صعّدت إيران من حدّة موقفها حيث أجرت مناورة عسكرية على الشريط الحدودي مع أذربيجان، مرجعة تحركها هذا إلى وجود تواطؤ بين باكو وتل أبيب على الرغم نفي الرئيس الآذري، إلهام علييف، هذه الإدعاءات.
فهل يمكن قراءة الأمر على أنه حذر إيراني، لمستقبل بدأت تتكشف معالمه في منطقة القوقاز؟
أسباب متعددة
تتنوّع مصادر التوتر الإيراني – الأذري بين أسباب تاريخية وسياسية مع التركيز على التداعيات الأمنية، هذا بالإضافة إلى مسألة النفوذ الإيراني في منطقة القوقاز ومستقبل الطاقة في تلك المنطقة. من الناحية الجغرافية، تشترك كل من إيران وأذربيجان بحدود مباشرة يزيد طولها على 760 كلم، إضافة إلى إطلالهما على بحر قزوين، الذي يعتبر “مخزناً” غنياً بالنفط والغاز. أيضاً، يجمع البلدين كذلك روابط ثقافية وعرقية ودينية حيث ينتمي ما يقرب من ثلث الإيرانيين إلى العرق الأذري؛ وهم الفئة التي تتحدث الفارسية والتركية الأذرية في الوقت نفسه، ويعتنق غالبيتهم المذهب الشيعي، ويتبعون مراجع دينية في قم أو مدينة تبريز التي تعتبر مركز إقليم أذربيجان الإيراني.
لكن عوامل التقارب والالتقاء بين البلدين لم تمنع من ظهور خلافات عميقة ومعقدة؛ مما أوجد أزمة في العلاقة تتصاعد حدتها تبعاً لعدد من المؤثرات، ولعله يعود إلى مارس/آذار العام 2013، عندما تم تقديم اقتراح إيراني بإجراء استفتاء شعبي في أذربيجان لضمها إلى إقليم أذربيجان الإيراني على اعتبار أن التعداد السكاني لأذربيجان – الذي يبلغ تقريباً 10 مليون من المسلمين الشيعة الذين تربطهم علاقات ثقافية ودينية – ممتدة بالإيرانيين الأذريين (الذين يزيد عددهم عن عدد ساكني جمهورية أذربيجان ذاتها) مما يجعل سكان باكو جزءاً من طهران، وهذا جانب من جوانب كثيرة تبيّن أن ثمة خلافات عميقة وقديمة في آنٍ معاً.
إلا أن الأزمة الفعلية بدأت وترت العلاقات في زمن الرئيس الإيراني الأسبق، محمود أحمدي نجاد، حين دخلت قوات خاصة إسرائيلية من الأراضي الأذربيجانية إلى داخل إيران وسرقت مستندات متعلقة بالملف النووي الإيراني، وهذا السبب كان كفيلاً بقيام إيران باجراء دراسة للموقف وتحديد الأخطار المحدقة لتلافيها بأقل الخسائر الممكنة.
تجدد للخلافات
تشهد العلاقات بين إيران وأذربيجان فتوراً وأحياناً توتراً ملحوظاً، بسبب الاتهامات المتبادلة التي يطلقها مسؤولو البلدين، وفي مقدمتهم الرئيس علييف، الذي تحدث “عن توغل عربات عسكرية إيرانية داخل الأراضي الأذربيجانية، خلال مناورات عسكرية إيرانية قرب الحدود المشتركة”، وهو ما كذّبه المتحدث بإسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده؛ كما ظهرت بوادر الفتور والتوتر خلال الحرب الأذربيجانية – الأرمينية العام الماضي (2020)، عندما تحدثت المعلومات عن دعم إسرائيلي واسع ومكثّف للجيش الأذري، جنباً الى جنب مع الدعم التركي، اللذين أسهما في الانتصار على أرمينيا.
وقبل اندلاع أزمة إقليم ناغورنو كراباخ، كان لدى إيران على الحدود الشمالية الغربية، ثلاث مناطق هي: أولاً، منطقة أولى في الجهة الشمالية من إقليم كاراباخ. منظقة ثانية، منطقة جنوبية تابعة لأذربيجان وهذه المنطقة لا تشكل نقطة توتر أو خلاف بين البلدين. منطقة ثالثة، منطقة في الوسط بينهما تابعة لأرمينيا وتُعتبر منفذاً لإيران باتجاه العاصمة الأرمينة يريفان أي منفذاً تجارياً.
