كاميل غيل*

في كتاب سامويل برنارد كوهين “الجغرافيا والسياسة في عالم منقسم” الذي نشر في العام 1963، عالج العالم الجغرافي والسياسي قضية هيكل النظام الدولي. وبصرف النظر عن تعريفه لمنطقتين جيو – سياسيتين أساسيين، قدم كوهين مفهوم “الأحزمة المحطمة”، أي المناطق التي تميل إلى عدم الإستقرار، والتي عادة ما تكون عرضة للعديد من النزاعات، فضلاً عن تلك التي تشكل أهمية أساسية من وجهة نظر القوى العظمى المتنافسة، وإحداها “الشرق الأوسط”.

وعلى الرغم من مرور أكثر من 50 عاماً على نشر الكتاب لأول مرة وإهتمام العالم بالصعود الصيني ودور بكين في هذا المجال، إلا أن منطقة الشرق الأوسط، ولعدة أسباب، لا تزال مفتاح السياسات الدولية، كون مشاكلها الداخلية ذات طبيعة عابرة للحدود، بسبب تأثيراتها، بحيث تتخطى بقعته؛ ففي أغلب الحالات، تعتبر تلك المشكلات العنصر الأساسي في “لعبة” الأطراف العالميين.

ويمكن ملاحظة ذلك على وجه الخصوص في حالة الإضطراب حول “مؤتمر وارسو” الخاص بالشرق الأوسط، والذي عقد في 13 – 14 فبراير/شباط 2019. فعلى الرغم من أنني قد حصلت بالفعل على تغطية ما بعد المؤتمر من قبل الصحفيين والخبراء، لكنني ما زلت أود أن أدعوكم بصدق لقراءة تحليل ذاتي لتلك المبادرة التي قمت بإعدادها خاصة بالنسبة لقراء “مركز سيتا”.

في التحضيرات

لا يمكن للمرء أن يحلل على نحو مناسب الأحداث في السياسة الخارجية دون الحفاظ على نهج موضوعي يتمكن عبره من النظر إلى العالم بعيون الآخرين. وبالرغم من أن الكثيرين قد يتهمونني بـ “المثالية المفرطة”، غير أني أعتقد بأن هذا النهج فقط، والذي يجب تبنيه متى كان ذلك ممكناً، هو ما يقرب الباحث أو المحلل من الشكل الفعلي للأحداث التي تتم مناقشتها. فلو قارب المعلقون، المرتبطون بمراكز الحكم، “مؤتمر وارسو الشرق أوسطي” بهذه الطريقة لربما كانت ساعدتهم على تجنب العديد من خيبات الأمل المريرة و”الشغف” الدعائي، حيث بات عليهم الإنتهاء منها.

أولاً: إن الجو العام للمؤتمر قبيل إنطلاق أعماله، كان سخيفاً للغاية. فعلى النقيض من التقاليد الدولية المتبعة، من أعلن عن هذا المؤتمر هو وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، لتتدارك بعدها وزارة الخارجية البولندية الموقف وتصدر، في وقت لاحق وعلى وجه السرعة، بياناً حوله. هذا الموقف، أحدث موجة من التعليقات على موقع “تويتر” من قبل البولنديين الذين تساءلوا عما إذا كان الأمريكيون قد أبلغوا حكومة بلادهم به أم لا. فإذا لم يكونوا قد أبلغوها، فهناك مشكلة كبيرة تتمثل في شعورهم بأنهم يعاملون معاملة “جمهوريات الموز”.

ثانياً: عند الإعلان الرسمي، منح المؤتمر عنواناً فخماً وهو “تعزيز مستقبل السلام والأمن في الشرق الأوسط”، وقد تبنت الحكومة البولندية ذلك خصوصاً خلال المفاوضات الطارئة مع الجانب الإيراني. غير أن أفضل المفاوضين البولنديين حتى، وليس لدينا الكثير من هؤلاء في وزارة الخارجية، لم يستطيعوا تغطية الحقائق وأكثرها غموضاً والمتمثلة في قائمة الضيوف المدعوين مثل: إسرائيل، والمملكة العربية السعودية، وقطر، وبريطانيا العظمى، والولايات المتحدة. والسؤال هنا: ما الذي يمكن فعله من خلال هذه المجموعة؟ الحديث عن السلام؟ ماذا عن روسيا والصين وإيران ولبنان وفلسطين؟ وبغض النظر عن التعاطف أو الكراهية المتبادلة، فإن السياسة الخارجية لا تتمحور على مفهوم الصداقة بل على حل المشكلات وترتيبها. إذاً، هل يمكن “ترتيب” السلام في الشرق الأوسط دون وجود اللاعبين الرئيسيين في المنطقة على الطاولة؟ لا اعتقد ذلك. ما الذي يمكن فعله إذاً؟ على سبيل المثال، يمكن تجميع تحالف عسكري، أو على الأقل البدء به. من خلال الظروف الحالية، يمكن اعتبار ذلك الأمر الأكثر منطقية وعقلانية.

