يارا انبيعة
لا يتم تعريف المشرق، أكثر من أي منطقة أخرى في العالم، بالعلاقات التجارية، أو التفاعل الدبلوماسي، أو المنظمات الإقليمية وحسب، بل بالقوة الصارمة والقدرة العسكرية. هذا كان الحال في تاريخ المنطقة الحديث، وسيبقى كذلك في المستقبل المنظور؛ لكن مع ذلك، لم يشهد الشرق، منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية قبل قرن من الزمان، ما يشهده الآن من تشنج واضطرابات إقليمية وصراعات داخلية.
عوامل أربعة
تضافرت أربعة عوامل، بشكل خاص، على تصعيد هذه الصراعات وإدامتها؛ الأول، أن توازن القوى الإقليمي بدأ يشوبه الغموض والتقلب في أعقاب “الربيع العربي”، في العام 2011، وقبله الغزو الأميركي للعراق، في العام 2003.
أما العامل الثاني، يكمن في أن النزاعات المحلية أصبحت المسرح الذي تدور عليه المنافسات الإقليمية المتواصلة على هيئة صراعات أوسع نطاقاً وأشد فتكاً.
أما العامل الثالث، فهو أن توريد السلاح إلى المنطقة تعاظم بصورة حادة ضمن صفقات تتنافس فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون بصورة نشطة، مع روسيا وغيرها من الدول التي بدأت بتصدير السلاح.
ويبقى العامل الرابع في أن منطقة المشرق تعاني من شح ملموس في معايير الحرب وآليات فض النزاع، بالمقارنة مع مناطق العالم الأخرى، وكان من نتائج ذلك أن المنطقة تحولت بجميع بقاعها إلى “وكر دبابير” من التدخلات العسكرية.
أخذ ورد
بعد أن أعلنت الولايات المتحدة، في غضون أقل من أسبوع، عن إرسال حشد عسكري غير مسبوق إلى المنطقة رداً على مؤشرات رفع الجاهزية الإيرانية لشن عمليات هجومية ضد القوات والمصالح الأميركية، حيث تتابعت في تصريحات المسؤولين الأميركيين معلومات عن وجود تهديدات ونوايا من قبل طهران لزعزعة أمن المنطقة، بالتحديد منطقة الخليج، وإلى تصعيد محتمل من وكلائها في المنطقة.
وبعد نفي الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، تقريراً لصحيفة “نيويورك تايمز” تشير فيه إلى أن الجيش لديه خطط عسكرية لإرسال نحو 120 ألف جندي إلى الشرق الأوسط في حالة مهاجمة إيران للقوات الأمريكية هناك أو تسريع العمل على ترسانتها النووية.
يأتي ذلك في وقت زاد فيه التوتر الحالي في منطقة الخليج بشكل لم يسبق أن شهدنا له مثيلاً منذ سنوات، وحادثة الفجيرة الغامضة، وتعرض ناقلتي نفط سعوديتين للتخريب، قد تصب بإتجاه إشعال مزيد من التوتر خصوصاً بعد إعلان واشنطن عن تحريك أساطيلها العسكرية بشكل غير معتاد. لكن كل هذا لا يعني ان حرباً على الأبواب، ولا أن هذا التوتر سيتطور ليصبح مواجهة عسكرية مباشرة بين طهران وواشنطن، فالولايات المتحدة لن تشن حرباً على إيران، ولن تسمح بأي اشتباك عسكري معها في المنطقة، ويعود ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها:
أولاً، قد يجمع المراقبون بأن الولايات المتحدة اليوم في حالة انكفاء وليست في حالة توسع على مستوى منطقة الشرق الأوسط وذلك منذ خروجها من العراق بخسائر كبيرة، لا سيما الإقتصادية منها إذ خرجت بمديونية عامة تبلغ 6.7 تريليون دولار، وخرجت منه بعد عشر سنوات بأكبر مديونية في التاريخ البشري تجاوزت الـ 17 تريليون دولار. هذا فضلاً عن فشل المشروع الأمريكي فيه على الرغم من سنوات الإحتلال.
