إعداد: يارا انبيعة

لا تزال تسعى طوكيو إلى عقد اتفاق سلام مع موسكو ينهي آثار الحرب العالمية الثانية لا سيما فيما يتعلق بـ “جزر الكوريل”، التي سيطر عليها الإتحاد السوفياتي السابق في الأيام الأخيرة من الحرب. صراع طويل امتد أكثر من قرن ونيف، حيث تنظر كلا البلدين للأخرى بـ “عين المحتل”. فاليابان تعتبر روسيا محتلة للجزر الأربع، منذ الحرب العالمية الثانية 1945، أما الأخيرة فترى أنها استردت الأرض من “المحتل” الياباني بعد سيطرة دامت 40 عاماً، من العام 1905.

أجواء متوترة

صرح رئيس الوزراء الياباني، شينزو آبي لقناة “أساخي”، أن جزر الكوريل الجنوبية تتبع لبلاده، وأن موقفها إزاء التسوية لا يتضمن ترحيل المواطنين الروس المقيمين فيها (تظهر العديد من استطلاعات الرأي رفض معظم الروس إعادة الجزر فيما ويعتزم قوميون روس تنظيم مظاهرات لمطالبة الكرملين للإحتفاظ بها)، وأن حكومته تعد خطة تشمل تقديم اقتراح إلى الجانب الروسي للتخلي عن المطالبات البينية بشأن دفع التعويضات المتعلقة بالجزر الأربع، التي تصفها اليابان بمناطقها الشمالية.

في هذا الوقت، استدعت الخارجية الروسية السفير الياباني لدى موسكو، تويوهيسا كودزوكي، لتسليمه احتجاج روسيا على التصريحات الأخيرة للقيادة اليابانية حيال معاهدة السلام مع روسيا. وأعلنت الخارجية الروسية في بيان أن نائب وزير الخارجية، إيغور مورغولوف، أبلغ السفير الياباني بأن موسكو انتبهت إلى التصريحات الأخيرة الصادرة عن حكومة بلاده بشأن معاهدة السلام التي تهدف إلى “خلق فهم لدى سكان الكوريل الجنوبية بضرورة انتقال هذه الجزر لتبعية اليابان، والكف عن مطالبة روسيا بدفع تعويضات لليابان وسكان الجزر اليابانيين السابقين عن “تبعات احتلال هذه الجزر”.

كما لفتت الخارجية الروسية إلى أن تلك التصريحات تضمنت ادعاء بأن العام 2019 سيشهد “نقطة تحول” في قضية معاهة السلام بين اليابان وروسيا. وأكد البيان أن مورغولوف لفت انتباه السفير الياباني إلى أن تلك التصريحات “تحرف بشكل صارخ جوهر الإتفاقيات التي توصل إليها زعيما روسيا واليابان بشأن الإسراع بعملية التفاوض على أساس الإعلان المشترك للعام 1956 على نحو يربك المواطنين في البلدين فيما يتعلق بمحتوى المفاوضات.”

واعتبرت الوزارة أن تصريحات كهذه تمثل “محاولة لتوتير الأجواء بشكل مصطنع حول قضية معاهدة السلام وفرض السيناريو الياباني للتسوية”. كما شددت على ثبات موقفها المبدئي الذي يؤكد أن تسوية مشكلة معاهدة السلام مع اليابان يجب أن تجري في ظل بلورة أجواء جديدة نوعياً في العلاقات الروسية -اليابانية، وأن تكون مدعومة من قبل شعبي البلدين وتستند إلى اعتراف طوكيو غير المشروط بنتائج الحرب العالمية الثانية كافة، بما في ذلك تبعية جزر الكوريل الجنوبية للسيادة الروسية.

في موقف روسي آخر، أعلنت المتحدثة الرسمية بإسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أن موقف موسكو بشأن توقيع معاهدة السلام مع اليابان لم يتغير، وقالت زاخاروفا “العمل مستمر، موقفنا بهذا الصدد لم يتغير، إذا كان لدينا أية اخبار محددة حول أي تنسيق ومواعيد عقد اجتماعات، سنطلعكم على الأمر لا شيء جديد حتى الآن.”

