يارا انبيعة

مثلما انكب العالم، في السنوات الأخيرة، على تقديم دراسات ومقاربات تفسر الدوافع التي تجر بعض المسلمين للإنتماء إلى صفوف الجماعات الإرهابية، باتت ظاهرة تشدد اليمين المتطرف بدورها من أهم الأبحاث التي تغري المفكرين والخبراء والملاحظين.

وعلاوة على الأسباب الأيديولوجية والسياسية التي تدفع بأوروبا، شيئاً فشيئاً، تجاه مستنقع هذا اليمين، فإن أسبابا أخرى يتحمل مسؤوليتها أفراد من الجاليات المسلمة، الذين يمكن تصنيفهم ضمن خانة المحركات الأساسية المحفزة للمتشددين المناصرين لطروحات “الإسلاموفوبيا” المعادية للمسلمين، وآخر هذه السلوكات تجسدت في تعمد الجاليات المسلمة شراء الكنائس وتحويلها إلى مساجد، وهو ما يعتبره الشعبويون استفزازاً صارخاً لدينهم وتراثهم ويتخذونه ذريعة لمعاداة الإسلام.

إنفاق بالمليارات

يشير فلاديمير دوبرينين، في مقال نشرته “كومسومولسكايا برافدا”، إلى أن بلدان الشرق الأوسط النفطية تنفق مليارات الدولارات بهدف أسلمة أوروبا، وأجبرت الهجمات الإرهابية الأخيرة الأوروبيين على التساؤل: من هي الجهة التي تنفق أموالها على بناء مئات المساجد في أوروبا؟

غير أن هذا لا يعني أن الأوروبيين لم يظهروا أي اهتمام بهذا الموضوع سابقاً، وخاصة أن أوروبا كانت تستقبل اللاجئين من الشرق الأوسط، وتتعاطف معهم بسبب حياتهم السيئة في بلدانهم. ذلك، لأن سكان أوروبا يرون أن القيم الأوروبية هي قيم للبشرية جمعاء ما يفرض عليهم مد يد المساعدة إلى المهاجرين، وتحمل إصرارهم على العيش وفق قوانينهم.

ومع أن بعض الدول الأوروبية، إسبانيا مثلاً، تمول الكنيسة الكاثوليكية، فإن الكنيسة في أوروبا منفصلة عن الدولة، وتمويلها ذاتي. لذلك ومنذ البداية، تم توضيح هذه المسألة للاجئين المسلمين، وكان وضع الإسلام “الفقير” ملائماً للجميع، إلى أن بانت في الأفق، ولو على بعد ألوف الكيلومترات، ما سمي بـ “الدولة الإسلامية”، وبدأ التحريض على اعتناق الدين الإسلامي.

هذا الأمر لم يكن قبل عام يثير اهتمام حكومات أوروبا، لأن الولايات المتحدة كانت تفرض على الدول الأوروبية ضرورة استقبال اللاجئين من مختلف الأديان، والتسامح مع موقفهم السلبي من نمط الحياة فيها. فقد وعدت واشنطن مقابل احترام الأوربيين القيم الغريبة، الحماية في المحافل الدولية والدعم المالي والدفاع عسكرياً عنهم.

لكن أوروبا بدأت تفكر في هذه المسألة فقط بعد تغير سيد البيت الأبيض، لأن السيد الجديد، أولاً، يشك في الشراكة عبر الأطلسي، وثانياً، يفرض عليها زيادة نفقاتهم العسكرية، وثالثاً، حدد أولياته في الشرق الأوسط.

وبعد كل هذا ظهرت أزمة قطر، التي نسيها الجميع. فعندما أعلنت دول الخليج أن قطر هي الراعية لجميع المجموعات الإرهابية، شككت قلة قليلة من دول الإتحاد الأوروبي في أن تكون أزمة قطر قد ظهرت من تلقاء نفسها، وأقل منها اعتقدت أن بلدان الخليج التي قطعت علاقاتها معها فعلت ذلك بإرادتها. ولكن الخضوع لعصا واشنطن على مدى سنوات طويلة مقابل الجزرة لم تنفع هذه المرة.

لقد كانت إيطاليا أول دولة تعلن أن بناء المساجد وصيانتها وتمويلها في إيطاليا تتحمله قطر، التي خصصت، في العام 2016، مبلغ 25 مليون يورو أُنفقت لبناء 43 مسجداً، كما أن إسبانيا سمحت لقطر بتمويل بناء 150 مسجداً، حتى العام 2020، مقابل تحملها تكاليف صيانة وتحديث مسجد قرطبة، الذي يعد تحفة عالمية في فن العمارة الدينية. ولكن لم يذكر أحد مبلغ 200 مليون، الذي خصصته السعودية، العام 2015، لبناء 200 مسجد في ألمانيا.

