أولاً: مدخل

رغم تعدد المؤشرات ذات العلاقة بالمشاركة السياسية، إلا أن المبدأ السائد دولياً يتمثل في ارتباط هذه المشاركة بقضية المواطنة التي تعتبرها النُظم الدستورية والقانونية أساساً لممارسة حقوق الانتخاب والترشح والانخراط في المنظمات السياسية الحزبية التي تتنافس وتتصارع من أجل الوصول إلى السلطة عبر العمليات الإنتخابية. ولعل مسألة الإنتماء للمنظمات الأهلية والمهنية تمثل استثناءات مهمة، باعتبار تلك الأنواع من المنظمات مؤهلة لأن يكون لها دور بارز في عملية التنمية السياسية وأن تكون لها أنعكاساتها المؤثرة على المواطنة والمشاركة السياسية معاً.

المواطنة بهذا المعنى هي هوية، أو هي إحدى الهويات التى ينتسب إليها الفرد، وهي تتضمن ولاءات سياسية متعددة، وليس بالضرورة هوية واحدة، بمعنى أن الإنتماءات السياسية قد يؤدّي تعددها الى تناقضها أو تعارضها أحياناً.(1)

أضف إلى ذلك، إن الضعف الذي قد يعتري هذه المنظمات وفقدان قدرتها على الإستجابة لطموحات أعضائها قد يؤديان إلى انحسارها وتقهقرها أو زوالها أحياناً، الأمر الذي يعني أن هوية المواطنة مسألة ديناميكية تتغير بتغير الظروف والأوضاع، وليست مجرد هيكل ثابت من الولاءات والإنتماءات.

وفي عصر العولمة، برزت هياكل فوق وطنية جعلت مسألة الهوية الوطنية واحدة من الهويات المتعدّدة بشكل يجعل من الممكن الحديث عن مواطني الأسواق ومواطني “الفايسبوك” و”تويتر”، وغيرها من وسائط التواصل الإجتماعي، وهي حالات لا بدّ من رصدها وفهمها والعمل على إدراك آثارها ونتائجها بغض النظر عن أية أحكام قيمية بشأن الإيجابيات أو السلبيات المرتبطة بوجودها وأنشطتها(2)، لأن السؤال الأهم يتمثل في كيف يمكن لنا أن نضمن وجود مواطنة فاعلة وديمقراطية قوية رغم تغير الظروف والأوضاع، ذلك أن التغير سنّة بشرية ترتبط بالأفراد كأفراد، وبالهياكل والبنى التي يؤسّسونها في مختلف الشؤون والمجالات.

هذه الكيانات، دولاً كانت أم تنظيمات، لا تحتل كل مساحات الحركة والتفاعل بين البشر، وكلما كانت هناك مساحات حرة، كانت هناك حركة، وكلما وجدت المساحات والحركة وجد الزمن الذي يعبره الأفراد مثلما تعبره الهياكل التي يؤسّسونها لخدمة مقاصد وأغراض قد تتغير هي الأخرى بتغير الأزمان، إلا أن الزمن الذي يعبره الأفراد الطبيعيون محدود المدى، بينما تعيش الهياكل والتنظيمات فترات زمنية غير محددة رغم تغير محتواها من الأفراد الطبيعيين الذين يأتون ويذهبون وتبقى الهياكل والتنظيمات.

لذا، تكون السمة الغالبة للهياكل التي من المفترض أن تجسد المواطنة هي سمة التعدد والتباين، مما قد يولد الشعور بالإرتباك والإنشطار والتجزيئية وسيادة حالة من عدم اليقين، بيد أن الأمر إلإيجابي في ذلك هو أن هذه الهياكل تتيح مجالات النشاط لفئات متعددة من الأفراد كما يمكن تقديمها كقرابين من أجل التطور إذا ثبت عجزها وعدم قدرتها على الإستجابة لحاجات الناس ورغباتهم، أي أنه من الافضل أن تموت هذه الهياكل بدلاً من أن يموت الأعضاء المنضوون داخلها أو الجمهور الخارجى المرتبط بعملها ونشاطها.