عند تجميع الحقائق، ماذا عن منظمة “مجاهدي خلق” الإيرانية، والتي كانت تعتبر منظمة إرهابية قبل بضع سنوات؛ أما اليوم، فهي تعتبر “حركة رسمية مؤيدة للديمقراطية”؟ يأتي ذلك من خلفية تأمين الملاذ الآمن من قبل ألبانيا، بالإضافة إلى التمويل الذي تتلقاه من الإدارة الأمريكية لتوسيع عمل شبكاتها. فضمن دائرة “الصقور” في واشنطن، يتم الترويج لها على أنها البديل الحقيقي للحكومة الحالية في إيران، حيث تتلقى دعماً هائلاً من الخارج، لكن طهران لا تأخذها على محمل الجد.

في الولايات المتحدة، يتم تقديم الدعم للمنظمة من قبل رئيس بلدية نيويورك السابق، رودي جولياني. إضافة إلى ذلك، كشف الحدث في وارسو أيضاً عن المتعاطفين البولنديين مع هذه المنظمة الذين يعتبرونها فئة يجب أن تنال الإحترام اللازم. ويعتبر أحد أهم الداعمين لها، عضو مجلس النواب ستيفان نيشوالوسكي، المتهم بقبول رشاوى على شكل خدمات جنسية بلغ عددها 29 على مدى عامين. كثيرة، أليس كذلك؟

في المؤتمر

شارك في مؤتمر وارسو ما يقارب على الـ 60 دولة من جميع أنحاء العالم. ومع تضمنه لعدة مستويات من الإهتمامات التي تدرجت بين المهم والأهم، لكن أكثرها إثارة في رأيي الشخصي يمثل في حدثين:

الأول: تسجيل مناقشات وزراء خارجية الدول العربية التي كشفت لوسائل الإعلام المكتب الصحفي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو.

الثاني: خطاب نائب الرئيس، مايك بنس. لماذا؟ لأنه وفي لحظة واحدة وخلافاً لنوايا الجانب البولندي، تم وضع حد لأسطورة الطابع “السلمي” لهذا المؤتمر، مما ثبت رأي منتقديه بأنهم كانوا على حق.

بما يتعلق بأمر التسجيل، فإنه يقدم مقتطفاً مدته 25 دقيقة من نقاش دار بين وزراء الخارجية العرب من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين. على أي موضوع؟ الدولة الإسلامية؟ الإرهاب؟ الإسلام المتطرف؟ لا: إيران، ونشاطها في المنطقة، وبرنامج الصواريخ وعلاقتها الأساسية المزعومة في زعزعة الإستقرار في المنطقة، بالإضافة إلى الإنتقاد الصارم للإتفاق النووي. من قام بنقل هذه الرسالة؟ بداية، من الصعب التخلص من الإنطباع المتمثل بقيام ممثلي الحكومات “الملكية” النفطية، طوال هذا الوقت، بترداد كل ما يصدر عن واشنطن وتل أبيب. على أية حال، لم يخفِ هؤلاء ارتباطهم العاطفي مع تلك الأخيرة؛ فالإقتناع بحق إسرائيل في ضرب الأراضي السورية، كانت الجملة الأكثر ترداداً خلف جدران المؤتمر.

لقد استغل نتنياهو هذا المؤتمر كنقطة انطلاق قبل نهاية حملته الإنتخابية، حيث أرسل رسالة، عبر هذا التسريب، إلى حلفائه العرب والبولنديين على حد سواء مفادها “إبقَ في مكانك ضمن الخط”. إضافة إلى ذلك، أصر وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية، عادل الجبير، على إعطاء درس عن الديمقراطية للمجتمعين، معرباً عن أمله في تحوُّل إيران السريع إلى “بلد طبيعي”. ولكن بالنظر إلى التجارب السعودية في مجال النظام الحكومي، لا يسعني إلا أن أشفق على الإيرانيين العاديين.