“حل وسط”

رأت صحيفة “جابان تايمز” اليابانية أن العام 2019 يمثل اختباراً حقيقياً لدبلوماسية رئيس الوزراء آبي على الجهود المبذولة لضمان عودة جزر الكوريل، موضحة أنه من المتوقع أن يلاقي مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين في، يونيو/حزيران 2019 خلال اجتماعات مجموعة العشرين.

يرى العديد من المراقبين بأن تكون القمة مع الرئيس بوتين بمثابة “مقامرة حاسمة” بالنسبة لآبي، الذي يتوق إلى تسوية نزاع إقليمي طويل الأمد، إذ يبدو بأنه متجه إلى إيجاد “حل وسط” من خلال استعادة اثنين فقط من الجزر الأربع المتنازع عليها قبالة هوكايدو.

التمدد الروسي

في هذا الوقت بالذات ومع تصاعد قوتها، لا يبدو من المتوقع أن تقوم روسيا بالتنازل عن أية رقعة أرض تسيطر عليها؛ بل وأكثر من ذلك، هي لا تزال تفتش عن اكتشاف نقاط أخرى من أجل توسيع جغرافيتها (على غرار ضم العديد من الجزر في القطب الشمالي واعتبار الأمم المتحدة بحر أوخوتسك تابعاً للجرف القاري الروسي) وهذا ما يعني الكثير.

في القانون الدولي هذا يعني الكثير. بالنسبة إلى تلك الجزر بالذات تعتبر مدخلاً أساسياً لبحر أوخوتسك في الشرق الروسي، وبالتالي قد تكون قاعدة دفاع أولية عن البلد الأم في حال نشوء أي نزاع في المنطقة، وهو أمر دائم التوقع، وحصناً طبيعياً أمام هذا البحر. أيضاً، إن هذه الجرز يستفاد منها كـ “نقاط أساس” لتحديد البحر الإقليمي لموسكو، الذي يقع تحت السيادة الروسية بحسب نصوص القانون الدولي أيضاً، وما ينتج عنها من حساب لـ “المناطق الإقتصادية الخالصة”، وغيرها. 

انطلاقاً من النقطة الأخيرة تحديداً، تختزن منطقة الشرق الأقصى، وبحسب العديد من الدراسات الحديثة، في باطنها الكثير من الموارد الطبيعية، وبالتالي إن أي تنازل عن بقعة جغرافية ما سيكون خسارة للأرض وما عليها وما تحتها، وهو الأهم اليوم خصوصاً في ظل الصراع المتزايد على موارد الطاقة وخطوط امداداتها.

إن وجود تلك المواد “يغري” اليابان أيضاً، بالإضافة إلى المطالبة باليابسة، خصوصاً وأنها تستورد الغاز الروسي المستخرج من جزيرة سخالين عبر أنابيب تصل إليها. فعند عودة تلك الجزر والقدرة على الإستثمار في ثرواتها، ستفقد روسيا عميلاً مهماً للغاز في تلك المنقطة، إضافة بأن هذا المنتج لن يشكل مستقبلاً عامل ضغط قوي على طوكيو في حال تجددت التوترات في تلك البقعة من الكرة الأرضية، وهو ما يتخوف منه الجميع لا سيما مع وجود العنصر الأمريكي “الموتر” في تلك المنطقة.

إضافة إلى الموارد الطبيعية، لا يمكن إغفال موضوع الثروات البحرية والصيد، فاليابان دولة معروفة بصيدها وتعليبها للأسماك وهو أمر حيوي جداً في اقتصادها، وقطاع لا يمكن الإستهانة به. وبالتالي، إن الإستثمار في هذا القطاع هو أيضاً محط اهتمام للدولتين، وقيام أحد بالتنازل، بدون اتفاقية على تقسيم الثروات، هو أمر بالغ الصعوبة إذ لم نقل إنه من المستحيلات.

