يارا انبيعة

يكاد المرء يجزم بأن الكازاخيين، فيما حدث، لا يعلمون الفرق بين اللبناني والأردني والسوري، فاللطمة واحدة. فإنه من الصعب التصديق بأن كل ما حدث مع هؤلاء العمال كان لمجرد حدث شخصي فردي أثار حفيظة الكازاخيين، بل إن الموضوع يبدو أعمق من ذلك بكثير، وليس وليد لحظة آنية.

فماذا وراء الحدث؟ ولماذا هذه النقمة العارمة المفاجئة؟

“الصورة” أم غيرها؟!

أثارت صورة نشرها مهندس لبناني مع فتاة كازاخية في غرفته الخاصة حفيظة العمال هناك ما أثار موجة من الغضب العارم بينهم وقاموا بالإعتداء بالضرب على مهندسين عرب في مشروع ضخم يملكه مستثمرون لبنانيون وفلسطينيون، ردود فعل عاصفة في الشارع العربي، وخصوصاً اللبناني والأردني والفلسطيني، بعد تناقل ونشر صور لمئات العمال الكازاخيين وهم يهاجمون بالضرب المبرح عمالاً عرباً بصورة همجية، في وقت لم تعرف أسباب تأخر النجدة الأمنية والتي وصلت متأخرة جداً.

ويبدو أن نشر صورة الفتاة بإيحاء جنسي ألهب مشاعر العمال ودفعهم للإنقلاب ضد المهندسين العرب وضربهم جميعاً، حيث نُشرت أشرطة فيديو لعمليات ضرب وتعذيب همجية بالرغم من أن السلطات الأمنية الموجودة ألقت القبض على الشاب اللبناني وأبعدته خارج البلاد.

في الجانب الآخر، هناك بعض المعلومات التي تقول بأن الصورة لم تكن سوى الشرارة التي أشعلت الفتيل، فالموضوع بعيد جداً عن مسألة الفتاة، في شكله مباشر. فإن التفاوت الكبير في المرتبات والمعاشات، ما بين العمال العرب والكازاخ داخل المشروع، كان السبب الرئيس والمباشر وراء هذه الهجمة العارمة وموجة الضرب تلك، حيث أظهرت الكثير من “الحقد” الدفين تجاههم.

 إستضعاف للبنان

يشير العديد من المراقبين بأن ما قام به الكازاخيون مدان بكل المقاييس ولا ينطوي على عنصرية فحسب، بل هو مؤشر على تنامي نزعة الرفض للآخر، وإحياء لمنطق القوميات التي لن تقف عند حادثة كازاخستان، ولن تنحصر مؤشراتها بلبنانيين أو أردنيين يجدون فرصة عمل في الخارج، ولو أن البلدين، بمعايير القوة، أقل قدرة على مواجهة إجراءات شعبية ضد مواطنيهم في الخارج، فيما الآخرون، المضيفون، أعجز عن مواجهة منتشرين يستندون إلى دول قوية تحميهم، بالمعايير الإقتصادية والعسكرية.

ثمة استضعاف للبنان بكل المقاييس، فهو أقل قدرة على توفير حماية لأبنائه في الخارج، على الأقل هذا ما تظهره الصور المتداولة، خصوصاً وأن الإستجابة إلى النداءات جاءت متأخرة بعض الشيء، وهي استجابة، في المنطق السياسي، تحتاج إلى خمس ساعات على الأقل كي يجري المسؤولون اتصالات بنظرائهم طلباً للحماية، وهو ما جرى بالفعل.

هذا الإستضعاف، يمكن النظر إليه من خلال “المضلَّع الثلاثي” الذي يتمثل في:

أولاً، إن لبنان يعتبر بلداً صغيراً بإمكانيات عسكرية محدودة بالمقارنة مع دول آسيوية أخرى، ويعاني ضائقة اقتصادية ويراهن على المساعدات الدولية ليحافظ على صموده.

ثانياً، يشكل مغتربوه الرافعة الإقتصادية التي تبقيه على قيد النجاة، ما يعني أنه يعتمد على الخارج ليبقى صامداً أمام رياح المتغيرات والأعباء الإقتصادية.

ثالثاً، هو بلد مهتز في الميزان السياسي الدولي، إثر أزماته السياسية الداخلية وتعدد مقارباته لملفات مطلوبة منه دولياً، ومنقسم على ذاته ويواجه المجتمع الدولي في ملفات عديدة، من بينها مسألة النازحين وسلاح حزب الله، والعداء لإسرائيل.

هذه النقاط تحول دون قدرته على التأثير لحماية مصادر دخله الأساسية، وأبرزها أموال المغتربين، لكنها لا تبرر الإجراءات بحق عماله المنتشرين. في المقابل، يتسم لبنان قدرة إستثنائية على الصمود، وهي نقطة قوة مضيئة، والمكابرة.

