إعداد: يارا انبيعة

ربما قد تكون صادفت إسم “جبل طارق” في الأخبار مؤخراً، ولكن ما علاقة هذا الإقليم القريب من إسبانيا مع البريكست أو خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي؟ جبل طارق أحد الأقاليم البريطانية عبر البحار، فما هو مصيره بعد البريكست؟

نقطة إستراتيجية

يقع جبل طارق أسفل إسبانيا يعيش فيه حوالي 30 ألف شخص من بينهم سكاناً بريطانيين يديرون أمورهم بأنفسهم (في استفتاءين أجريا عامي 1968 و2002، اختار سكان الإقليم الحكم البريطاني على الحكم الإسباني) إذ لا يزال هذا الإقليم واحداً من 14 آخرين تسيطر عليها المملكة البريطانية.

وكانت إسبانيا قد خسرته في حربها أمام القوات الإنكليزية والهولندية العام 1704، وتم تسليمه للندن رسمياً العام 1713، ضمن معاهدة “أوترخت”، إذ أنه من الواضح أن مدريد قد تخلت عنه في ظروف ضعف جعلتها تستجيب للمطالبة البريطانية بالسيادة عليه، الطامعة في موقعه الإستراتيجي الهام على الرغم من صغر مساحته التي تقدر بأقل من سبعة كيلومترات مربعة، فهو يشرف على بوابة الدخول الوحيدة إلى البحر المتوسط والخروج منه لجهة المحيط الأطلسي، ناهيك عن زيادة أهميته بعد افتتاح قناة السويس. وقد نقل عن مسؤول في الجيش البريطاني قبل سنوات قوله “لو لم يكن جبل طارق موجوداً لكان ضرورياً اختراعه، لأننا هنا أقرب ألف ميل إلى الخطر.”

لهذه الأسباب وغيرها، أقامت بريطانيا قاعدة عسكرية على الجبل تسمح بمراقبة البحر المتوسط الذي يعبره قسم كبير من النفط والغاز الطبيعي اللذين تستهلكهما أوروبا ناهيك عن السفن التجارية أيضاً. لهذا، يبدو من الطبيعي أن تطالب إسبانيا، منذ تعافت من حروبها الأهلية المتكررة، بإستعادة السيادة على جبل طارق، لكن بريطانيا ترفض ذلك دائماً بل أنها ترفض حتى وضع القاعدة تحت السيادة المشتركة أو استخدامها من الجانبين على نحو مشترك.

خلال تنظيم البريكست، صوت البريطانيون المقيمون في جبل طارق حيث كانت النسبة 96% لجهة البقاء في الإتحاد، إلا أنه سيخرج مع بريطانيا بعد الإتفاق الذي جرى مع بروكسل، لكن إسبانيا تشعر بالقلق إزاء علاقاتها التجارية مع الإقليم ومدى تأثرها بالبريكست. فلقد هدد رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، بعرقلة الإتفاق لأنه يعتقد ان رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، ليست واضحة حول موقفها من هذا الملف، في مقابل عدم قدرة دولة واحدة من داخل الإتحاد بعرقلة اتفاق الخروج.

نجاح المفاوضات

نجحت بريطانيا وإسبانيا فى تسوية خلاف حول جبل طارق، لتتمكن الدولتان من إزالة العقبات الأخيرة في اتفاق خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، حيث أعلنت الحكومة البريطانية أنها تؤيد إجراء مفاوضات مع إسبانيا بشأن الجبل بعد البريكست تلبية لطلب مدريد التي هددت بعرقلة اتفاق الخروج.

وفي بيان لها، قال ناطق بإسم رئاسة الحكومة “بشأن مفاوضات الإنسحاب ونظراً لبعض الشروط الخاصة بجبل طارق، أجرينا محادثات مع إسبانيا تشارك فيها مباشرة حكومة جبل طارق. هذه المحادثات كانت بناءة وننتظر بفارغ الصبر اعتماد المقاربة نفسها للعلاقات المستقبلية.”

ومن جهته، قال رئيس الحكومة الإسبانية أن بلاده حصلت على اتفاق حول جبل طارق وستصوت “لمصلحة بريكست”، مشيراً إلى أنه قد أبلغ الملك بأن “إسبانيا توصلت إلى اتفاق بشأن جبل طارق”، معلناً رفع اعتراض بلاده على اتفاق الخروج والتصويت لمصلحته.

