إعداد: يارا انبيعة

كان من الواضح جدا منذ بداية الحرب في سوريا أن کرد الشمال السوري لن يحققوا شيئاً علی صعيد الواقع الميداني لجهة تحقيق حكم ذاتي، وأنهم سيخسرون هذه “المقامرة” الخطيرة، ویضطرون بالتالي للتنازل عن ساحة المعرکة، إضافة إلى ذلك أنهم “لم یعتبروا” من الإستفتاء في كردستان – العراق.

من هنا، تأتي تهديدات تركيا بعملية عسكرية ضد القوات الكردية، شرق الفرات، لتعيد مناخ التوتر العسكري على الساحة السورية عقب فترة هدوء نسبي، في رد فعل واضح وجود قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، ذات الأغلبية الكردية والمدعومة أميركياً ضد “داعش”، على أن احتمال التصعيد هذا أمر ليس مؤكداً بعد، خاصة بعد الإتصال الهاتفي بين الرئيسين التركي، رجب طيب أردوغان، والأمريكي، دونالد ترامب، والذي تلاه بيان تركي يؤكد تفاهم الجانبين.

المعركة خلال أيام؟!

أعلن الرئيس أردوغان عزم بلاده إطلاق حملة عسكرية للقضاء على تنظيم الـ “بي.كا.كا” الكردي، المدعوم من التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية شرقي نهر الفرات، في عملية من شأنها، إن نجحت، تمكين أنقرة من فرض نفسها كلاعب أساسي في ترتيبات شرقي الفرات إلى جانب حلفائها المحليين، من الكرد والعرب السوريين، وخاصة أنها أعقبت زيارة المبعوث الأمريكي الخاص، جيمس جيفري، إلى تركيا ما يوحي بأن العملية قد تمت مناقشتها مع واشنطن، التي لم تمانعها بأقل التقديرات.

وأعرب اردوغان حيال مساعي واشنطن في إنشاء ممر إرهابي عند حدود بلاده الجنوبية، وذلك في كلمة ألقاها خلال قمة الصناعات الدفاعية التركية في المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة، مشدداً على أن تركيا ستتخذ إجراءاتها بنفسها وبإمكاناتها الخاصة، وفي إشارة ضمنية إلى أهداف واشنطن بالمنطقة.

وقال أردوغان إن تركيا قضت، عبر عملية “درع الفرات” وفي غضون بضعة أشهر، على ذرائع أولئك الذين قلبوا سوريا رأساً على عقب لسنوات بدعوى “داعش”، معرباً عن أسفه حيال إرسال أكثر من 20 ألف شاحنة أسلحة إلى الإرهابيين شمالي سوريا، مؤكداً أن أنقرة ترى في أمريكا حليفاً استراتيجياً يمكن المضي معه في المستقبل شريطة الإلتقاء على أرضيات صحيحة، وأضاف أن الولايات المتحدة غير قادرة على إخراج الإرهابيين من هناك “إذاً نحن سنخرجهم فقد بلغ السيل الزبى”، معتبراً أن هدف العملية ليس الجنود الأمريكيين على الإطلاق، وإنما عناصر التنظيم الإرهابي الذين ينشطون في المنطقة.

تصريحات الرئيس التركي، بخصوص شن عملية عسكرية مرتقبة شرقي الفرات، أثارت التكهنات حيال هذه العملية من حيث نطاقها وأهدافها وارتداداتها. فحسب خبراء ومراقبين أتراك، فإن القرار السياسي واضح وقد اتخذ بشن عملية حاسمة وشاملة لكل منطقة شرقي الفرات دون استثناء أي موقع يضم عناصر تابعة لتنظيم “بي.كا.كا” و”ب.ي.د” دخلها.

كما تشير التوقعات، حسب الباحث السياسي أيمن الدسوقي، بأن تكون تل أبيض الهدف المرجح لهذه العملية، بما يتيح لأنقرة التأثير بالمنطقة الواصلة بين تل أبيض وعين العرب بما فيها ذلك الطرق والحدود، وما يعنيه ذلك من إضعاف لـ “قسد”، كما أن هذه العملية من شأنها في حال القيام بها ونجاحها أن تتيح لأنقرة إعادة فتح المعبر الحدودي لأغراض تجارية ولحركة عبور الأفراد، وأن تمكنها من فرض نفسها كلاعب أساسي إلى جانب حلفائها المحليين.