عموماً يستمر بناء المساجد في أوروبا، حيث بلغ عددها في إسبانيا حوالي 1400، منها 214 في كاتالونيا. اما في فرنسا فقد بلغ العدد 2450، وبريطانيا 1700 تقريباً. وبحسب مجلة El Confidencial، تنفق السعودية ما على المليارين إلى ثلاثة مليارات دولار سنوياً على بناء المساجد وصيانتها في أوروبا. وإضافة إليهما، تساهم كل من الجزائر والمغرب وتركيا في هذا المجال، وتبلغ نسبة الأموال التي تحول رسمياً عبر المصارف 30% فقط، أما النسبة الباقية 70%، فإنها تصل نقداً عبر طرق أخرى.

“لا تمس كنيستي”

في نداء لمجلة “فالورأكتويل” الفرنسية اليمينية، أعلن عدد من السياسيين الفرنسيين، بينهم الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، ومفكرين معارضتهم تحويل كنائس مقفلة إلى مساجد، وقالوا إن الكنائس تعبر عن جذور فرنسا المسيحية.

ويبدو أن اقتراح عميد مسجد باريس الكبير، دليل بوبكر، تحويل بعض الكنائس الفرنسية المغلقة إلى مساجد ووضعها تحت تصرف المسلمين لأداء الصلاة فيها، لم يلق قبولاً في أوساط السياسيين. فقد وقع بعض المثقفين والسياسيين الفرنسيين يعارضون فيه اقتراح عميد مسجد باريس.

النداء حرره الكاتب اليميني، دوني تيليناك، تحت عنوان “لا تمس كنيستي”، حيث وقعه حوالي 30 شخصية سياسية وإعلامية وثقافية فرنسية، من بينهم الصحافي إريك زمور المتهم بمعاداته للمسلمين الفرنسيين، ووزيرة الشباب السابقة، جانيت بوغراب التي ظلت تدق ناقوس الخطر الإسلامي في فرنسا، إضافة إلى مفكرين آخرين معروفين بمواقفهم المنتقدة للإسلام.

تعزيز الكراهية

تتسبب بعض التصرفات غير المسؤولة وغير محسوبة العواقب، لبعض أفراد الجاليات المسلمة في أوروبا، بتعزيز خطاب الكراهية والعنف، وبدت ظاهرة شراء الكنائس وتحويلها إلى مساجد ورقة مميزة لليمين المتطرف الراغب في زيادة هيمنته على أوروبا عبر خلق المزيد من العداء ضد المسلمين والإذعان لخطرهم القادم حتى تبدو “الإسلاموفوبيا” أمام طريق ممهد للإنتشار.

ففي ألمانيا، كشفت قضية إقدام بعض الجاليات المسلمة في أوروبا على شراء الكنائس المعروضة للبيع من أجل تحويلها إلى مساجد، عن سوء إدارة وتفهم المسلمين للحالة المتأججة التي يعيشها المجتمع الأوروبي بشكل عام وصعود لـ “الإسلاموفوبيا” بشكل خاص. وكانت جمعية مسيحية بإسم “أصدقاء الكنيسة البروتستانتية” ببرلين قد نشرت تقريراً مفصلاً عن تحول عشر كنائس، في العام 2019 في ألمانيا، إلى مساجد.

وقالت الجمعية إن تلك الظاهرة ليست جديدة ولكنها متكررة ومتعمدة. ففي نهاية العام 2018، جرى افتتاح مسجد النور في مدينة هامبورغ، بعد أن اشترى مستثمر مسلم كنيسة وأهداها للمركز الإسلامي في المدينة، في حين تم شراء العديد من الكنائس وتحويلها إلى مساجد في هولندا وبريطانيا وفرنسا أيضاً، ومن أبرزها جامع “الفاتح” في العاصمة أمستردام، وجامع “السلطان أيوب” في ولاية جرونينجن الهولندية، وجامع “عثمان غازي” في ولاية وييرت الهولندية بالإضافة إلى كنيسة “دومينيكان” الموجودة في مدينة ليل الفرنسية، وكنيسة “القديس يوسف” في باريس التي تحولت إلى جامع التوحيد.

ويرى مراقبون أن أكبر أزمات مسلمي أوروبا تتمثل في أنهم لا يستطيعون الإندماج بشكل صحيح في المجتمعات الغربية، وينتج ذلك ثغرة لولوج الأفكار المتطرفة للجماعات الإسلامية والتي تصنع قنابل موقوتة من مواطنين عاديين ناقمين على الغرب. ومع شعور المسلم بأنه غير قادر على التجانس مع مجتمعه، تزداد موجات الإنغلاق، التي بدورها تصنع رؤى أكثر تشدداً تدعو إلى ارتكاب أفعال، حتى وإن لم تكن عنيفة، فهي مستفزة مثل تحويل الكنائس إلى مساجد.

