أمجد إسماعيل الآغا*

في سياستها الرامية إلى إحداث فالق استراتيجي بين منظومة العلاقات الإقليمية والدولية بالإضافة إلى تحشيد على المستويين الإقليمي والدولي لمواجهة ما يسمى “الخطر الإيراني”، لجأت واشنطن إلى جذب حلفائها والسائرين في ركبها، إلى عقد “مؤتمر وارسو”، الذي أُريد له أن يكون اللبنة الأولى في التأسيس لـ “شبكة علاقات” تكون إسرائيل أحد أضلعها الرئيسية، من أجل الولوج إلى عمق “صفقة القرن”، والشروع الفعلي والعملياتي في تطبيقها واقعاً، مع بلورة جملة من الجهود، وبناء إصطفافات جديدة تكون أساساً لمواجهة إيران في المنطقة، وما يتم الترويج له أمريكياً وإسرائيلياً وخليجياً عن ضرورة وضع حد للنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.

لكن الواضح أن هذا المؤتمر الأمريكي – الإسرائيلي شكلاً ومضموناً، له أبعاد أكثر شمولية في المنطقة، ويحمل سياسات بعيدة المدى من أجل الخوض في استراتيجيات جديدة تكون في ماهيتها بداية لتشكيل خارطة جيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يؤكد أن واشنطن تسعى، وبرغبة إسرائيلية، للشروع في تطبيق بنود “صفقة القرن”. ولعل من أبرز هواجس الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، هو بروز قوى إقليمية، كإيران وتركيا، اللتان تعتبران من الفاعلين الأساسيين فيما يخص إمكانية التأثير على الخطة الأمريكية، إضافة إلى قوى أخرى أكثر فاعلية، كروسيا والإتحاد الأوروبي الساعي للخروج من السطوة الأمريكية سياسياً واقتصادياً. وعليه ومع بروز هذه القوى، فإن الموجبات الأمريكية تستدعي توجهاً جديداً يتناسب مع إدراك الإدارة الأمريكية في تناقص مصالح القوى الدولية والإقليمية من التوجهات والسياسيات الأمريكية الجديدة، سواء تلك التي تسعى لتمرير “صفقة القرن”، أو مواجهة ما يسمى بـ “النفوذ الإيراني” في المنطقة، أو تلك القضايا الجوهرية التي ترتبط بشكل مباشر بالعمق الجيو – سياسي للشرق الأوسط.

في شكل المؤتمر الأمريكي، كان واضحاً أن هناك رفضاً روسياً أوروبياً لمضامينه خاصة أن واشنطن تسعى للتفرد بترتيب الأوضاع السياسية والعسكرية للشرق الأوسط، الأمر الذي لا يتفق مع التوجهات الروسية حيال ملفات المنطقة، وكذلك التوجهات الأوربية الساعية إلى بلورة منظومة اقتصادية بإطار سياسي، مع هواجس أوروبية جمة خاصة المتعلقة بعودة الإرهاب إلى القارة العجوز. وبين التوجهات الروسية والأوروبية، هناك قاسم مشترك بينهما ألا وهو النهج الذي انطلق منه “مؤتمر وارسو” لجهة مواجهة إيران، وهذا ما يؤكده مايكل سينغ، في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب أثناء شهادته أمام الكونغرس الأمريكي، إذ يقول “تمر الولايات المتحدة في خضم تحول استراتيجي واسع بعيداً عن التركيز على الحرب العالمية على الإرهاب ونحو التشديد على التنافس بين الدول العظمى، وخاصة مع روسيا والصين، وفي حين أن خيارات السياسة المنفصلة التي تشهد هذا التحول ما تكون مثيرة للجدل، إلا أن التغيير في التوجه الاستراتيجي هو الذي اتبعته الإدارات الأمريكية المتعاقبة ويعكس إجماعاً عميقاً بين الحزبين”.

ويضيف سينغ “ويكمن التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في كيفية تأمين مصالحها في المنطقة ومنع المنافسين من تحقيق المكاسب على حسابها، وفي الوقت نفسه إعادة تخصيص الموارد من التزامات تجاه الشرق الأوسط نحو أولويات أخرى، إن الإجابة الأكثر وضوحاً التي يتم تطبيقها إلى حد ما، هي العمل بأكبر قدر ممكن من خلال الحلفاء في المنطقة، وتكملة جهودهم بدعم أمريكي محدود، و مع ذلك فإن هذا النهج معقد من الناحية العملية.”

من خلال شهادة مايكل سينغ، يبدو من الواضح أن التوجه الأمريكي الجديد يقتضي الإعتماد على “الأدوات” بغية تمرير الاستراتيجية الأمريكية، وهذا ما بدا واضحاً في إطار “وراسو”، إذ عملت واشنطن خلاله على جمع العرب وإسرائيل ضمن هدفين، يراد لهما أن يكونا عنوان المشهد القادم للتطورات التي ستنطوي عليها مسارات الشرق الأوسط، فما بين إعلان “صفقة القرن” بكافة بنودها وجزئياتها، ومحاربة إيران والحد من نفوذها وتأثيرها الإقليمي، تكمن جل التوجهات الأمريكية الساعية والرامية إلى خلق إصطفافات جديدة تكون إسرائيل عرابتها.

