إعداد: يارا انبيعة

“تونس الخضراء”، كما يطيب لنا ذكرها، تتفرد بكل شيء. فكما كانت أقل الدول تضرراً من “الربيع العربي” وخرجت منه “عروساً” جديدة بممارسة ديموقراطية قد لا تعجب بعض الأطراف فيها وقد لا تحقق لهم كل أحلامهم الديموقراطية، إلا أنها لا تزال مثالاً جيداً للكثيرين في الشرق الأوسط الذين يتوقون لمثل هذه الخلافات، التي لا تشوبها طائفية أو عنف مذهبي أو مناطقي، حيث كان من أهم ثمراتها إقرار المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة في خطوة تقدمية نحو مجتمع مدني حقيقي سليم يقوم على المساواة على أساس المواطنة وليس الطائفة.

غير أن الأوضاع السياسية لم تستقر فيها تماماً كما إرادة الشعب، إذ لا تزال هناك العديد من الأمور محل خلاف، حتى ضمن البيت الواحد نفسه.

التعديل “القنبلة”

أعلن رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، عن تعديل وزاري جزئي شمل 13 وزيراً وكتاب دولة، 4 نوفمبر/تشرين ثاني 2018 بعد عودته من زيارة قصيرة إلى موريتانيا، حيث كان قد التقى قبلاً رئيس الجمهورية، الباجي قايد السبسي، وقدم له القائمة المعنية بالتعديل. 

ومن ناحية أخرى، أكد حزب “نداء تونس” رفضه المعلن معتبراً أن حكومة الشاهد قد أصبحت حكومة “النهضة” علما بأن هذا الموقف من نداء تونس كان معلنا حتى قبل القيام بالتحوير ولم يفعل حزب النداء غير ترديد نفس الرأي وتأكيده. في المقابل، اعتبرت حركة النهضة أن هذا التعديل “خطوة مهمة في سبيل دعم الإستقرار السياسي وفسح المجال لإنجاز بعض الإصلاحات المستعجلة”.

النداء بين الوحدة والإنشقاق

اعترف نداء تونس بأن سبب أزمته الرئيسية انه لم يعقد مؤتمره رغم مرور 6 سنوات على التأسيس، وهو ما يفسر حالة الفوضى داخله، بعد فوزه بإنتخابات العام 2014، حيث ظهر الصراع بين رموزه المتناقضة بحيث يريد كل شخص فرض نفسه كواجهة للحزب وواضعاً لسياساته وراسماً لعلاقاته، الى ان وصل حافظ قائد السبسي الى سدة الرئاسة فيه ما دفع الكثير الى ترك الحزب حيث اعتبروه جزءاً من “ميراث” الأب لإبنه.

لذلك، يحاول نداء تونس ان يظهر تماسكاً وقوة لتجاوز مخلفات “الهزيمة” في البرلمان، وهي هزيمة ليست فقط في نجاح الشاهد بتمرير تشكيلته الوزارية، ومن ورائه حركة النهضة التي يتهمها حزب نداء تونس الحاكم بـ “هندسة” الإنقلاب، حيث ثبت عجزه فرض قراره بالإنسحاب من الحكومة على الوزراء المحسوبين عليه، الذين اختاروا البقاء مع الشاهد، وايضا في اجبار نوابه على مقاطعة جلسة التصويت على التعديل الوزاري، لكن خمسة منهم شقوا “عصا الطاعة” فتم تجميد عضويتهم في الكتلة.

يأتي كل ذلك في ظل تطورات المشهد السياسي الوطني بما يتعلق بالحزب لجهة تفاقم الأمور في خضم ما يشهده من حراك داخلي وتباينات بين رموزه القيادية وصفوف هياكله الجهوية والمحلية خاصة، وهو مُقْدم على عقد مؤتمره في شهر يناير/كانون الثاني 2019، خصوصاً بعد ان اعترته حركة من الإنشقاقات.

من هنا، يبقى على الحزب لملمة جراحه واستعاد بعض الغاضبين والمنشقين كي يبقى رقماً مهماً على الساحة وحاجة ضرورية لتحقيق توازن في المشهد السياسي، خاصة وان حركة النهضة ما فتئت تردد حرصها على الحفاظ على التوافق مع كافة القوى الوطنية ومنها بالخصوص حزب نداء تونس ورئاسة الجمهورية.

في هذا المجال، لا يستبعد بعض المراقبين امكانية اجراء تغييرات في قيادة النداء، ومنها واهمها عودة يوسف الشاهد الى هذه القيادة، وهو احتمال غير مستبعد خاصة وان الشاهد يمكنه المساعدة على عودة اغلب المشاركين حالياً في كتلة الإئتلاف الوطني وانضمام بعض الشخصيات المحسوبة عليه في فريقه الحكومي الحالي او السابق.

