إعداد: يارا انبيعة
في العام 1987، وقع كل من الرئيس الأميركي الراحل، رونالد ريغان، والزعيم السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، المعاهدة الشهيرة بإسم ” معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى”، والتي أدت إلى التخلص من نحو 2700 صاروخ قصير ومتوسط المدى، وبالتالي وضعت حداً لأزمة التسلح التي اندلعت في ثمانينيات القرن الماضي.
من أبرز بنود تلك المعاهدة منع كل من واشنطن وموسكو من امتلاك أو تصنيع أو تجريب صواريخ “كروز” متوسطة المدى، ما بين 500 و5500 كلم، حيث شكل الاتفاق حلاً لأزمة الصواريخ البالستية المتبادلة، غير أنه لم يضع قيوداً على قوى أساسية أخرى مثل الصين كون الإتفاقية ثنائية وليست جماعية مفتوحة.
اليوم، تتبادل الدولتان الإتهامات بخرق المعاهدة ليعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب في العام 2018، نيته الإنسحاب منها ما لم تنفذ روسيا التزاماتها التي انتهكتها، بحسب رأيه.
تعليق المشاركة
لم يتأخر كثيراً الرد الروسي على قرار الولايات المتحدة تعليق المشاركة في المعاهدة. فبعد مرور أقل من 24 ساعة على الإعلان الأميركي، قرر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، القيام بخطوة مماثلة معلناً تعليق الإلتزام بالمعاهدة، مؤكداً أن بلاده سوف تتخذ رزمة خطوات جوابية أخرى، بينها المباشرة في تطوير صاروخ فرط صوتي أرضي متوسط المدى.
كما كرر الرئيس بوتين اتهامه لواشنطن بالعمل على تقويض هذه المعاهدة التي تشكل ركنا أساسياً في الأمن الاستراتيجي في أوروبا كونها تحظر على الطرفين تطوير قدرات صاروخية نووية متوسطة وقصيرة المدى ونشرها في القارة الأوروبية. في المقابل، شدد الرئيس الروسي على رفض اتهامات مماثلة من جانب واشنطن لبلاده، وقال إن روسيا لم تنتهك المعاهدة، مشيراً إلى أن واشنطن بادرت إلى توجيه ضربة قوية للمعاهدة عبر نشر منصات إطلاق من طراز “إم كي – 41” في أوروبا ما يعتبر انتهاكا سافراً للمعاهدة لأن هذه المنصات تشكل بنية تحتية جاهزة لتزويدها في وقت لاحق بالأنظمة الصاروخية المحظورة.
وبالرغم من الإشارة إلى أن بلاده ستواصل السعي للوصول إلى اتفاق ينقذ المعاهدة الصاروخية، أمر الرئيس بوتين وزيري الخارجية والدفاع بعدم المبادرة إلى اجراء مفاوضات جديدة مع واشنطن حول قضايا نزع الأسلحة قبل أن “ينضج شركاؤنا للتعامل معنا بشكل متكافئ وندي”، وهي عبارة رأت فيها أوساط روسية إقفالاً لباب الحوار، في الوقت الحالي على الأقل، لكنها حملت الرئيس ترامب المسؤولية عن هذه النتيجة كونه بادر إلى إعلان تعليق عضوية بلاده بالمعاهدة. أيضاً، أشار الرئيس بوتين إلى أن روسيا لن تنشر الصواريخ في أوروبا أو في أية مناطق أخرى ما لم تفعل الولايات المتحدة ذلك.
تطوير القدرات
في ذات الوقتـ تحدث الرئيس بوتين عن خطوات عملية ستتخذها روسيا في إطار تطوير قدراتها الصاروخية للإبقاء على التوازن مع الولايات المتحدة، معلناً أنه يؤيد اقتراح وزارة الدفاع ببدء العمل على نشر صواريخ “كاليبر” المجنحة على اليابسة (علماً بأن صواريخ “كاليبر” الروسية كانت تنشر سابقاً في الغواصات والسفن الحربية ولم تنشر على البر بسبب القيود التي كانت تفرضها المعاهدة)، وفتح مسار جديد للعمل على إنتاج صاروخ فرط صوتي أرضي متوسط المدى.