وتكشف تقارير أمنية أن الكثير من المراكز الإسلامية في أوروبا، المسيطر عليها من قبل جماعات إسلامية، تعتبر شراء كنيسة وتحويلها إلى مسجد درجة من درجات الجهاد في سبيل الله ولا تقل عن التضحية بالنفس، وتستغل الجماعات المتشددة عرض عشرات الكنائس للبيع من أجل تشجيع رجال أعمال مسلمين على شرائها ثم تعزز أوجه الغضب والكراهية بنشر صور لإزالة الصليب واستبداله بالهلال، حتى يعدو ذلك “إجلالاً” للدين الإسلامي.

واليوم، تعيش أوروبا عموماً أزمة هوية سواء على المستوين السياسي والإقتصادي، وكذلك الديني والعقائدي، وتسبب ذلك في تراجع بناء الكنائس وإغلاق نحو 250 كنيسة سنوياً في أوروبا مع انخفاض أعداد المترددين عليها. في حين تمثل قضية تغير هوية الكنيسة إلى مسجد، إحدى أكثر القضايا الحساسة على الإطلاق منذ أكثر من ألف عام بين الشرق والغرب.

فقد يظن البعض أنه مع تراجع ارتباط المواطن الأوروبي بدينه المسيحي بات الأمر يسيراً، ولكن الصراعات التاريخية بين الإسلام والمسيحية طالما كانت متعلقة بمسألة الكرامة والإنتصار؛ وتحويل المسجد إلى كنيسة أو العكس، كانت رمزية لهذا الزهو ودلالة على الإنتصار، وهو ما جعل رؤية أوروبي للهلال بدلاً من صليب على رأس مئذنة مبنى، مسألة مثيرة للغضب حتى وإن لم يذهب ذلك الأوروبي إلى كنيسة من قبل.

تحويل للهوية

يقول عمرو فاروق، وهو خبير متخصص في جماعات الإسلام السياسي، إن مسألة تحويل هوية المبنى من دين إلى آخر قضية شديدة التعقيد منذ مئات السنوات، وما زالت تلقي بظلالها حتى الآن. ويوضح فاروق “ما زال المسيحيون يترحمون على كنيسة الدولة البيزنطية في تركيا، آيا صوفيا، التي حولها المسلمون إلى مسجد رغم مرور ما يقرب من 200 عام، وما زال المسلمون يترحمون على مساجدهم في غرناطة وقرطبة ومالقة وإشبيلية التي تحولت جميعها من مساجد إلى كنائس.”

ويضيف فاروق “إن مغبة الإقدام على شراء الكنائس وتحويلها إلى مساجد تصرف أحمق، حتى لو سمح القانون بذلك أو وافق عليه أهل حي الكنيسة، لأن ذلك السلوك لا يعكس نضج المسلمين أو وعيهم… إن ذلك ورقة ستوظف في وقت من الأوقات ضد مسلمي أوروبا.”

ويؤكد على ذلك ما يستلهمه بعض المتهمين في أحداث عنف ضد المسلمين في الغرب، والذين دائماً يعودون إلى التاريخ العنيف والمشحون بالكراهية بين الشرق المسلم والغرب المسيحي، لا سيما في أوقات الحروب الصليبية لتبرير أفعالهم.

ويقول ديفيد جالاشر، المدان في قضية محاولة قتل مسلمة في ولاية فلوريدا العام 2015 ضمن كتيب قام بنشره على الإنترنت، إن “أجراس الكنائس باتت صامتة وأبدلت بأصوات المؤذنين المسلمين، وكأنهم يرغبون في احتلالنا بعقر دارنا، وتلك الأصوات الإسلامية هي إعلان عن النصر.”

في حين دون برينتون تارانت، مرتكب هجوم نيوزيلندا الذي راح ضحيته أكثر من خمسين مسلماً، على سلاح الجريمة أسماء لعدد من المدن والمساجد التي سقطت إبان الحروب الصليبية في عكا وحيفا وكذلك بدولة الأندلس التي تحولت فيها المساجد إلى كنائس.

ختاماً، تعكس القرارات والسلوكات التي يرتكبها البعض من أفراد الجاليات المسلمة في الغرب، عموماً، المعادلة التكاملية التي تجمع الإسلام المتشدد مع اليمين المتطرف، فكلاهما وجهان لعملة واحدة يدفعان ببعضهما من أجل المزيد من الراديكالية، التي تحقق أهداف أيديولوجية وفكرية تزيد من تصدع المجتمع الأوروبي.

مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.

مصدر الصور: العرب – بي.بي.سي.