وفي ضوء هذا المنظور، يمكن لنا تجاوز تلك الرؤى السلبية لمسألة المواطنة التي غالباً ما يثيرها أصحاب الرؤى النقدية، باعتبار تلك السلبيات مسألة عابرة ربما قادت إليها ظروف معينة، ولكنها سرعان ما تذوي وتنقشع مع تطور المستوى السياسي للأفراد والجماعات. وهكذا، يمكن لنا أن نفهم مثلاً ما يلاحظه البعض حول “مواطنة السوق” و”مواطني الأسواق” كتلك التي رصدتها الباحثة فيرونيكا شيلد حول التأثير السياسي لبرامج الحد من الفقر التي اتخذتها الحكومة الإشتراكية في تشيلي العام 1990، والتي حولت – في رأيها – الطبقة العاملة إلى مواطنة منضبطة سياسياً تسعى في المقام الأول إلى المشاركة الفاعلة في السوق، ويصبح أفرادها أصحاب مشروعات إقتصادية بها هدفهم الأول والأخير ضمان بقائهم الإقتصادى مما يبرّر فى رأيها نعتهم بأنهم مواطنو الإستهلاك.(3)

ولربما ولّى زمان المثالية السياسية الذي عبّر فيه مفكر مثل مونتسكيو عن الوطنية العالمية بقوله “إننى أحب وطني لا لأنه المكان الذي ولدت فيه، ولكن لأنه جزء من العالم الذي أنتمي إليه”، وبقوله أيضاً “لو كنت أعلم شيئاً ما يمكن له أن يخدم وطني، ولكنه يهدم وطناً آخر، لم أكن لأقترح هنا الشيء على حكومة بلادي فرنسا، لأنني إنسان أولاً وفرنسي ثانياً، فأنا إنسان بحكم الضرورة، ولكنني فرنسي بمحض الصدفة”.(4)

كما أنه لم يتكرر نمودج دستور الثورة الفرنسية لعام 1793 الذي كان يتيح لكل شخص أجنبي بالغ أقام في فرنسا لمدة عام واحد الحصول ليس فقط على الجنسية الفرنسية، بل أيضاً الحصول على جميع حقوق المواطنة بما فيها حق الإنتخاب، وتقلصت حقوق الأجانب في أغلب بلدان العالم لكي لا تتعدى بعض الحقوق الإجتماعية. بيد أنه في عصر الهجرات الجماعية الضخمة التي تعبر الحدود الوطنية بإذن وبدون إذن، لا بد للمجتمع الدولي أن يعيد فهم مسألة المواطنة وتفسيرها بما ينسجم مع هذه المعطيات التي تفرض نفسها رغم كل الجهود التي تبذلها كثير الدول الوطنية في مجابهتها أو على الأقل الحد منها، وهو ما يفرض مراجعة العمل السياسي لأننا ـ مثلما لاحظ أرسطو منذ زمن بعيد ـ نمارس السياسة من أجل صون حياتنا كبشر، لكن ممارسة السياسة ليست هي الفضيلة التي نصبح من خلالها بشراً.(5)

معنى ذلك، أن الأمر يتطلب ممارسة سياسة جديدة على المستويات الوطنية والدولية تعكس القيم الإنسانية لمسألة المواطنة. أمّا أساليب القهر والقمع والتموضع والتقوقع وتشييد الجدران العالية ونصب الأسلاك الشائكة، فهذه لا يمكن لها أن تشكل حماية للوطن ولا للمواطنين، لأن الحماية الحقيقية تتمثل في الممارسة السياسية الواعية من أجل تحقيق التعامل الإنساني الأمثل مع مثل هذه الظروف.

واستناداً إلى ما طرحه عالم الإجتماع الأمريكي أتزيوني، في إطار دراساته حول قضايا النزاع والسلام، فإننا يمكننا إستعارة النمودج الذي أبرزه لدراسة العلاقة بين السلطة والنشاط البشري داخل مختلف التنظيمات لكي نستطيع من خلاله النظر إلى المواطنة في ضوء ثلاثة أنواع من السلطة مقابل ثلاثة أنواع أخرى من المشاركة لكي نحصل على تسع فئات متميزة عن بعضها البعض.(6)

نوع المشاركة

نوع السلطة            انعزالية            نفعية                   أخلاقية
قهرية                        1                   2                          3
تحفيزية                    4                   5                          6
معنوية                      7                   8                          9