تقاطع للمصالح

تتقاطع المصالح التركية مع مصالح المعارضة السورية، برأي العقيد في ميليشيا الجيش السوري الحر فاتح حسون، فهي معركة الجيش السوري الحر كما هي معركة تركيا “فتأهبوا يا مقاتلي المعارضة لها، واستعدوا كمقاتلين وقادة لخوضها بالتنسيق مع الجيش التركي.”

وأضاف حسون أن هناك خمس قوى ترفض المعركة، التي باتت وفق الرئيس التركي قاب قوسين أو أدنى، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا، إيران، الحكومة السورية، والوحدات الكردية، مستطرداً القول “تركيا لم يفتها ذلك، ولعلها اتخذت التدابير اللازمة لإطلاق صافرة بداية المعركة.”

المستفيد الوحيد

اعتبر أحد مراكز البحوث الأمريكي أن الوجود العسكري للولايات المتحدة في سوريا يفيد تركيا، وأنها ستكون في موقف صعب في حال قررت واشنطن سحب قواتها من هناك. وأشار “معهد دراسات الشرق الأوسط”، في تقرير له، إلى أن تركيا التي تحتل أجزاء من شمال سوريا هي المستفيد من الوضع القائم، وأن أي بديل لهذا الوضع توافق عليه أنقرة هو إخضاع الكرد لسلطة الحكومة السورية، موضحاً أنه في حال انسحاب القوات الأمريكية، فإن روسيا قد تغير سياستها المعادية للكرد وتدعم فكرة نظام فيدرالي في سوريا، وهو ما يعتبر كابوساً لتركيا.

كما يشير التقرير إلى أن انسحاب القوات الأمريكية سيصعب وجود القوات التركية في شمال سوريا، على أساس أن روسيا وإيران لن تؤيدا أي تواجد عسكري تركي في سوريا، بعد انسحاب القوات الأمريكية من ذلك البلد، فوجود القوات الأمريكية في سوريا ساعد تركيا بشكل كبير من خلال تحركات سياسية أمريكية سرية أدت إلى منع هجوم روسي- سوري على إدلب، والتوصل إلى صفقة بين تركيا وروسيا ما أدى إلى منع تدفق لاجئين جدد إلى تركيا.

أيضاً، بات واضحاً أن مثل هذا الهجوم، بحسب التقرير، سيضعف المعارضة السورية بشكل كبير، وبالتالي تقليل النفوذ التركي في سوريا، مشيراً إلى أن تلك الصفقة أفادت أنقرة كثيراً؛ وعلى الرغم من تذمر تركيا بشأن الوجود الأمريكي في سوريا، إلا أنها في الواقع تستفيد من الوضع القائم، لأنه طالما بقيت القوات الأمريكية في سوريا، فإن تركيا ستحتفظ بمركز قوي بمواجهة روسيا.

وعود “خلبية”

سبق للولايات المتحدة أن وعدت الكرد، في شمال سوريا، بأنها ستعترف بإستقلالهم علی أن يجدوا سبيلاً لهم إلى البحر، وکان من الجلي الواضح أن تحقيق هذا الوعد مستحيل منذ البداية، فلقد ثم استغلت واشنطن الكرد “أشد الإستغلال” في مواجهتهم مع الدولة السورية، وهي الآن تتخلی عن دعمهم ضد الهجوم الترکي بعد ما رأت أن موعد صلاحيتهم قد انقضی.

تصر أميرکا علی البقاء في شمال سوريا، الغني بالموارد، بذريعة تواجد تنظيم “داعش” الإرهابي. ومن هذا المنطلق، ليس بمستبعد أن تتصدر قضية الكرد الأولويات في التعامل الأميرکي – الترکي، كورقة مساومة على معلومات تخص مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي خصوصاً مع رغبة الرئيس ترامب في دعم استقرار الحكم في المملكة، وبالتالي إتمام صفقة ما بين الطرفين يكوت فيها الكرد هم الخاسر الأكبر.