ثانياً، إن اندلاع أية مواجهة عسكرية في المنطقة يعني بالضرورة ارتفاع أسعار النفط الى مستويات قياسية، ستتجاوز فيها بسهولة حاجز الـ 100 دولار للبرميل، وهذه المستويات لن تقبل بها واشنطن، إذ سبق أن فعل الرئيس ترامب ما بوسعه، أواخر العام 2018، من أجل أن تخفيض الأسعار، مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة هي أكبر مستهلك وأكبر مستورد للنفط على مستوى العالم، وهو ما يعني أن الحرب مع إيران ستكون لها فاتورتان، الأولى عسكرية باهظة والثانية نفطية واقتصادية باهظة أيضاً.
ثالثاً، تمتلك إيران، وبحسب العديد من التقارير، ترسانة أسلحة متطورة قادرة على قلب المنطقة رأساً على عقب، ولذلك فإن المواجهة العسكرية المباشرة والمفتوحة مع طهران تعني بالضرورة تهديد العديد من دول المنطقة، وهذا ما لا تقبل به على الأغلب الولايات المتحدة ولا حتى دول المنطقة.
رابعاً، يظل السؤال ماذا تريد الولايات المتحدة من هذا التصعيد مع إيران؟ والجواب هنا أن إدارة الرئيس ترامب، التي تفكر على أسس تجارية لا سياسية، تريد على الأغلب ابتزاز دول الخليج العربية عبر إشعارها بأن الخطر الإيراني يتصاعد وعبر إشعارها بأن الولايات المتحدة هي المتصدي الوحيد لهذا الخطر. وعليه، فإن المكاسب التي تجنيها هذه الدول من عودة أسعار النفط إلى الصعود ستدفعها إلى أمريكا بشكل أو بآخر، ليصبح الأمريكيون بذلك هم المستفيدون من ارتفاع الأسعار ومن هبوطها على حد سواء.
ومن وجهة نظر مساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، الجنرال مارك كيميت، أن الولايات المتحدة “ليست بصدد إعلان حرب ضد إيران، والهدف من التعزيزات الأمريكية في الخليج هو الردع. فقد تقدم إيران نتيجة لخطأ في الحسابات وتحت ضغط العقوبات، على تصرف غير محسوب وفي هذه الحالة نحن هناك للرد، وأن أمريكا لم تقدم على تجربة عسكرية بعد تلطخ سمعتها في حربها التي شنتها في أفغانستان والعراق، لذا أصبح من المؤكد أن تلجأ إلى السلاح الاقتصادي الذي هو الخيار المرحلي الوحيد أمام الرئيس الجمهوري المتخبط.”
في المقابل كان الرد الإيراني حاضراً على لسان السيد علي خامنئي حيث قال “نحن لا نسعى إلى الحرب، ولا هم أيضا يسعون لها”، لكنه أكد تمسك طهران بموقفها في عدم التفاوض مع الولايات المتحدة حول صفقة نووية لتحل محل تلك التي انسحب منها الرئيس ترامب.
رسائل مضمنة
رسائل كثيرة نقلتها الطائرات المسيرة عن بعد وهي تلحق أضراراً جسيمة بخطوط نقل النفط السعودية. قرأت تلك الرسائل في عواصم عربية متعددة، في الرياض وفي أبو ظبي كما قرأت في عواصم غربية متعددة وخصوصا الولايات المتحدة.
من هنا، يشير بعض المراقبين بأن أولى الرسائل وأكثرها وضوحاً تؤكد أن لا مساحة هدوء في منطقة الخليج إذا اندلعت الحرب بين إيران والولايات المتحدة، وأن اللهب سيطال كل العواصم ولن تكون إيران المتضرر الوحيد. فما يجمع بين سفن الفجيرة وخط “شرق – غرب” هو النفط الذي ينقل عبرهما ولا يمر في مضيق هرمز. فميناء الفجيرة هو الميناء الإماراتي الوحيد المطل على خليج عمان، وهو الميناء الوحيد في الإمارات الذي يستطيع نقل نفط الخليج دون المرور عبر مضيق هرمز الذي تتحكم فيه إيران.