ومثلما أكد أتزيوني فإن العلاقات (1) و(5) و(9) تمثل علاقات أكثر تجانساً بشكل يمكن لها أن تجعل النشاط البشري أكثر وضوحاً واستقراراً بينما تعبر باقي العلاقات عن أوضاع أقل تجانساً ممّا قد يجعل المجتمع أكثر عرضة للأزمات والنزاعات. إن الميزة التي يتمتع بها هذا النموذج التفسيري تتمثل في أن المواطنة والمشاركة لا توجدان في فراغ بل ترتبطان بالضرورة بنوع السلطة القائمة التي لها امكانات البطش والتحفيز والتوجيه عبر مختلف الوسائط القمعية والقانونية والاقتصادية والإعلامية والثقافية. القمع يمثل إجباراً، والاقتصاد يمثل تحفيزاً، والقانون يمثل توجيهاً، والإعلام والثقافة يمثلان دعوة وترغيباً؛ أي أن عناصر القوة والقانون والمال واللغة تمثل ركائز أساسية تساعدنا على فهم المواطنة والمشاركة في ضوئها. ورغم أن هذا النموذج إيضاحي تفسيري يعمد إلى إيجاد ربط ثنائي بين هذه العناصر، إلا أنه من الناحية الواقعية فإن المزاوجة بين أي عدد منها قابل للتحقق أحياناً بمعنى أن تسعى السلطة القهرية مثلاً إلى عزل فئات اجتماعية معينة وتحفيز أخرى وربط غيرها بقيم أخلاقية وهو ما يترتب عليه زيادة تعقيد فهمنا لمسألتي المواطنة والمشاركة.

ثانياً: العزوف الانتخابي

ولو أردنا النظر في العلاقات الثلاثة الأكثر انسجاماً في نموذج أتزيوني، فإنه يمكننا أن نبدأ بأولاها التي تعبر عن الانسحاب والانعزال الذي يحدث في ظل الأوضاع السلطوية، وهذا أمر يمكن فهمه في ضوء أن السلطة القاهرة تدفع بالأفراد نحو التراجع والإنغلاق، حيث لا مجال للمبادرة والمشاركة إلا في المساحات التي تسمح بها السلطة، لكن السؤال الذي نحتاج إلى محاولةالإجابة عنه هو: كيف يمكن لنا أن نفسر الانسحاب أو الانعزال في ظل الأنظمة التي تصنف نفسها بأنها أكثر ديمقراطية، حيث تدنت نسبة المشاركة الانتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية العام 2014 – مثلاً – إلى 36.4%، مثلما شهدت كثير من بلدان العالم بشكل عام تراجعاً في أرقام عضوية الأحزاب والنقابات. وفي روسيا، ذكر أكثر من %80 من الشباب انه ليس لديهم أي اهتمام بالسياسة؛ حيث ذكر %19 فقط من الشباب ان ليهم اهتماماً بالسياسة مثلما ورد في استطلاع للرأي أجراه مركز “ليفادا” الروسي بالتعاون مع مؤسسة “فريدريك ايبرت” الألمانية.(7)

هنا تختلط التفسيرات بالتبريرات؛ فمنذ العام 1793، تحدث الصحفي والكاتب البريطاني، وليام قودوين، صاحب كتاب “العدل السياسي” عن مبدأ تخليص السياسة من الديمقراطية المفرطة، وتخليص الديمقراطية من المشاركة المفرطة لأن – وفقاً لرأي تودوين – صوت الشعب ليس صوت الحقيقة ولا صوت الله، كما أن التوافق بين الناس حول أمر ما لا يمكنه أن يجعل الخطأ صواباً.(8) وفي كتاب “سخرية أقدار الديمقراطية” لصاحبه هارمون زيغلر، يرد التعبير النخبوي للديمقراطية بشكل أكثر وضوحاً حين يقول “إن الديمقراطية هي حكم الشعب، ولكن مسؤولية بقاء الديمقراطية تقع على كاهل النخب. إذا كان بقاء الديمقراطية الأمريكية يعتمد على المواطنة الفاعلة والمتعلمة والمتنورة لكانت الديمقراطية الأمريكية قد أختفت منذ أمد بعيد لأن جماهير المواطنين الأمريكيين لديهم عدم اكتراث، ونقص في المعلومات حول السياسة عموماً والسياسة العامة، كما أن لديهم إلتزاماً ضعيفاً بالقيم الديمقراطية، إلا أنه لحسن الحظ فإنه فيما يختص بالقيم الديمقراطية الأمريكية الجماهير ليست قائدة بل منقادة.”(9)

وفي نفس الإطار جاء تقييم المفكر الألماني هابرماس لهذه المسألة؛ ففي مؤلفه الذي نشره العام 1972 عن مفهوم المشاركة السياسية، خلص إلى القول بأن الإفراط أو الإسراف في المشاركة السياسية له آثار سلبية؛ ذلك أن العزوف وعدم الإكتراث لهما نفس قيمة المشاركة، لأن سوق السياسة يتطلب دوماً وجود احتياطات بشرية يمكن العمل على تعبئتها عند الضرورة.(10) وفي تفسير آخر للباحث الألماني ريتشارد مونخ، فإن ما تشهده المجتمعات المعاصرة من عمليات تضخم يؤدي إلى التقلص والتراجع؛ فالتضخم في حجم الإتصال السياسي يؤدي إلى العزوف، والتضخم في الإقتصاد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار ونقص الطلب، والتضخم في اللغة يتطلب من المتحدثين في الإعلام وخارجه استخدام الكلمات الكثيرة والمثيرة والنصوص الطويلة من أجل نقل المعلومات والآراء والأفكار.(11)