ولكن ليس النفوذ السياسي التركي وحده هو ما يثير القلق الأمريكي، بل الحديث عن هجمات محتملة، والتهديدات الأخيرة التى أطلقها الرئيس التركي حيث يمثل الهجوم العسكري على منطقة شرقي الفرات تهديداً مباشراً للقوات الأمريكية المتواجدة هناك، وهو الأمر الذي لم يستبعده أردوغان في تصريحاته، حيث أكد أن أية إصابات محتملة بين الجنود الأمريكيين لن تكون مقصودة، على الرغم من تأكيده أن القوات الأمريكية ليست المستهدف من تلك العملية العسكرية.

وهنا يثور التساؤل حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستبقى صامتة أمام التهديدات التركية، التي ربما تنذر بخسائر كبيرة للولايات المتحدة، على المستويين العسكري، في ظل احتمالات استهداف القوات الأمريكية، والسياسي، خاصة مع خسارتها لحليفها الكردي في الداخل السوري، في ظل استمرار التخلي الأمريكي عن الميليشيات الكردية في مواجهة الضربات التركية بين الحين والأخر.

ويضاف إلى ذلك، أن النجاحات الكبيرة التي تحققها إدارة ترامب في إخضاع أردوغان، على غرار قضية القس أندرو روبنسون المتهم بتورطه نمحاولة الإنقلاب الفاشلة في يوليو/تموز 2016، تعد دليلاً دامغاً على قدرة واشنطن على اتخاذ مواقف حاسمة يمكن من خلالها احتواء السياسات المتخبطة لا سيما مع استعمال الأخيرة لعدد من أساليب الضغط، كفرض العقوبات على شخصيات تركية ورفع الرسوم الجمركية على البضائع التركية ما تسبب في انهيار العملة وتبعات اقتصادية سلبية.

الفوز بالثقة

على الجانب الأخر، تسعى الحكومة الروسية إلى تقديم نفسها كشريك موثوق به للكرد في المرحلة الراهنة، في ظل الدور الكبير الذي يقومون به في الحرب على “داعش” وأنهم يهيمنون على قسم كبير من منطقة الشمال السوري.

لذلك، يمثل دخول روسيا على الخط بين الكرد والنظام التركي ثقلاً كبيراً لمصلحة الجانب الكردي، في ظل قدرة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على “تقليم أظافر” أردوغان في العديد من الملفات الدولية، وخاصة في سوريا، بعدما إجباره على “الرضوخ” لتنفيذ ما يسمى بـ “اتفاق إدلب”، لجهة القيام بتفكيك الميليشيات المتطرفة ونزع أسلحتها، وهو ما يراه العديد من المتابعين بمثابة نهاية للدور التركي وتقويضاً لأحلام أردوغان بالمشاركة في رسم مستقبل سوريا.

صراع الأمتار

ما يمكن استنتاجه مما سبق كثير. فمن خلال متابعة المشهد العسكري، يمكن القول بأن هناك عودة للتوتر بين تركيا والولايات المتحدة بعد تهدئة ملحوظة، على أنه سيبقى ضمن إطار منطقة جغرافية محدودة لها نفس الرمزية والدلالات أي الشمال السوري إذ أن هناك سيطرة روسية – سورية – إيرانية على أغلب أنحاء البلاد إلا من جيبين رئيسيين؛ أولهما، منطقة التوتر التركي – الأميركي في الشمال أي الشريط الحدودي الذي تنوي فيه أنقرة التحرك مجدداً. وثانيهما، إدلب.