وخلال الحرب الأرمنية – الأذرية الأخيرة، أخبرت أذربيجان جارتها إيران أنها ستهاجم ناغورنو كارباخ. لم يعترض الإيرانيون على ذلك بشرط إبقاء المنفذ إلى أرمينيا مفتوحاً (المنطقة الوسطى – المنفذ التجاري)، وهو ما وافقت باكو عليه بحضور تركيا، وهذا ما جعل موقف طهران أقرب إلى باكو منه إلى يريفان، على عكس ما كان يحدث سابقاً، وذلك بحكم أن السكان الإيرانيين على الحدود مع باكو هم أذريين، وبحكم الاتفاق المشترك حول المنفذ.
رسائل نارية
حشود عسكرية يقابلها مناورات بالذخيرة الحيّة على طرفي الحدود الإيرانية – الأذرية، وذلك بالتزامن مع تصاعد التوتر بين طهران وباكو، حيث انطلقت مناورات واسعة بين تركيا وأذربيجان في منطقة “نخجوان” الحدودية، وقد سبق ذلك قيام الجيش الإيراني بإطلاق مناورات عسكرية شمال غربي البلاد على حدود أذربيجان، حيث علق الرئيس علييف على المناورات الإيرانية قرب حدود بلاده بالقول “يمكن لكل دولة إجراء أية مناورات عسكرية على أراضيها. هذا هو حقها السيادي. لكن لماذا الآن ولماذا على حدودنا؟ لماذا يتم ذلك بعد أن حررنا هذه الأراضي عقب 30 عاماً من الاحتلال؟”
هذه المناورات الإيرانية تبدو وكأنها نوع من “الرفض المعلن” على قرار أذربيجان المتعلق بإعلان الأخيرة نيتها ضمها المنطقى الوسطى – بمساعدة تركيا – تحت ذريعة أن هذه المنطقة على تماس مع الحدود التركية، في حيت تعتبر هذه المنطقة منفذ إيران التجاري نحو يريفان، كما ذكرنا آنفاً، وهو ما ترفضه طهران كونها ستخسر المنفذ الوحيد إلى أرمينيا خاصة بعد فرض باكو رسوماً على الشاحنات الإيرانية المتوجهة عبر تلك المنطقة.
هذه النقطة تعيدنا إلى البداية أي إلى فترة سرقة مستندات نووية قبل أعوام، والتي اعترفت إسرائيل أنها هرّبت إلى داخل أذربيجان، إلى جانب ارتباط اسم الأخيرة باغتيال قائد فيلق القدس، اللواء قاسم سليماني، حيث هناك رأي يقول إن إيران مقتنعة بأن الفريق الذي اغتال سليماني كان متواجداً في أذربيجان؛ ليس هذا فقط، ولكن هناك أوساط إيرانية ربطت بين المسألة باغتيال العالم النووي، فخري زاده، من خلال واسطة روبوت إسرائيلي تم تشغيله وتجهيزه في أذربيجان.
من هنا، تشير الكثير من التصريحات إلى غضب طهران من علاقات أذربيجان الوثيقة مع إسرائيل، وتزويد تل أبيب لباكو بأسلحة حديثة – بما في ذلك الطائرات المسيّرة – إلى جانب دور تل أبيب بمجريات أحداث ناغورنو كراباخ، حيث قال الناطق بإسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده إن “المناورات قرار سيادي، ولن تتسامح إيران مع أي وجود للكيان الصهيوني بالقرب من حدودها، وستتخذ ما تجده مناسباً لأمنها القومي”.
تخوّف مبرّر
الانتصار في معركة ناغورنو كراباخ سمح بإنشاء خط “باكو – نخجوان” التي تشترك مع تركيا بممر صغير يتراوح طوله بين 8 – 17 كلم؛ بالتالي، أصبحت تركيا موصولة برياً بآسيا الوسطى، ثم باتجاه الممر الأوسط الذي يربط أذربيجان بتركمانستان وصولاً إلى الصين من دون الحاجة إلى إيران، هذا يعني أن هناك تجاوزات تركية واضحة ضد إيران ليس هنا فقط، بل إن التقارب التركي – الروسي يعد أحد جوانب هذه التجاوزات كما في سوريا على سبيل المثال.
