إعداد: يارا انبيعة

يبدو أن الكثير من دول العالم تتجه إلى إيجاد تكتلات اقتصادية “ما فوق القومية” هدفها الأساسي يتركز في الحد، إذ لم نقل محاربة، الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي. فهي تحاول إيجاد مخرج ما في ظل سياسات جديدة للبيت الأبيض، بعد تولي الرئيس دونالد ترامب سدة الرئاسة، خصوصاً من الناحية الإقتصادية، سواء نقض الإتفاقيات أو العقوبات أو غيرها من سياسات واشنطن، التي تؤثر سلباً على الكثير من الدول.

من هذه التكتلات يظهر الإتحاد الأوراسي الذي تعتبره موسكو، على وجه الخصوص، تجمعاً حيوياً، خصوصاً أنها تستطيع من خلاله استعادة بعض دول الإتحاد السوفياتي السابق، ولو اقتصاديا، وتأمين خاصرتها من الجهة الأوروبية، بالإضافة إلى عقد اتفاقات اقتصادية مع دول أخرى من أجل فتح أسواق جديدة وضم عدد من الحلفاء الإقتصاديين لخوض “المعركة المشتركة” بوجه “النسر الأمريكي”. 

جدول أعمال دسم

وسط توتر وقلق يخيّمان على المشهد الاقتصادي دولياً، افتتح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين في بطرسبورغ، قمة الإتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تعول روسيا عليه في إنعاش العلاقات الاقتصادية مع الجمهوريات السوفياتية السابقة، وتشكيل تكتل اقتصادي يساعد على مواجهة التحديات الخارجية.

وبغية تعزيز قوة هذا التكتل، سيعكف قادة الدول الأعضاء (روسيا وبيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزيا) على بحث خطط من شأنها تعزيز التكامل الإقتصادي داخل دول الاتحاد، حيث استمع الرؤساء إلى تقرير حول تنفيذ خطة السياسة الموحدة في مجال تنظيم أسواق الإنترنت، وفق ما قال يوري أوشاكوف، معاون الرئيس الروسي، الذي أشار إلى أن جدول الأعمال تضمن كذلك عرض برنامج حول تشكيل سوق مشتركة ضمن دول الاتحاد للنفط والغاز والمشتقات النفطية بحلول عام 2025.

كما بحث القادة خلال القمة مسألة توزيع الرسوم الجمركية على الواردات وتقاسمها بين ميزانيات الدول الأعضاء، والعمل على التقريب بين السياسات النقدية، وأشار أوشاكوف إلى مشروع بيان تم إعداده، حول تعزيز الآليات التكاملية، ينص على العمل المشترك لإنشاء أسواق موحدة للخدمات والسلع، وتطوير العلاقات التجارية وفي مجال الإستثمارات، وتعزيز الشراكة في الإنتاج، وأكد أن البيان يضع أمام الدول مهام مثل التقارب بين السياسات النقدية – الائتمانية المعتمدة في دول الاتحاد، وتعميق التعاون في المجالات الإنسانية والاجتماعية والعلمية.

وفضلاً عن جدول الأعمال الذي حددته الرئاسة الروسية للقمة، يحمل نيكول باشينيان، القائم بأعمال رئيس وزراء أرمينيا إلى القمة، رغبة بلاده في الحصول على الغاز الروسي بأسعار مخفضة انطلاقاً من طبيعة العلاقة التي تجمع موسكو ويريفان، لا سيما الشراكة عبر الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.

من جانبه، طرح الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، قضية العراقيل التي تَحول دون حرية التجارة وتنقل الأيدي العاملة بين دول الاتحاد، وقال “لو تحدثنا عن تعاوننا مع روسيا في إطار الدولة الإتحادية (الروسية – البيلاروسية)، والإتحاد الاقتصادي الأوراسي، أقول إنه لدي هنا مشكلة واحدة، وهي أننا اتفقنا حول حرية تنقل الأيدي العاملة ورؤوس الأموال، والخدمات والبضائع، وما إلى ذلك”، وحذر من أنه دون هذا كله “لن يكون لدينا حتى اتحاد جمركي”، وأعاد إلى الأذهان وجود اتفاق ينص على إزالة كل تلك العقبات، لافتاً إلى عدم تنفيذ ذلك الاتفاق، وأن كل تلك العراقيل ما زالت موجودة.

