الوزارة إنفاق 15 مليار روبل، من الدعم الإضافي الذي تطلبه، لزيادة رأس المال الأساسي للبنك الزراعي، الذي حرمته العقوبات الغربية من مصادر التمويل الخارجية، ولذلك لا تتوفر لديه حالياً السيولة الكافية لمنح قروض ميسرة للمزارعين.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد بحث مع وزير الزراعة مسألة تمويل قطاع الإنتاج الزراعي وتأمين قروض ميسرة له، ودعا المصارف الروسية إلى التخفيف من”البيروقراطية” في منح القروض الزراعية، معيداً إلى الأذهان الخطة الحكومية التي بدأ العمل بها، منذ الأول من يناير/كانون الثاني 2017، حول تقديم معونات حكومية للمصارف التي تمنح قروضاً زراعية بسعر فائدة لا يزيد عن 5%، إذ خصصت الحكومة 58.8 مليار روبل لهذا الغرض.
الإستثمار في سوريا
في مايو/أيار 2018، كشف مصدر نقابي سوري مسؤول في القطاع الزراعي أن الفترة القادمة ستشهد وصول عدد من الشركات الروسية المختصة بالخضار والفواكه والصناعات الغذائية، وستقوم بإجراء مباحثات مع عدد من الجهات الحكومية وممثلين القطاع الخاص للبحث في تطوير تقنيات التوضيب والتغليف والإنتاج القابل للتصدير، مشيراً إلى أن الشركات الروسية تبحث عن الإستثمار طويل الأجل في القطاع الزراعي السوري.
وأشار المصدر إلى أن اغلبية الخضار تعتبر خاسرة لعدة أسباب؛ أولها، عدم وجود أسواق خارجية للتصدير إليها وإن وجدت فهي بعيدة كروسيا وإيران ولذلك يستحيل نقلها بالبر خصوصاً الطازجة منها لكونها لا تتحمل التخزين لمدة طويلة إضافة إلى ارتفاع تكاليف النقل الجوي مما سيفقدها عامل المنافسة. ثانياً، ضعف القدرة الشرائية للمواطن وقلة الإستهلاك.
هذه الأسباب وغيرها، كتلك المتعلقة بالحرب والطرق وتكاليف الشحن، تجعل الطريق معبداً أمام “المستثمر المفضل”، أي روسيا بسبب صداقتها القوية مع سوريا، لتلعب دور “المزارع الجوي”، وتستطيع الإستفادة من فائض الإنتاج لدى دمشق.
فتح أسواق جديدة
بعد أن شهدت الإستثمارات القطرية في روسيا نمواً كبيراً في قطاعات استثمارية مختلفة لتبلغ نحو 13 مليار دولار، وفقاً لأحدث التقارير الإقتصادية، فإن التعاون الإستثماري بين البلدين يشهد قفزة قوية. ففي تصريح لوزير الزراعة، دميتري باتروشيف، قال “نحن مهتمون في الوقت نفسه، بتوسيع المعروض من الحبوب ومنتجات المواشي، ويمكن لروسيا أن تضمن ليس فقط جودة اللحوم العالية، ولكن أيضاً امتثالها الكامل للمعايير الحلال، ونحن مستعدون أيضاً لبدء التوريد إلى سوق قطر بما في ذلك زيت دوار الشمس والذرة والخضراوات البقولية المجففة والسكر والدقيق.”
وأشار الوزير إلى أن السوق القطري يعد أحد الأسواق الرئيسية لبلاده في الشرق الأوسط، فلقد زادت صادرات موسكو الزراعية، في شهر يناير/كانون الأول حتى سبتمبر/أيلول 2018، بنسبة 40% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي (2017)، وبلغت نحو 30 مليون دولار. وشدد الوزير باتروشيف على اهتمام بلاده بجذب الإستثمار الأجنبي في مشاريع التحديث الواعدة، وإنشاء مرافق إنتاجية جديدة، ومرافق للتخزين.
تبادل تجاري ضخم
يشير تقرير أعدّه المكتب الإعلامي للسفارة المصرية في موسكو أن حجم التبادل التجاري بين البلدين آخذا في التزايد، حيث بلغت قيمة التبادل التجاري بينهما في العام 2017 نحو 6.722 مليار دولار، بحيث يميل الميزان التجاري بين البلدين لصالح روسيا. مقارنة بالأعوام السابقة، بلغت قيمة التبادل التجاري بين البلدين خلال العام 2014 أكثر من 4.6 مليار دولار، وزادت صادرات مصر من المنتجات الزراعية إلى روسيا بنسبة 80% لتتعدى 500 مليون دولار مقابل 267 مليون دولار في ذات الفترة من عام 2013، الذي شهدت الصادرات المصرية إلى روسيا خلاله ارتفاعاً بلغت نسبته نحو 29% مقارنة بعام 2012، بسبب الإرتفاع في تصدير الفواكه والخضروات.
وأوضح التقرير أن المنتجات الزراعية تمثل نحو 70% من حجم التجارة المشتركة، وتمثل الموالح والبطاطس نحو 75% من هيكل الصادرات المصرية، في حين تمثل الحبوب، ولا سيما القمح، والأخشاب نحو 65% من هيكل الواردات المصرية منها، وبلغت الصادرات المصرية لروسيا من البطاطس خلال الموسم الماضي قرابة 330 ألف طن، وهو ما تقدره سلطات الحجر الزراعي بقرابة المليار جنيه.
“الأمريكيون في خطر”
“روسيا تضرب ليس فقط انتخاباتنا إنما ومزارعينا”. عنوان في إحدى وسائل الإعلام الأمريكية في إشارة إلى أرقام تصدير الأقماح الروسية التي تقلق الولايات المتحدة، حيث “يتعرض المزارعون في الولايات المتحدة للخطر بسبب الحجم القياسي لصادرات القمح من روسيا، حيث كانت الأولوية للحبوب الروسية بسبب السعر، الذي تأثر بإنخفاض قيمة الروبل مقابل الدولار.” فمع تزايد المنافسة الروسية في هذه السوق، تتهدد رفاهية المزارعين الأمريكيين.
بالإضافة إلى ذلك، يرى بعض المراقبين بأن نزاعات واشنطن التجارية، مع الصين والدول الأخرى، قد تزيد من جاذبية القمح الروسي إذا ما فرضت الرسوم على الحبوب الأمريكية، فيما أقرت الصين بالفعل تعريفات جمركية بزيادة 25٪ على القمح. غير أن موسكو، ولغاية الآن، لم تستطع الإستفادة منها بسبب قيود الإستيراد الصينية، بما في ذلك من روسيا التي تحسنت نوعية إنتاجها وتدنى سعرها.
“رعب” روسي
لا يغيب عن أحد ما يقدمه الرئيس بوتين وروسيا من منافسة واستصدار للرعب الإقتصادي عند المنافس الأول أي الولايات المتحدة، فمن المنافسة على الغاز إلى الزراعة وإنتاج الحبوب، لتنتقل نحو الحرب الصاروخية بين “الكروز” والـ “أس.400”. المثير في الأمر أنه، وحتى الآن، لم يخسر بوتين أي جولة من جولات هذه “الحرب”.
مصدر الأخبار: وكالات.
مصدر الصور: سبوتنيك.