أيضاً، لم يتم تصحيح هذا الوضع من قبل نائب رئيس الولايات المتحدة، مايك بنس. فخلال خطابه، انتقد بشكل صريح وصريح دول أوروبا الشرقية، التي قررت التمسك بالإتفاق النووي مع إيران، مطلقاً “حملة صليبية” ضد إيران بإستخدام مفردات وتعابير تناسب أكثر مع تجمع بروتستانتي أكثر منه اجتماع سياسي. فلقد اعتبر أن بلاده تمثل “قوى الخير” الوحيدة في الشرق الأوسط في مواجهة النظام الإيراني “الشرير” و”المتعطش للدماء”، والذي كان يعد لـ “هولوكوست” جديدة. فخطابه، الذي كان يمكن أن يؤثر لو تم بطريقة مختلفة، إذ لم يكرر فقط كل أخطاء الفكر الأمريكي فيما يتعلق بالسياسة الخارجية بل أيضاً وضع حداً لما أطلق عليه “مؤتمر سلام”.

في الخلاصات

إن قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا خلق نوعاً معيناً من الفراغ الإستراتيجي في المنطقة، والذي من المرجح أن تملأه روسيا وإيران لا سيما في الوضع السياسي الحالي. بالطبع، هذه الصفقة غير مربحة بالنسبة للولايات المتحدة وهنا جاءت فكرة تنظيم “مؤتمر وارسو للشرق الأوسط”. لقد أرادت واشنطن جمع حلفاءها في مكان واحد، مظهرة بأنها ما زالت تراقب المنطقة عن كثب ولديها خطة محددة فيما يتعلق بها. فهل نجحت؟

موضوعياً، لا يمكن للمرء أن يتحدث عن أي نجاح أو معنى للمؤتمر. قبل كل شيء، لقد افتقد إلى وجود لاعبين مهمين في المنطقة، وهذه أولى نقاط الضعف. أنا لا أفكر في إيران هنا، رغم أن ذلك سيكون أمراً بديهياً؛ بل في غياب ممثلين عن فلسطين، إذ من الصعب بالفعل مناقشة حل للصراع مع إسرائيل بوجود الأخيرة فقط. إن مبدأ “لا شيء عنا من دوننا” في الدبلوماسية لا يزال حاضراً ومهماً.

وتبرز نقطة الضعف الثانية في عدم وجود رؤية واضحة للمؤتمر، فكل ما تمخض عنه لا يعدو سوى إثارة للحرب ضد دولة مستقلة، والخطاب الديني لمايك بنس الذي لا يمكنه إقناع أي شخص عاقل، ناهيك عن تأجيل الإعلان عن خطة مستشار الرئيس الأمريكي، جاريد كوشنر. وبالتالي، لم يتم التوصل إلى توافق في الآراء بشأن أي من القضايا المهمة. يمكن للمرء أن يقول إن المؤتمر كان مجرد خطوة أولى في الإتجاه الصحيح، ولكن هل هو مجرد أمنيات؟

ختاماً، أشعر بأنني مضطر لتقديم هذه المسألة من وجهة نظرنا كبولنديين. عندما سمعت أن بولندا ستنظم مؤتمراً حول السلام في الشرق الأوسط، فرحت كثيراً لأنني أعتقدت أن بلادنا لديها الكثير لتقدمه للناس الذين يعيشون هنا؛ وبقليل من الحظ، يمكنها الإستفادة من إمكاناتها في مواجهة التأثيرات الضارة لسياسة الدول الكبرى، حتى لو اقتصرت على مساعدة الناس العاديين في مناطق النزاع. لكن حماستي اختفت بسرعة. فقلد لخص الإعلام المحلي الأمر: لقد تحولت بولندا من مشارك ضمن السياسة الخارجية الأمريكية إلى أداة بيدها، فهي لم تحصل على أية فائدة ملموسة، خصوصاً وأن الحكومة الحالية قد وعدت الناخبين بـ “النهوض من على الركبتين”، إلا أننا نلاحظ مزيداً من الغرق إلى الأسفل لا أكثر. نحن لسنا سعداء على الإطلاق.

*باحث في العلاقات الدولية – بولندا.

مصدر الصور: الجزيرة – موقع قيام – قناة العربية.