الى جانب هذا الإحتمال هناك امكانية اخرى، او السيناريو الأقرب، وهي تأسيس رئيس الحكومة الحالي لحزب جديد تكون قاعدته النيابية كتلة الإئتلاف الوطني وهي فرضية قائمة تؤكدها بعض التسريبات من اطراف قريبة للشاهد ومن كتلة الائتلاف الوطني. وهذا الإحتمال تم طرحه وتداوله منذ استقالة الوزير السابق المهدي بن غربية الذي تم تفسير استقالته آنذاك بتحميله مسؤولية التفرغ لإعداد ارضية تأسيس هذا الحزب الجديد.

وبطبيعة الحال، فإن اهمية هذه التطورات سواء داخل نداء تونس ام ببروز حزب جديد، قد يكون “نداء آخر بقيادة جديدة ودماء جديدة ونفس جديد”، سببه التحضير لخوض الإستحقاقات الإنتخابية في العام 2019، على الصعيدين الرئاسي والنيابي، من اجل خلق توازن جديد مع حركة النهضة، الحريصة بدورها تصريحاً وتلميحاً الى ضرورة وجود مثل هذا التوازن للحفاظ على نجاح المسار الإنتقالي الديمقراطي والإنتقالي الإقتصادي التنموي على قاعدة التوافق الوطني العريض والشراكة الواسعة والحفاظ على الاستقرار السياسي بهدف انجاح الإصلاحات والمشاريع التي تتطلبها الحالتين الإقتصادية والإجتماعية، ومنها تأمين فرص العمل، والإستثمار والتنمية، ومحاربة الفساد، والإحتكار، والإرهاب.

ومن جهة اخرى، يطرح المراقبون سؤالاً مهما حول مدى تمتع تيار كتلة الإئتلاف الوطني والمجموعات الدستورية، بما فيها حزب المبادرة، بتمثيل شعبي خارج قواعد وانصار نداء تونس المجتمعين حول شخص الرئيس السبسي وحول حزب نداء تونس، في انتخابات 2019، علما بأن هذه القاعدة الإنتخابية قد تراجعت في الإنتخابات البلدية بشكل لافت وانتقل جزء كبير منها الى المستقلين.

عودة النهضة؟!

وبالنسبة لحركة النهضة، يعتقد اغلب المحللين انها اصبحت رقماً اساسياً في المعادلات والتوازنات السياسية الوطنية، وهو ما اكدت عليه نتائج الإنتخابات البلدية وفي المصادقة على التعديل الوزاري. فإن امكانية استثمار النهضة سياسياً في النجاحات التي قد تحققها المجالس البلدية المحلية اضافة الى استثمار نجاحات الوزراء الممثلين للنهضة في الحكومة سيساعد على اعادة استقطاب قواعدها الإنتخابية في استحقاقات 2019 خاصة وانها ما زالت حريصة على نهج الإنفتاح على المستقلين وممارسة الديمقراطية الداخلية في مؤسساتها الحزبية المحلية والجهوية والمركزية، وما زالت تؤكد حرصها على انجاز الإصلاحات وارساء المشاريع محلياً وحكومياً.

من هنا، لا يستبعد عودة الكثير من ابناء الحركة “الغاضبين” وخاصة “المناضلين” الذين يتمتعون بتاريخ وسمعة ولهم قدرات تعبوية مشهودة داخل مناطقهم وفي صفوف القواعد الحزبية، حيث تبدو الحركة معنية بضبط قواعد تحالفاتها وتوافقاتها الحالية والمستقبلية لإدارة ما تبقى من المدتين الحكومية والنيابية.

وفي هذا الصدد، يأتي طرح من داخل النهضة بإمكانية ابرام “ميثاق للتوافق والتشارك” مع الشاهد، والحزب الذي قد يمثله، وتوضيح العلاقة مع النداء، بالرغم من كل الأمور الخلافية بين الفريقين، من اجل تجنب كل المعوقات، ولوضع برنامج حكم مرحلي يكون قاعدة مشتركة لإدارة الشأن العام.

لا مكان لـ “الإخوان”

قال عمر صحابو، السياسي التونسي، ان هناك رفضاً شعبياً لوجود الإخوان في الحكم، مشيراً الى ان فشلهم المتكرر في الإدارة ستكون له تداعيات واضحة في الانتخابات المقبلة، حيث حمل مسؤولية وجود “النهضة” في المشهد الحكومي للرئيس التونسي، معتبرا ان الأخير “خالف ارادة اكثر من مليون تونسي ممن صوتوا ضد الحركة الإخوانية”.

وانتقد السياسي التونسي رئيس الحكومة واصفاً اداءه بـ”الفاشل بكل المقاييس، خاصة في المجال الإجتماعي، حيث بلغت نسبة الفقر في تونس 20%، في سابقة تعد تاريخية من نوعها”، واعتبر ان تحالفه مع حركة النهضة “خطأ استراتيجي، وخيانة متواصلة للنخب الفكرية المستنيرة، والرافضة لوجود الإخوان في المشهد السياسي التونسي.”