إضافة إلى ذلك، إن خط الأنابيب “شرق – غرب” ينقل النفط من المنطقة الشرقية لتصديره عبر موانئ على البحر الأحمر بعيداً عن الخليج ومنطقة مضيق هرمز حيث تتصاعد التوترات بين الولايات المتحدة وإيران.
ومن الواضح أن استهداف هذين الموقعين، إذا افترضنا أن جهة الإستهداف واحدة، يعطي رسالة بليغة وواضحة أن لا خطوط آمنة لنقل نفط الخليج بعيداً عن المضيق، فقد تصبح كل تلك الخطوط متقطعة بسبب تهديدات أنصار الله وطائراتهم المسيرة التي قد تأتي بما “لا تشتهيه” السفن الخليجية.
في الوقت نفسه، أعربت وزارة الخارجية الإيرانية عن أسفها إزاء الحادث الذي تعرضت له الناقلات، ووصفته بأنه “عمل تخريبي”، وحذرت من “مؤامرات لتقويض الأمن والاستقرار في المنطقة”. ورأى البرلمان الإيراني أن الهجوم يمكن أن يقوم به طرف ثالث حيث قال المتحدث بإسم الهيئة الرئاسية بمجلس الشورى الإيراني، بهرور نعمتي، إن “مكراً إسرائيلياً” يقف خلف الهجوم الذي استهدف 4 سفن في المياه الاقتصادية الإماراتية.
اليقظة والجهوزية
على المقلب الآخر خرجت الكويت، بدعوة من أميرها الشيخ صباح الأحمد الصباح، لإتخاذ قوات بلاده أقصى درجات الحذر واليقظة والجهوزية في ظل ما وصفه بـ “المستجدات الخطيرة” التي تشهدها المنطقة، إذ زار الشيخ الصباح الرئاسة العامة للحرس الوطني الكويتي ونادي ضباط الجيش ووجه رسالة مشابهة قال فيها “لا يخفى عليكم التطورات والمستجدات الخطيرة، التي يشهدها محيطنا الإقليمي، والتي تستوجب منكم أقصى درجات الحيطة والحذر لدى أداء المهام المناطة بكم، لاسيما المتعلقة في حماية المؤسسات العامة وكما هو معهود أنكم على قدر المسؤولية.”
ختاما.. لن تكون الحرب نزهة لا لأميركا، صاحبة السلاح والقدرات الفائقة، ولا لإيران، التي تملك أوراقاً كثيرة تلاعب بها واشنطن، بل لا تبدو تلك الحرب مطلوبة، حتى من أطراف خليجية ذاتها، السعودية والإمارات تحديداً، فقد ذكرت تقارير إخبارية أن كلاً من الرياض وأبو ظبي عبرتا عن خشيتهما من مواجهة عسكرية في مياه الخليج يمكن لها الإضرار بإقتصاد بلدان الخليج العربي.
وإذا ما كانت الحرب صعبة، فعلام كل هذه القوات التي حشدتها واشنطن؟ ومعلوم أن حركة مثل هذه تعني أموالاً طائلة قد صرفت وستصرف على كل هذه الحركات العسكرية والقطعات والجنود؟ أيضاً، قد يكون الأمر مستبعداً بعد اتفاق وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ونظيره الأميركي، مايك بومبيو، على ضرورة تحسين العلاقات وإنهاء التوتر وتأكيد الأخير أن بلاده لا تسعى لحرب مع إيران واعتبار لافروف أنه قد حان الوقت لبناء نموذج جديد للتفاهم. يمكننا القول أيضاً أن لإيران خبرة طويلة في سياسة الإنحناء أمام العواصف. كل ما سبق يشير إلى أنه من المتوقع أن تمر الأزمة بشكل سلس، لا سيما فيما يخص إيران بإنتظار تغيير ما قد يحدث هناك في واشنطن. فبعد أكثر من عام، تغيير قد يخرج الرئيس ترامب من البيت الأبيض بإنتظار ساكنه الجديد، أو أن الخوف من قرقعة السلاح في الخليج قد تؤدي إلى فتح قنوات اتصال جديدة، ربما تكون قد فتحت بالفعل بين الطرفين.
مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.
مصدر الصور: إندبندنت عربية – موقع بنت جبيل.