من هنا، إن تطور الأحداث – في ظل توتر العلاقات والمناورات العسكرية المتبادلة على طرفي الحدود – إلى قيام صدام عسكري بين إيران، من جهة، وأذربيجان المدعومة تركيّاً، من جهة أخرى، قد يكون محتملاً، وسيؤثر على إيران بشكل كبير إن حدث؛ فعلى الرغم من قوة إيران العسكري، إلا أنه لا يمكن تجاهل الدعم الإسرائيلي الكبير الذي تتمتع به باكو خصوصاً وأن تل أبيب تسعى جاهدة إلى الحصول على نقطة متقدمة تستطيع من خلالها الاقتراب أكثر نحو إيران والتجسس عليها عم قُرب.
من جانبه، قال قائد القوات البرية في الحرس الثوري الإيراني، العميد محمد باكبور، إن بلاده لن تقبل أن تتحول أراضي دول الجوار إلى ساحة آمنة لإسرائيل تمارس فيها عملياتها لزعزعة الأمن في المنطقة. كما أكد أن أي تغيير جيو – سياسي في المنطقة سيضرّ بأمن إيران، وأن هذا الأمر يعدّ “خطاً أحمر”.
أوراق الإيرانية
على الصعيد العسكري، تم إجراء إيران مناورات على الحدود وتدعيم تلك المنطقة بقطع عسكرية إلى جانب قوات الحرس الثوري المتواجدة هناك أيضاً بقوة. وعلى الصعيد السياسي، ألمح المسؤولون الإيرانيون إلى أن هذه التحركات هي لمواجهة خطر إسرائيلي ينطلق من دول جارة، إلى جانب مسارعة وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، للسفر إلى موسكو حيث أعرب منها عن قلقه من الوجود الإسرائيلي، ومن وجود إرهابيين في منطقة جنوب القوقاز، في إشارة إلى وجود مقاتلين من سوريا سبق لهم وأن قاتلوا إلى جانب أذربيجان خلال الحرب الأخيرة مع أرمينيا، لكن الأهم من ذلك هو إعلان عبد اللهيان من موسكو أن بلاده لن تتسامح مع سعي أذربيجان إلى “تغيير خريطة القوقاز”.
إضافة إلى ذلك، تم توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية بين البلدين، وهناك حديث عن وساطة روسية بطلب إيراني مع رسالة مفادها أن “هذه آخر الرسائل الودية لباكو”.
ختاماً، قال المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، علي خامنئي، إنه لا بد من مواجهة الأخطار الآتية من الداخل والخارج، في إشارة إلى أذربيجان، حيث حمّل باكو المسؤولية بأن ضعفها سمح لإسرائيل بالتواجد على أراضيها، لكن من يعتبر أن الموقف الإيراني ضعيف، لا سيما على صعيد القدرات العسكرية، فهو قارئ غير جيّد للاحداث، فالقدرات الإيرانية تتفوق كثيراً على نظيرتها الأذرية، مع الإشارة إلى أن احتمالات وقوع صدام عسكري مباشر بين البلدين هو مستبعد إلى حد كبير وذلك لوجود العديد من الأسباب، أبرزها:
– وجود الكثير من أوراق القوة بيد إيران في المنطقة، خصوصاً في الأماكن التي تؤثر بشكل مباشر على أمن إسرائيل وحلفاء الولايات المتحدة.
– قبول إيران كعضو دائم في منظمة شنغهاي للتعاون، وهذا مؤشر على مدى أهمية طهران في تلك المنطقة ذاتياً وبالنسبة إلى كل من الصين وروسيا.
– هناك محاولات حثيثة وجدية للتوصل إلى اتفاق نووي بين الإدارة الأمريكية – عبر الوسطاء الأوروبيين – والحكومة الإيرانية كون واشنطن تريد انهاء هذا الملف من أجل التفرغ للصين. فوجود احتكاكات من هذا النوع سيؤثر على سير هذا الاتفاق خصوصاً وأن طهران تعلم أن من يقف وراءها هو إسرائيل – المدعومة أمريكياً.
– لا يمكن اغفال عامل مهم هنا وهو العامل الروسي، حيث تعتبر منطقة القوقاز “الحديقة الخلفية” لموسكو وهي لن تقبل بوجود توترات فيها خشية على الأمن القومي، أولاً، وحلفائها في تلك المنطقة، ثانياً، وتعريض ممرات التجارة الحيوية التاريخية – لا سيما تلك العابرة ضمن أراضيها – للخطر.
مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.
مصدر الصور: إيلاف – العربي الجديد.
موضوع ذا صلة: التعاون العسكري التركي – الباكستاني: الأبعاد والأهداف