ماذا عن واشنطن؟

يقول البروفيسور هيسورو ناكامورا، من جامعة تسوكوبا باليابان، إن السبب الرئيس في سعي آبي لعقد معاهدة سلام هو أن البلدان المجاورة لليابان، “الصين والكوريتين، لديها تناقضات معها. لذلك، يريد آبي إقامة علاقات ودية مع روسيا بحيث لا تبقى طوكيو وحيدة في الشرق الأقصى، ولكن اتضح بأن هناك عدداً من القضايا الخلافية لم تتم تسويتها بعد، بين البلدين، وهذه مشكلة بالنسبة لآبي.

وفيما يخص الولايات المتحدة في قضية الكوريل، يقول ناكامورا “للولايات المتحدة تأثير على اليابان، فهي تخشى من فقدان قواعدها العسكرية بعد إبرام معاهدة سلام بين اليابان وروسيا، وأن نشر قوات أمريكية ممكن، لأن الحرب الباردة في أوروبا بدأت بالفعل. وفيما إذا وضعت الولايات المتحدة قوات في جزر الكوريل، فسوف يكون ذلك بمثابة انتصار للأمريكيين على الصين.”

وعن علاقة اليابانيين بالروس اليوم، أوضح ناكامورا أن اليابانيون يعتبرون روسيا “هي بلد بوتين، ربما تعلمون رواج الروزنامات مع صورة بوتين في اليابان، معظم اليابانيين، وحتى الوطنيين، يريدون قائداً قويا مثل بوتين، يمكنك أن تقول إن القوميين يحترمون بوتين. يعي آبي الرأي العام ويأخذه بعين الإعتبار في علاقته بالرئيس الروسي، واعتقد أن آبي سوف يسعى إلى (ايجاد) حل وسط من أجل إبرام معاهدة سلام على أساس الإعتراف بنتيجة الحرب.”

ويرى البروفيسور ناكامورا أن آبي “يسير بحذر، خطوة فخطوة، نحو حل وسط مع بوتين، بحيث لا ينفجر الشعب الياباني والولايات المتحدة، بهذا المعنى، كما من المهم جداً أن يذهب آبي إلى موسكو الأسبوع المقبل أم لا، قد يكون قراره بشأن هذه المسألة تاريخياً.”

تأكيداً على كلام البروفسور ناكامورا، لا يمكن عزل واشنطن على الموضوع لأسباب عديدة؛ أهمها اعتبار اليابان إحدى حلفائها المستقبليين لمواجهة الصين (العدو التاريخي لها)، وانتقال الثقل الإقتصادي من الغرب إلى الشرق وهو ما تشير إليه الغالبية العظمى من التقارير، ورغبة واشنطن في التأثير على الصعود الروسي السريع، وغير المتوقع، من خلال إغراقه بالأزمات (بين الشرق والشرق الأوسك وأوروبا والغرب) بهدف الحدث من صعوده.

ومع وجود العديد من التفاهمات والإتفاقات والمنظمات التي تجمع ما بين الصين وروسيا، تنظر الولايات المتحدة بعين الريبة إلى الدولتين، وهي تسعى جاهدة إلى وقت توسع أو تمددهما لا بل محاولة محاصرتهما من أجل عدم التأثير على مصالحها ومشاريعها المستقبلية.

في الختام، قد يبدو التوافق بين دول المنطقة هو الحل الأساسي والسليم لأية علاقات مستقبلية، ف، “أهل مكة أدرى بشعابها”، وهم أقدر على تحديد مصالحهم بالشكل الذي يؤمن الإستقرار في تلك المنقطة، التي بدأت علامات “السخونة” تظهر في أفقها. وقد يبدو من المجدي البحث عن إدارة، إذا لم نقل منظمة، تجمع الدول المتواجدة في تلك المنقطة، كروسيا والصين واليابان، تحدد الأهداف المشتركة وتعمل عليها من أجل من التدخلات الغريبة فيها، إذ أنها الوحيدة التي ستدفع الثمن، من مواطنيها واقتصاداتها، في حال نشوب أي نزاع عسكري فيها، والذي لم يكون مجرد أمر عابر.

مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.

مصدر الصور: ميدان الأخبار – إرم نيوز – أرشيف سيتا.