عملة موحدة

على عكس نظرة الرئيس لوكاشينكو التشاؤمية، عبر الرئيس القرغيزي، سورونباي جينبيكوف، عن نظرة أكثر إيجابية إزاء عضوية بلاده في الإتحاد مشيراً إلى عقبات تواجهها بلاده في حرية التجارة مع كازاخستان، العضو في الاتحاد الاقتصادي.

إلى ذلك، أثنى جينبيكوف على عمل الإتحاد موضحاً بأن حجم التجارة بين قرغيزيا والدول الأعضاء ارتفع، العام 2017، بنسبة 16% مقارنة بالعام 2016، وأن حجم صادرات قرغيزيا إلى دول الاتحاد نما كذلك بنحو 14%، فيما توقف بصورة خاصة عند حرية تنقل الأيدي العاملة، وأشار إلى أن 800 ألف مواطن قرغيزي يعملون خارج البلاد، 700 ألف منهم يعملون في روسيا، وأكد أنه تم توفير شروط ملائمة لهم هناك، بفضل معايير اتفاقية الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.

وفي معرض إجابته عن سؤال حول اعتماد العملات الوطنية في التجارة بين دول الاتحاد الأوراسي، أكد الرئيس القرغيزي أنه يجري حالياً توقيع اتفاقيات على أساس العملات الوطنية، ليس بين دول الاتحاد فحسب بل مع دول أخرى. أما عن رؤيته لمستقبل الاتحاد الأوراسي، فلقد عبر الرئيس القرغيزي عن قناعته بأن الاتحاد سيتطور، لكن هذا يحتاج إلى بعض الوقت، ولم يستبعد أن يتحول مع الوقت إلى “كيان يشبه الاتحاد الأوروبي، حيث لا توجد حدود بين دولنا، ويتنقل مواطنونا بحرية بين دول الاتحاد، ويحصلون في أي من دوله على شروط وخدمات كالتي يحصلون عليها في بلدهم.

في هذا المجال أيضاً، اقترح الرئيس بوتين على الدول الأعضاء العمل على وضع بنية تحتية مشتركة للتعاملات المالية، معتبراً أن ذلك سيعزز سيادة أعضاء الاتحاد الاقتصادية، وقال بوتين “إن إنشاء مثل هذا البنية التحتية المعتمدة على التقنيات المالية الحديثة، سيتيح زيادة استقرار أنظمة الدفع الوطنية لدول الاتحاد ويجعلها أقل تبعية للدولار والعملات الأجنبية الأخرى”، مضيفاً “هذا يعني الارتقاء بالسيادة الاقتصادية بكل معنى الكلمة.”

أقمار صناعية

اقترح الرئيس بوتين، خلال القمة، إنشاء مجموعة أقمار صناعية مدارية موحدة للاتحاد. وفقاً لرؤيته، فإن التعاون في مجال تقديم الخدمات الفضائية، بما في ذلك إنشاء مجموعة أقمار صناعية وأجهزة مدارية مشتركة وتوفير الخدمات الجيولوجية لصالح دول أخرى، يفتح آفاقا واعدة للاتحاد. وتابع بوتين قائلاً “من الممكن أيضاً اعتماد برامج مشتركة للتطور العلمي والتكنولوجي”، كما أشار إلى أن ميزانية العام 2019 للاتحاد، والتي يتعين إقرارها خلال القمة، تتضمن تخصيص موارد كبيرة لمشاريع رقمية ضخمة داخل الاتحاد.