وفي معرض حديثه عن “التاريخ الدموي” لحركة النهضة الإخوانية، قال صحابو ان “عناصر من اخوان مصر جاءوا الى تونس في 2012، وخضعوا لدورات تدريبية في التنصت الهاتفي، وعمليات التسميم وصنع المتفجرات”، لافتاً الى ولفت ان “التنصت شمل وزير الدفاع التونسي حينها، عبد الكريم الزبيدي، وقاعة العمليات للجيش التونسي، وعدد من المحامين والسياسيين”، موضحاً ان “تقارير التنصت التي يتم تجميعها ترسلها حركة النهضة الى اخوان مصر من اجل التنسيق الثنائي بينهما.”

“شلل عام”

نفذ الإتحاد العام التونسي للشغل، في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، اضراباً عاماً في الإدارات والبنوك والبلديات والمستشفيات والوزارات وكافة المؤسسات الحكومية والخدمية احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية للتونسيين والمطالبة بزيادة مجزية في اجور الموظفين. وشمل هذا الإضراب اكثر من 650 الف موظف يتوقع استجابة غالبيتهم لنداء الإضراب الذي وجهه الاتحاد العمالي منذ اكثر من شهر ونصف، بعد فشل جلسة مفاوضات اخيرة جرت بين رئيس الحكومة وقيادة اتحاد الشغل، برئاسة الأمين العام نور الدين الطبوبي، حول مطالب الزيادة في الأجور وتحسين القدرة الشرائية.

هذا وكان الإتحاد العام التونسي للشغل قد الغى اضرابا عاماً، كان مقرراً في 24 اكتوبر/تشرين الأول 2018، في المؤسسات العمومية الإقتصادية بعد التوصل الى اتفاق مع الحكومة يقضي بزيادة في الأجور والتعهد بعدم خصخصة المؤسسات العمومية. وقد استبقت الحكومة الإضراب بالتأكيد في بيان على “احترام الحق في الإضراب والتظاهر السلمي” وفق ما يكفله الدستور والقوانين.

وقال الأمين العام نور الدين الطبوبي ان الإضراب جاء بعد ان استنفد الإتحاد جميع الحلول بفشل المفاوضات، وبعد ان رفضت الحكومة زيادة الأجور، واضاف “القرار السيادي لم يعد بأيدي الحكومة وانما في ايدي صندوق النقد الدولي” معتبراً رفض الحكومة الزيادة قراراً “غير سيادي يملى عليها من وراء البحار”.

فتش عن صندوق النقد

في العام 2016، قدم صندوق النقد الدولي لتونس قرضاً بقيمة 2.4 مليار يورو لأربع سنوات مقابل وعد بتطبيق اصلاحات اقتصادية. ولما كانت الرئاسة والحكومة عاجزتان عن القيام بهذه الإصلاحات، فإن الوعود التي قطعوها للصندوق “ستدفع من جيوب الشعب” وهو ما عطل الحركة الإقتصادية للبلاد، اضافة الى ما يطفو على سطح المشهد السياسي من مشاكل بين الأحزاب وتطلعاتها.

وقال بو علي المباركي، الأمين العام المساعد للإتحاد، ان المطالب برفع الرواتب مرتبطة بـ “الارتفاع غير المسبوق في الأسعار، وتدهور القوة الشرائية لدى المواطنين .. وتدهور الحياة اليومية”، واضاف “على الحكومة العثور على حل دون ان تضطر الى الخضوع لتعليمات صندوق النقد الدولي، حتى لو قطعت التزامات معه، والحفاظ على الإستقرار الإجتماعي” مشيراً الى ان الإتحاد “لا يتفاوض مع (رئيسة صندوق النقد الدولي) كريستينلاغارد ولكن مع رئيس الحكومة التونسية.”

في هذا الوقت، تعيش تونس ازمة حقيقية ابرزها ارتفاع الأسعار بسبب هبوط الدينار، اضافة الى زيادة الضرائب، وارتفاع معدلات البطالة.

التغيير الجذري

في ضوء هذه المعطيات، يبدو المشهد السياسي الوطني متحركاً ومتحولاً على وقع متسارع، فقد يمنح التعديل الحكومي الأخير فسحة من الإستقرار السياسي ودفع مختلف القوى الى اعادة تموقعها في افق الإستحقاقات الإنتخابية القادمة.

اما مدى امكانية اسقاط حكومة الشاهد، فإن هذا الأمر يبدو مستبعداً لكونها تحظى بشرعية متجددة وبثقة اغلبية مريحة داخل مجلس نواب الشعب مما يسمح لها بالإستمرار على وعد بإنجاز بعض الإصلاحات والمشاريع والعمل على معالجة بعض اوجه الأزمة الاقتصادية والتخفيف من حدة الإحتقان الاجتماعي.

من هنا، يبدو ان مختلف القوى السياسية مطالبة بتعديل ساساتها على وقع هذه التطورات الجديدة بهدف الإعداد الجيد للإستحقاقات القادمة، ناهيك عن ضرورة العمل على انجاح المسار الإنتقالي الديمقراطي والبدء بإنجاز الكثير من المتطلبات الآنية الملحة لجهة الإنتقال التنموي الإقتصادي والإجتماعي الذي يعد المطلب الأهم لإنجاح أي تحرك ثوري حقيقي.

مصدر الأخبار: وكالات.

مصدر الصور: فرانس  24 – الجزيرة .