وبرغم إشارته إلى الشروع بتطوير قدرات صاروخية جديدة فائقة القوة، أكد الرئيس الروسي أن موسكو لا تخشى الإنزلاق إلى سباق تسلح جديد، معتبراً “أن روسيا لن تنجر إلى سباق تسلح مكلف في ردها على انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ، والطرازات والأجيال الجديدة من الصواريخ التي سيتم إنتاجها ستكون ضمن موازنة التسلح المرصودة.”
إلى ذلك، كلف الرئيس بوتين وزارة الدفاع بتقديم تقرير شامل حول سبل مواجهة الخطر الذي قد ينجم عن نشر بلدان أسلحتها في الفضاء، في إشارة لافتة إلى توجه موسكو لتحدي الولايات المتحدة في الفضاء، معرباً عن عزمه الإشراف بشكل مباشر على عملية إدخال الأسلحة الجديدة حيز الخدمة لدى القوات المسلحة قاصداً “كينجال” أو “الخنجر” فرط الصوتي، ومنظومة “بيريسفيت” الليزرية، التي قد تم تزويد القوات بها، إضافة إلى منظومة “أفانغارد” الصاروخية الإستراتيجية النووية فرط الصوتية، التي انتهت فترة الإختبارات عليها وبدأ تصنيعها بالفعل.
إنتاج غير منهك
إن موضوع عدم خشية روسيا من خوض سباق تسلح جديد كان مادة لتعليقات خبراء عسكريين روس أكدوا فيها أن القدرات الحالية لدى سلاح الصواريخ تسمح بتطوير أجيال جديدة من دون تخصيص موازنات كبيرة إضافية، وهذا وفقاً للفريق أول فيكتور إيسين، القائد السابق لأركان القوات الصاروخية الإستراتيجية الروسية، الذي لفت إلى أنه بوسع روسيا، ومن دون عناء، استئناف إنتاج الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى.
وشدد إيسين على أن التطورات، بعد فسخ واشنطن المعاهدة، ستتعلق بشكل مباشر بسلوك الولايات المتحدة، موضحاً أنه إذا أقدم الأميركيون على نشر هذه الصواريخ في أوروبا، فإنهم بذلك سيؤججون التوتر الصاروخي مع روسيا، لكنهم إذا اكتفوا بنشرها في منطقة المحيط الهادي، فلن يثيروا قدراً كبيراً من التوتر.
الأمن الأوروبي في خطر
لا تريد أوروبا أن تتحول إلى “ساحة” معركة حيث تواجه القوى الكبرى بعضها. هكذا وصفت فيديريكا موغيريني، وزيرة خارجية الإتحاد الأوروبي، عقب اجتماع للتكتل، في بوخارست، مناقشة مخاطر انسحاب واشنطن من معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى.
بحسب الرواية الأمريكية، أدت الإنتهاكات الروسية، بتطويرها صواريخ “9 إم 729″، السبب في انسحاب واشنطن، إذ أكد وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، أن عدم الإنصياع لبنود الإتفاقية وضع حياة الملايين والأوروبيين في خطر كبير، منوهاً بأن مهمة الولايات المتحدة الرد بشكل مناسب.
وبحسب شبكة “سي.إن.إن”، أن انسحاب الولايات المتحدة يضع أمن القارة الأوروبية أكملها في خطر كبير لم تشهده منذ الحرب الباردة. في المقابل، ترى القناة أن انسحاب أمريكا يضع العديد من التساؤلات حول سباق التسليح بين الولايات المتحدة وروسيا، مؤكدة أن أوروبا أصبحت تواجه تهديدات عظمى.