من أزمة داخلية إلى توتر أوروبي

على المستوى الأوروبي، ليس الخلاف البريطاني – الإسباني حول جبل طارق بالجديد، فالخلافات كانت تدور أساساً على الساحة الداخلية إلى أن أعلن رئيس الوزراء الإسباني عدم موافقته وضع جبل طارق في الإتفاق الأوروبي مع لندن وأنه سوف يستخدم حق الإعتراض عليه في القمة الأوروبية المنعقدة لإقراره، مصراً أن أي قرارات في المستقبل تتعلق به سيتم اتخاذها ومناقشتها مباشرة مع بلاده.

أما على المستوى الداخلي، فإن إثارة هذا الموضوع وبهذا الشكل سيصب المزيد من الزيت على النيران المشتعلة ضد رئيسة الوزراء ماي من كافة الإتجاهات حيث ستتهم بـ “التفريط في السيادة البريطانية” خاصة وأن الكثير من الغموض يلف هذا الإتفاق ويقف في وجهه الكثير من المعارضين.

وإزاء هذا الإخفاق المتكرر في إستعادة الإقليم، عمدت إسبانيا إلى تشديد إجراءات التفتيش على الذين يعبرون الحدود من وإلى جبل طارق مما تسبب في طوابير انتظار طويلة بحجة أن بريطانيا ليست ضمن منطقة “الشنغن” المعفاة من إجراءات المرور. ولقد وصل الأمر، في آب/أغسطس 2018، إلى تهديد لندن بملاحقة مدريد قضائياً، فيما هددت الأخيرة بإحالة القضية إلى الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، كما ذكرت تقارير أن ثمة تفكيراً إسبانياً في التنسيق مع الأرجنتين في هذا الشأن خصوصاً وأن بريطانيا تحتل جزر الفوكلاند منذ العام 1982.

في موضوع لافت، نجد هنا مفارقة تكشف عن ازدواجية المعايير الإسبانية التي تطالب بحقها في السيادة على جبل طارق بينما لا تزال مدريد تحتفظ بمدينتي “سبتة” و”مليلية” المغربيتين الواقعتين بدورهما داخل التراب المغربي، مقدمة بذلك المبرر لبريطانيا بأن الإنفصال الجغرافي، كما في حالة جبل طارق، ليس مانعاً للسيادة.

 

ضمانات منقوصة

حالت تحفظات إسبانيا، في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، دون تمكن الإتحاد الأوروبي من التغلب على العقبة الأخيرة أمام توقيع اتفاق الإنفصال مع بريطانيا، حيث قال رئيس الوزراء “إن القمة كانت تواجه خطر الإلغاء”، مشيراً إلى أنه لم يحصل بعد على تطمينات بأن أي قرارات مستقبلية بشأن جبل طارق محادثات مباشرة مع حكومته.

وأضاف سانشيز إلى أن “الضمانات ليست كافية حتى الآن ولا تزال إسبانيا تحتفظ بحق الإعتراض على اتفاق خروج (بريطانيا). إذا جرى التوصل لإتفاق فإننا لن نستخدمه (حق الفيتو)، وإن لم يتم التوصل لإتفاق، فإن المجلس الأوروبي لن ينعقد على الأرجح.”

في هذا السياق وكحل للأزمة، اقترح سانشيز قيام محادثات بشأن السيادة المشتركة على المنطقة بمجرد خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، في 29 مارس/آذار 2019، كمخرج لحل النزاع التاريخي.

سقوط “جسر لندن”

ربما اقتربت الخطوات لتفكك “مملكة الكومنولث”، فمحاولة بريطانيا العظمى الخروج من الإتحاد الأوروبي كانت خطوة جريئة لدرء المخاطر والمصائب عن الإقتصاد الذي لا يجب أن يتزحزح عن عرش الإقتصادات العشرة الأولى على مستوى العالم، غير أن التفكك الخارجي سيلحقه تفكك داخلي لكل الدول التي قد تثقل كاهل المملكة بنفقات لا فائدة منها.

من هنا، يرى محللون أن الفائدة الإقتصادية الهائلة لجبل طارق هي ما جعل بريطانيا تقبل بحكم مشترك للمنطقة مع إسبانيا، ولكن بتفكير اقتصادي بحت ما الذي يمنع استراليا، مثلاً، أو كندا من الخروج من عباءة المملكة؟

بات الجميع في وندسور على علم ذلك، فهم يرددون خلف جدران القصر الملكي أن الملكة اليزابيث ستكون آخر ملكة للكمونولث، فبعد إعلان سقوط “جسر لندن”، وهو الإسم المعلن عنه لمراسم وفاتها ودفنها، ستعود “مرسيا” و”ويسكس” و”نورثمبديا” لوحدها مع اتحاد علني مع ايرلندا واسكوتلاند.

مصدر الأخبار: وكالات.

مصدر الصور: الشرق الأوسط – مونتي كارلو الدولية.