“أوبك أوراسي”

صرح الرئيس بوتين أن قادة بلدان الاتحاد اتفقوا على برنامج لتشكيل أسواق مشتركة للغاز والنفط والمنتجات النفطية، حيث قال “ناقشنا قضايا التعاون في القطاعات الرئيسية لبلداننا بشكل موضوعي، وتم الاتفاق على برامج واسعة النطاق لتشكيل أسواق مشتركة للغاز والنفط والمنتجات النفطية”، مشيراً إلى أن الأطراف ستعتمد بياناً حول تطوير التكامل ضمن إطار الإتحاد الذي سيعكس المجالات ذات الأولوية لمزيد من التعاون.

إتفاقات التجارة الحرة

خلال القمة، أعلن الرئيس بوتين بأن “اليوم نعلن بدء سريان اتفاقية التعاون التجاري الاقتصادي مع الصين والاتفاقية المؤقتة للتجارة الحرة مع إيران، ونأمل في أن تستكمل المفاوضات حول اتفاقات تجارية تفضيلية مع سنغافورة وإسرائيل وصربيا، ومع الهند ومصر لاحقاً.”

بالنسبة إلى طهران، صادق مجلس الوزراء الإيراني، في جلسة برئاسة الرئيس الإيراني حسن روحاني، على الاتفاقية المؤقتة، التي تم الإتفاق عليها في مايو/أيار 2018 في مدينة أستانا الكازاخية، لإنشاء منطقة تجارة حرة بين إيران والاتحاد الاقتصادي الأوراسي التي تهدف إلى قيام تجارة حرة بين إيران ودول الأوراسية.

وهذا وسبق أن أعلن رئيس الدوما الروسي، فياتشيسلاف فولودين خلال لقائه الرئيس الإيراني في طهران، على أهمية رفع الحواجز في طريق تطوير العلاقات المصرفية بين موسكو وطهران بهدف تعزيز العلاقات الإقتصادية والتجارية بين البلدين، مضيفاً أن “الرئيس الروسي وقع على اتفاقية التجارة الحرة بين أوراسيا وإيران ونأمل أن يتم التصديق على هذه الإتفاقية من قبل البرلمان الإيراني أيضاً.”

السياسة الروسية والنزعة الأوراسية

لا يمكن فهم السياسة الخارجية الروسية من دون البحث في خلفيات الإيديولوجيا التي تقف وراء هذه السياسة وسبر اغوار التفكير السياسي لقادة الكرملين لا سيما الرئيس بوتين. فمن بين أهم النظريات التي تركت تأثيراً واضحاً على سياسات الكرملين الخارجية، على مدى السنوات القليلة الماضية، هي نظرية الأوراسية التي تؤكد على الهوية المتميزة لروسيا مقابل الغرب، وتشدد على ضرورة أن تتخذ موسكو مواقف مستقلة في الساحة الدولية وتقوية العلاقات والتحالف مع القوى الإقليمية وفي مقدمتها الصين والهند وإيران.

ويقف وراء هذه النظرية البروفيسور ألكسندر دوغين، الذي يطلق عليه البعض صفة العقل المدبر لسياسات الكرملين، وهو يعد من أشهر المفكرين الروس في الوقت الحاضر، ومؤسس تيار “النيو الأوروبية الآسيوية”، ومن أشد منتقدي العولمة. ويعتقد دوغين أن على روسيا أن يكون لها حضور مؤثر في السياسة العالمية، وقيادة التيار المناهض للديمقراطية الليبرالية، وكانت هذه النظرية من الأسباب التي دعت وزارة الخزانة الأمريكية إلى درج اسمه على قائمة العقوبات الخاصة بالوزارة.

الأوراسية و”النظرية السياسية الرابعة”

يري دوغين أن روسيا تنتمي إلى الشرق ثقافياً، ويجب أن تقف كزعيم في وجه العالم الأحادي القطب الغربي – الأمريكي، وكان قصده مما يسميه أوراسيا، روسيا الكبيرة التي لديها حلفاء بينها إيران وتركيا والصين والهند وبعض الدول في أوروبا الشرقية، ويقول في تعريف الأوراسيا بأنها “فلسفة سياسية مع ثلاثة مستويات خارجية ووسطى وداخلية”.