ووفقاً لهذه التصورات، فإن الأمر يتعلق بالبحث عن نقطة تعادل بين المشاركة والعزوف يكون ما زاد أو قل عنها ذا أثر سلبي على العلاقات السياسية بين الأفراد والجماعات والمنظمات. ورغم أن جميع هؤلاء المفكرين يجمعون على أن المواطنة والمشاركة تمثلان جزءاً من أهم القيم السياسية للديمقراطية، وأن الممارسة السياسية القائمة على المشاركة تمثل الطريق نحو تحقيق “الديمقراطية القوية” – حسب تعبير بنجامين باربر الذي يميز بينها وبين الديمقراطية الضعيفة – إلا أن الخطر هنا – وفقاً لهذه التوجهات – يكمن في النزعات الجماهيرية التي يعبر عنها بشكل مباشر من خلال الإستفتاءات الشعبية التي من شأنها أن تقود إلى طغيان الأغلبية؛ أي أن صون الحرية ضد هذه الأخطار المحدقة بها لا يقتصر على حمايتها من خطر الحكومة بل أيضاً من خطر طغيان الرأي العام.(12)

كل ذلك يأتي في إطار محاولات مجابهة حالات اللاعقلانية في السياسة التي تحدث عنها بشكل مستفيض غوستاف لوبون في كتاب “سيكولوجية الجماهير” منبهاً إلى خطر ما أسماه بالعقل الجمعي الذي لا يمكن لجمه من خلال القوانين والمؤسّسات، لأن الجماهير في رأيه تستطيع أن تعيش كل أنواع العواطف، وتنتقل من النقيض إلى النقيض بسرعة البرق.(13)

المراجع:

(1) أوريت ايشيلوف “التعليم والمواطنة في عالم متغير” في: دافيد سيزر وآخرون. المرجع في علم النفس السياسي الجزء الثاني، ترجمة ربيع وهبة و آخرون، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2010، ص ص 1068-1071.
(2) كنموذج للنظرة السلبية للعولمة، أنظر:
H.P. Martin/ H. Schumann. Die Globalisierungsfalle: Der Angriff auf Democratie und Wohlstand. Reinbeck 1997.
(3) أنظر:
VerónicaSchild. Neoliberalism’s New Gendered Market Citizens: The Civilizing Dimension of Social Programmes in Chile, in Citizenship Studies 4(3), 275-305, Nov. 2000.
(4) أنظر:
www.brainyquote.com
(5) أنظر:
Benjamin R. Barber. Strong Democracy: Participatory Politics for a New Age, University Of California Press 2003, p.8.
(6) أنظر:
Amitai Etzioni, “The Structure of Organizations”, in D.S. Pugh et al. Writers on Organizations, Penguin Books, England 1976, p. 33.
(7) أنظر:
Stephen Gillers. Journalism Under Fire: Protecting the Future of Investigative Reporting, Columbia University Press, New York 2018, p. 41. See also Ingrid Van Biesen et al. “Going, Going, Gone? The Decline of Party Membership in Contemporary Europe” in European Journal of Political Research 51(1): 24-56, 2012. See also: www.themoscowtimes.com30/4/2020.
(8) أنظر:
Benjamin Barber. Op.cit, p.8
(9) المرجع السابق نفسه.
(10) أنظر:
JuergenHabermas, “Ueber den Begriff der politischenBeteiligung” in F. Grube/ G. Richter (Hg.) Demokratietheorien, Hamburg 1976, p. 206.
(11) أنظر:
R. Muench. Dialektik der Kommunikationsgesellschaft, Frankfurt/ Main 1991, pp.162-164.
(12) أنظر:
Cited in B. Barber, Op. cit, p. 25
(13) غوستاف لوبون. سيكولوجية الجماهير، ترجمة وتقديم هاشم صالح، دار الساقي، بيروت 2013، ص 64.

مصدر الصور: أخبار السودان – موقع 218.

موضوع ذا صلة: دراسات في الدولة والسلطة والمواطنة

أ.د علي المنتصر فرفر

جامعة طرابلس – ليبيا