وفور إعلان الولايات المتحدة انسحابها، أعرب العديد من وزراء الخارجية الأوروبيين عن قلقهم، حيث قال وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس في بوخارست، إنه “بدون معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى سيكون هناك أمن أقل”، مشيراً إلى أن الخروقات الروسية كانت السبب. وفي برلين، قال المتحدث بإسم الحكومة، شتيفان زايبرت، أن ألمانيا سوف تجري محادثات مع شركائها بحلف شمال الأطلسي – الناتو بشأن الإجراءات الضرورية لضمان الردع والقدرات الدفاعية للحلف، بدون معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى، وأضاف “إذا أعلنت أمريكا انسحابها، فسوف تكون الكرة في ملعب موسكو لإنقاذ المعاهدة.”
كما حث وزير الخارجية المجري، بيتر زيجارتو، الجانبين على التعاون مشيراً إلى أن بلاده تعلمت درساً واضحاً من التاريخ مفاده “عندما يكون هناك صراع بين الشرق والغرب، دائماً ما يخسر الواقعون بوسط أوروبا”. أما وزير خارجية لوكسمبورج، جان أسيلبورن، فقال “جغرافياً، نحن من سيعاني في حال عودة التسلح على الأجندة”، داعياً الفريقين إلى استخدام فترة الستة أشهر في الحوار. وقال نظيره البلجيكي، ديدييه رايندرز، إن الإنسحاب من المعاهدة ليس النهج الصحيح للنضال من أجل حظر انتشار الأسلحة النووية.
الصين: لعدم الإنسحاب
قالت وزارة الخارجية الصينية إنه يتعين على الولايات المتحدة حل خلافاتها مع روسيا عن طريق الحوار بدلاً من التهديد بالإنسحاب من هذه المعاهدة المهمة التي لها أهمية كبرى في تحسين العلاقات بين القوى العظمى، ودعم السلام العالمي والإقليمي وحفظ التوازن والإستقرار الإستراتيجيين العالميين، مشيرة إلى أن بكين تعارض إقدام واشنطن على الإنسحاب، حاثةً الطرفين على معالجة خلافاتهما على نحو ملائم عبر حوار بناء لأن الإنسحاب أحادي الجانب قد يؤدي إلى “عواقب وخيمة”.
وقالت وزارة الخارجية الصينية إنها لا تحبذ صياغة اتفاق متعدد الأطراف للحد من انتشار الأسلحة لتحل محل معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى مضيفة أن هذه القضايا شديدة التعقيد وأنه ينبغي بدلا من ذلك الحفاظ على المعاهدات المبرمة وتطبيقها.
ختاماً، في حين يشار بأصابع الاتهام إلى الجانب الروسي، الذي سعى لإمتلاك منظومة صواريخ باليستية متوسطة المدى بالمخالفة لنصوص المعاهدة، يرى البعض الآخر أن ترامب يريد خلق أزمة ليتحرر من المعاهدة ويدخل في سباق التسلح النووي مع الصين. فواشنطن بإلقائها اللوم على روسيا، تهدف إلى الدخول في حقبة جديدة من المنافسة الإستراتيجية مع الصين، في مياه المحيط الهادئ جنوب شرق آسيا، وتخشى تفوق الصين التي لا تعد طرفاً في الإتفاقية.
بالمفهوم الأمريكي، يمكن للأيام الأولى أن تحدد مصير أي حرب مستقبلية؛ لذا، على واشنطن امتلاك قدرات عسكرية تمكنها من الوصول إلى قلب الأراضي الصينية، في أي مواجهة محتملة. فإذا لم تملك القدرة على ضرب قواعد الصواريخ المضادة للسفن الموجودة داخل الأراضي الصينية، فستقتصر قدرات واشنطن العسكرية في المنطقة على قواعدها الموجودة في اليابان، إضافة إلى إرسال سفنها الحربية للمياه القريبة من سواحل الصين.
مصدر الأخبار: وكالات.
مصدر الصور:موقع الأمن والدفاع العربي – موقع الكرملن – وكالة الأنباء الكويتية “كونا”.