فعلى المستوى الخارجي، تشتمل هذه النظرية على عالم متعدد الأقطاب، أي هناك أكثر من مركز دولي لصنع القرار، أحدها الأوراسيا التي تضم روسيا ودول الإتحاد السوفياتي السابق، ويتابع “الأوراسية على المستوى المتوسط، تقول بإلتقاء دول الإتحاد السوفياتي، إلى جانب نموذج عابر للحدود، أي تشكيل دول مستقلة، أما على مستوى السياسة الداخلية، فهي تعني تحديد الهيكل السياسي للمجتمع وفقاً للحقوق المدنية، وعلى أساس أقسام من نموذج الليبرالية والقومية.”

هذه المستويات الثلاثة في فلسفة الأوراسية هي التي يتشكل على أساسها نوع واحد من السياسة الخارجية فقط، وهي سياسة مستقلة عن العولمة، والعالم الأحادي القطب والقومية والإمبريالية والليبرالية، ولهذا تعد الأوراسية بشكل عام نموذجاً فريداً للسياسة الخارجية.

إلى ذلك، حاول دوغين في كتابه المعنون “النظرية السياسية الرابعة” التنظير لرؤيته المتمثلة في النيو- اوراسية، ويقول في هذا الكتاب، الذي نشر في روسيا العام 2009 “لقد انتهى القرن العشرون، ونحن الآن فقط بدأنا ندرك ذلك بشكل كامل، لقد كان القرن العشرون قرن الأيديولوجيات.”

وفي شرحه لما يعنيه من النظرية الرابعة، يذكر دوغين ثلاث إيديولوجيات حية وحاضرة في القرن العشرين هي الفاشية والشيوعية والليبرالية، فمنذ “هزيمة الفاشية والشيوعية وذهابهما في طي التاريخ، فإن الليبرالية بدأت تصول وتجول في الساحة دون منازع، وتتظاهر بأنها ليست إيديولوجية إلى جانب الأيديولوجيات الأخرى، بل هي واحدة من مكونات الحياة الإنسانية الطبيعية.”

وبحسب دوغين، مع انهيارالإتحاد السوفياتي، تبين أن مصير الإنسان ونهاية التاريخ ليس بالطريقة الماركسية، بل كان يبدو أنه بالشكل الليبرالي الذي كان الفيلسوف الأمريكي، فرانسيس فوكوياما، قد سارع إلى توعية الإنسانية منه، عبر الإعلان عما يسميه “نهاية التاريخ” والنصر المؤكد والدائم للسوق الحرة والليبرالية والديمقراطية البرجوازية.

ويريد دوغين، في كتابه من خلال طرح للنظرية الرابعة أو “النيو – أوراسية”، أن يضع هذه النظرية في مقابل الليبرالية، كما يسعى لتقديم السياسة الرابعة كبديل يشمل المنافسين السابقين لليبرالية والأطلسي، وهي في الواقع مزيج من التيارات غير الليبرالية في روسيا أولاً، ومن ثم في العالم. كما يعتقد أن أمريكا تقود الدكتاتورية العالمية، التي تدعي أن التاريخ لا يعيد نفسه، وأنه أحادي الإتجاه ومركزه أمريكا التي تنظر إلى نفسها بإعتبارها قمة كل الحضارة الغربية، ويقول إن هذه الفكرة تضع العالم تحت الوصاية الأمريكية وكأنها تخلق بذلك “معسكر اعتقال عالمي”.

أيضاً، تتجسد النظرية السياسية الرابعة، برأي دوغين، في الإتحاد ضد الليبرالية الديمقراطية، وتعزيز قيم الثقافة والتقاليد الوطنية، ويرى هذا المفكر الروسي أن الكثير من قيم الليبرالية الديمقراطية هو غربي، بعد ما تم فرض النموذج الإنجلو – سكسوني للثقافة والحكم على بقية العالم، مما جعل الليبرالية، القائمة على التحرر من جميع أشكال الهوية الجماعية، نوعاً من الإبادة الثقافية.

مصدر الأخبار: وكالات.

مصدر الصور: روسيا اليوم – داماس نيوز.