هذان الجيبان يمكن وصفهها بـ “الفيتو” الأميركي – التركي فيما يخص عملية التسوية وإنهاء الأزمة السورية، لكن السؤال المعلق يبقى: هل يمكن أن يستمر هذا الجمود العسكري بلا حدود؟ قد تجيب السياسة عن بعض محتويات هذا السؤال، فمسألة إدلب ما زالت على جمودها إلا من شكوى خافتة مفادها “استياء” روسي من عدم تنفيذ تركيا لإلتزاماتها بعد مرور عدة أشهر، وليس شهراً واحداً كما تم الإتفاق عليه كي تقوم تركيا بنزع سلاح الفصائل المتطرفة.

من هنا، يرى العديد من المراقبين بأن الطرف التركي “يراوغ ويناور”، كعادته، لكن تنقصه القدرة الكافية على تنفيذ التزاماته ما يعود بنا إلى استنتاج أكثر أهمية وهو استمرار عجز أي من الأطراف الرئيسية، وأقواها على الساحة الميدانية روسيا، عن فرض إرادتها في هذا الصراع سواء لأن احداً لا يريد الدخول في حرب واسعة النطاق، بالقطع لا تريد موسكو التصادم مع تركيا، أو لأن الأمر معقد بما يكفي، يعززه “الفيتو” الأميركي المتمثل في الوجود العسكري شبه الرمزي.

الأهداف التركية

يبدو ان اللاعب التركي يريد ان يكون شريكاً اساسياً في صياغة المستقبل السوري، وهو ما اشار اليه بوضوح وزير الخارجية مولود جاويش اوغلو في “منتدى الدوحة 2018″، من باب قرارات الأمم المتحدة، وصياغة دستور جديد، وانتخابات رئاسية، مع علم أنقره اليقين بأن كل ذلك لن يحقق اية مصلحة لها ما لم تتواجد على ارض الميدان عسكرياً، فهي تريد تقوية موقفها، الضعيف في ادلب، بورقة الشمال السوري.

يأتي كل ذلك في ظل مناخ سياسي إيجابي تحصده سوريا من خلال الحديث عن قرب عودة العلاقات الدبلوماسية مع دولة الإمارات المتحدة، “العدو” الخليجي الثاني لأنقرة بعد المملكة العربية السعودية، ما سيقلص النفوذ التركي في التأثير على المستقبل السوري، وبالتالي قرب عودة العلاقات مع دول الخليج وبقية الدول العربية الأخرى، إضافة إلى أن ذلك سيزيد من الضغط، بشكل غير مباشر، على قطر، حليفتها الخليجية.

أما الموضوع اللافت فيتمحور حول زيارة الرئيس السوداني، عمر حسن البشير، إلى سوريا وهذا أمر في منتهى الأهمية نظراً لأن هذه الزيارة لم تأت من فراغ أو من قرار سوداني محض، بحسب الكثير من المحللين، لا سيما وأن الجميع يعلم مدى قرب النظام السوداني مع المملكة العربية السعودية، وأهمها المشاركة في عملية “عاصفة الحزم” اليمنية، وتقاطعه مع تركيا، اقتصادياً وبشكل لافت؛ وبالتالي، يمكن أخذها كمؤشر على قرب انتهاء الأزمة ورغبة العديد من الدول، بمن فيهم تركيا، من أخذ حصة، سياسية كانت أم اقتصادية، في سوريا.

يأتي ذلك كله خفوت الضغط التركي على سوريا من بوابة الجغرافيا. فبعد افتتاح معبر جابر – نصيب وقرب فتح كامل المنافذ الحدودية مع العراق والطريق البري إلى لبنان، فإن ثلاثة بوابات رئيسية اقتصادية قد فتحت، أو تفتح قريباً، وبالتالي فإن ورقة المعابر في الشمال لم تعد ذات أهمية لدمشق، وهذا قد يعد من بين إحدى أهم  الأسباب التي دفعت أنقرة إلى التلويح بمثل هكذا تحرك في الشمال السوري وفي هذا التوقيت بالذات.

ختاماً، لا تريد تركيا أن تستخدم هذه الورقة، أي الكرد، في أية تسوية مقبلة في المنطقة وبالتالي فإن الهدف التركي يتمحور في تحقيق كل ما سبق.

مصدر الأخبار: وكالات + سيتا.

مصدر الصور: روسيا اليوم – العالم.