إن كلاً من روسيا والصين والاتحاد الأوروبي يدركون حقيقة مفادها أن الخطة الأمريكية المسماة “صفقة القرن” إنما هي استثمار للواقع السياسي القائم في الشرق الأوسط في محاولة لتعديل ذلك الواقع بما يتناسب مع مصالحها الإستراتيجية، والذي سعت روسيا سلفاً إلى تغيير هذا الواقع من خلال عودتها للشرق الأوسط عبر البوابة السورية، وأصبح لها موطئ قدم ثابت في المنطقة وذلك ضمن تفاهم إيراني – تركي. واليوم، تخطو روسيا خطوة متقدمة في هذا الصدد بإنخراطها القوي في ملف المصالحة الفلسطينية عبر “مؤتمر موسكو”، والذي تراهن على نجاح محاولتها في رأب الصدع الفلسطيني، لأنه ببساطة سيمثل خلخلة كبيرة للخطة الأمريكية التي أحد ركائزها الأساسية استمرار الإنقسام الفلسطيني، وكذلك تراهن على نتائج “مؤتمر سوتشي” لرسم خطة نهائية لحل الأزمة السورية.

في إشارة لابد منها والتي تُشكل نقيضاً جوهرياً لـ “مؤتمر وراسو”، فلقد تزامن انعقاد “مؤتمر وارسو” مع “مؤتمر سوتشي”، الذي جمع روسيا وتركيا وإيران. وضمن هذا المشهد البانورامي، يبدو واضحاً أن الصراع بين القوى الإقليمية والدولية على ترتيب مناطق النفوذ الدولية، خاصة منطقة الشرق الأوسط، يتجلى في أكثر الصور وضوحاً. فما بين المؤتمرين، تُبنى سياسات وتتبلور إصطفافات، الأمر الذي يشي ببروز صراعات جديدة ستُعمر لوقت طويل في هه المنطقة.

ضمن ما سبق من معطيات، يمكننا القول بأن “مؤتمر وارسو”، في بولندا، و”سوتشي”، في روسيا، هما مبارزة تشبه تنازع القوى العظمى قبل الحرب العالمية الأولى على الشرق الأوسط. فالتنافس الروسي – الأمريكي، من خلال المؤتمران السابقان، بدا واضح التأثير. ففي وارسو، جمعت فيه الولايات المتحدة 60 دولة لبناء تحالف ضد إيران؛ وفي قمة سوتشي الثلاثية التي عقدت ما بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيراه التركي، رجب طيب أردوغان، والإيراني، حسن روحاني، وكان موضوعها الأساسي سوريا.

صحيفة “إندبندنت” البريطانية، قالت في تقرير لها إن “مؤتمر وارسو”، الذي حضره نائب الرئيس الأميركي مايك بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو وصهر الرئيس جاريد كوشنر، عقد تحت شعار “مؤتمر سلام”، إلا أنها كانت محاولة لدفع الحلفاء المترددين للمشاركة في تحالف دولي تقوده واشنطن ضد إيران، ويضم إسرائيل ودول الخليج. ويورد التقرير نقلاً عن بنس، قوله في كلمته أمام المؤتمر، إن “قادة المنطقة يتفقون على أن التهديد للسلام والأمن في الشرق الأوسط يتمثل في الجمهورية الإسلامية في إيران”، وذلك في خطابه الذي ألقى فيه الضوء على شجب إرهاب تنظيم الدولة (“داعش”) و”شجب الشعوبية الإسلامية الإيرانية”، بحسب كلام مايك بنس. إلى ذلك، قال بنس إن إيران دعمت المليشيات والجماعات الوكيلة، والنظام الإيراني يعد “أكبر راع للإرهاب في العالم”.

وتفيد الصحيفة بأن قادة إيران وروسيا وتركيا اجتمعوا برفقة مسؤولين عسكريين في منتجع سوتشي على البحر الأسود في الوقت ذاته، في محاولة من موسكو لإدارة تداعيات حرب الثماني سنوات في سوريا، والتي أصبحت نقطة رئيسية للتنافس الإقليمي. وتلفت الصحيفة إلى أن مبعوث السياسة الإيرانية في الخارجية الأميركية، بريان هوك، قلل من أهمية اجتماع سوتشي، وأكد على أهمية الإجتماع الذي تقوده الولايات المتحدة بالقول “ليست عملية متوازية، وقد دعونا روسيا، وأعتقد أنها كانت فرصة لا تفوت”.

ويجد التقرير أن التحالفات الفضفاضة تعاني من خلافات وانقسامات تحمل إمكانيات التفجر، مشيراً إلى أنها المرة الرابعة التي تلتقي فيها الترويكا لمناقشة مستقبل سوريا في سوتشي، وهي المرة الأولى منذ إعلان الولايات المتحدة عن خططها لسحب قواتها من المنطقة. وتستدرك الصحيفة بأنه رغم اتفاق الزعماء الثلاثة على موضوع سوريا، إلا أن القضايا الثلاث على الأجندة هي محل خلاف. فقد كشف انسحاب الأميركيين عن خلافات في الرأي بين الثلاثي، خاصة فيما يتعلق بمستقبل منطقة شمال شرق سوريا، التي تسيطر عليها وحدات كردية بدعم أميركي، وتريد تركيا، التي تتعامل مع الكرد على أنهم تهديد، مغادرة الوحدات الكردية، وأصدر الرئيس أردوغان تحذيراً حدد فيه مدة أسابيع لمغادرة المناطق الحدودية مع بلاده، وهو أمر لا يناسب لا روسيا أو  إيران.

في المقابل، لفت التقرير إلى أن التحالف الذي تقوده أميركا يعاني من النزاع والخلافات، فيقول مسؤول الشرق الأوسط في معهد أبحاث الشؤون الخارجية، آرون ستين، إن “كلا المؤتمرين في ورطة”، مشيراً إلى أن “وارسو هو مؤتمر دون أجندة، وعندما لا تكون لديك أجندة، فإن هذا يعني عدم وجود اتفاق، ودونه فأنت محروم من النصر الدبلوماسي لتحقيق الأهداف، أما سوتشي فلديه أجندة مشتركة لوقف الحرب السورية، لكنْ هناك خلاف على الأجندة.”

وتستدرك الصحيفة بأنه رغم تباهي وزير الخارجية البولندي بحضور 60 دولة، إلا أن معظم الدول الأوروبية تجنبت إرسال مسؤولين بارزين، بل كانوا من الدرجة الدنيا وموظفين في الخدمة المدنية، مهمتهم تسجيل الملاحظات، مشيرة إلى أن المؤتمر غلف بالسرية، ولم يتم الإعلان عن أسماء المشاركين، مع أن دول الخليج أرسلت وزراء خارجيتها.

بالتالي، إن النقطة المحورية التي شكلت أظهرت في جزئياتها تبايناً واضحاً في مشهدية صراع المحاور، إذ تمثلت في القرار الأمريكي بالإنسحاب من سوريا، الأمر الذي أحدث قلقاً سياسياً لدى حلفاء واشنطن. ولهذا السبب، يتم التفكير في كيفية التعامل مع المستجد البارز والمؤثر على هيكلية التحالفات والإصطفافات في القادم من التطورات ليكون “مؤتمر وراسو” انطلاقة امريكية خليجية – إسرائيلية في الشرق الأوسط الجديد وفق رؤية أمريكية، وهو بكل تأكيد سيصطدم بحلف روسي – إيراني – سوري، فضلاً عن تداعيات الإنتصار الميداني، وتأثير هذا الإنتصار على المسارات المتداخلة في الشرق الأوسط. وعليه، فإن انتصار محور المقاومة في سوريا، والصعود الروسي الفاعل والمؤثر في قضايا اقليمية ودولية عدة، سيكون من شأنه وضع إسفين في مؤتمر لا يحمل سوى التطلعات والأمنيات البعيدة عن الواقع كلياً.

في هذه الأجواء وبعد مراكمة البيانات السياسية والميدانية وفي خضم المؤتمرات، تقترب الدولة السورية وحلفاءها من حسم المعطيات ونتائجها، وهي نتائج لن تعرقلها الإعتداءات الإسرائيلية، أو المناورات الأمريكية التي تتخذ من المؤتمرات نهجا لسياسة جديدة. وبالتالي، لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يتم عرقلة مسار التطورات السورية، والتي تفرض توازنا إقليمياً يقابله اختلال في ميزان التوازن الدولي، ليتم نقل محور واشنطن إلى غرفة إنعاش سورية – روسية – إيرانية. أما تركيا التي تبحث صيغ التداول السياسي مع طرفي “أستانا” و”سوتشي”، فالواضح أنها تتماثل للشفاء مع عناية مركزة روسية، وهذا يترتب عليه حكماً توافقات حول اللجنة الدستورية السورية، وملفي إدلب وشرق الفرات، وهذا أيضاً مرتبط بدوره بما تم فرضه من ثقل سياسي وعسكري سوري لجهة تطوير المسارات وتشبيك التحالفات. وعليه، فإن صفو التحالفات الجديدة لن تعكره صراعات جانبية على شاكلة “مؤتمر وراسو” طالما أن الهدف الإستراتيجي السوري يسير وفق خطة وضعت بذكاء قل نظيره. بالتالي، فإن القادم من التحالفات والإصطفافات إقليمياً ودولياً، سيكون مرتبطاً بشكل مباشر وبالقطع بما يخلص إليه الشأن السوري.

*كاتب وإعلامي سوري

مصدر الصور: سبوتنيك – الجزيرة نت.