الأبعاد السياسية

لعل حادثة كازاخستان تستدعي، مبدئياً، التفكر أكثر بطرق المواجهة منعاً للمس بأبناء لبنان المنتشرين، من خلال منطق القوة الدبلوماسية، وسط مؤشر جازم بأن ما جرى لا يرتبط أبداً بإستهداف الدولتين المجاورتين لسوريا، لبنان والأردن اللتان تستضيفان أكبر نسبة من اللاجئين مقارنة بعدد سكانهما. بينما تبقى فرضية “عدم المساواة في الأجور” احتمالاً قائماً في بلد فقير، تعمل فيه شركة ضخمة مثل “سي.سي.سي”، وتوفر فرص عمل مغرية للعرب، وخصوصاً الفلسطينيين والأردنيين واللبنانيين.

لكن أبعاد ما جرى، يفرض أسئلة سياسية عن سياقاتها. إذا تم استبعاد فرضية “الصدفة”، إلا أن المتعرضين للإعتداءات ينتمون إلى دولتين تستضيفان اللاجئين السوريين، وتشاركان في جولة من جولات مؤتمر “أستانا” بصفة مراقب. فهل ثمة ترابط بين الحادثة، ومشاركتهما؟ وما هي الرسالة من ذلك؟

قد يكون ذلك مجرد صدفة، لكن هذه المفارقة تدعو إلى التفكر والتمعن بأبعاد الحادثة، وهي فرضية أسقطت من حملات الضخ الإعلامي لتغطية الحادثة التي ذهبت إلى تسطيح حدث خطير من هذا الحجم.

ما علاقة إسرائيل؟

ألقى معرض “إكسبو 2017” الذي استضافته العاصمة الكازاخية الكثير من الأضواء على اهتمام الكيان الصهيوني بالبلد الأكبر في منطقة وسط آسيا. هذا المعرض، الذي امتدت أعماله على مدى ثلاثة أشهر، شهد مشاركة واسعة للكيان، وتعهدات بتعزيز التعاون بين الجانبين، خصوصاً في قطاعي الطاقة وتقنيات الزراعة.

لم يكن ذلك الحدث فريداً من نوعه، فالعلاقات بين الجانبين بدأت منذ نيل جمهوريات وسط آسيا الإستقلال عن الإتحاد السوفياتي، مطلع التسعينيات، حيث كانت إسرائيل من أوائل الدول التي اعترفت بإستقلالها، حيث تطورت العلاقات من “المصالح المشتركة” إلى “الشراكة الإستراتيجية”.

هذا ويعود تاريخ الوجود اليهودي في كازاخستان إلى القرن الثامن عشر. ففي ذلك الوقت، تم احتلالها من قبل روسيا، وكان ضمن صفوف الجيش الروسي عدد من العسكريين اليهود الذين آثروا الإستقرار هناك بعد انتهاء خدمتهم، وأدى هذا الأمر إلى تشكيل نواة لوجودهم فيها، كما ازداد عددهم خلال الحقبة الشيوعية حين نقل الزعيم السوفياتي، جوزيف ستالين، الآلاف منهم إليها للعمل في المزارع الجماعية، كما قصدها أكثر من 100 ألف يهودي خلال الحرب العالمية الثانية هرباً من القوات الألمانية.

ويقدر عدد اليهود في كازاخستان في الوقت الحالي بما يقارب 15 ألف شخص، علماً أن الآلاف كانوا قد هاجروا إلى فلسطين خلال السنوات الخمسة عشرة الأخيرة.

في هذا الشأن، يشير الدكتور إسكندر كفوري، الباحث في العلاقات الدولية، في حديث لمركز”سيتا” بالقول “إن ما حصل مع العمال العرب في حقل تنغيز، حيث تعمل الشركة اللبنانية سي.سي.سي، لم يكن سببه بالطبع الصورة التي نشرها المهندس اللبناني لفتاة كازاخية، فنهاك أحد ما قد حرض تلك المجموعات الكبيرة من العمال التي قدر عددها بالآلاف.”

وعن أهمية كازاخستان، يشير الباحث كفوري إلى انها “قبلة وسط آسيا، وخصوصاً بعد انهيار الإتحاد السوفياتي والإبتعاد عن الشقيقة الكبرى روسيا. حينها، بدأت الدول الراغبة بالسيطرة على المنطقة بالتوجه نحو كازاخستان، لا سيما إسرائيل، خصوصاً وأن هناك ثروات طبيعية هائلة في دول تلك المنطقة، وأكبرها كازخستان التي تتميز بمخزونها الضخم من الذهب واليورانيوم، حيث تعتبر من أهم خمس دول في العالم في بإنتاج اليورانيوم، إضافة إلى النفط، والغاز.”

عن المنطقة التي جرت فيها الأحداث الأخيرة، يقول الدكتور كفوري “هذه المنطقة أعرفها جيداً وأعرف طبيعة سكانها لكوني عشت فيها لفترة زمنية. ما حدث من هجمة جماعية، هو أمر شهدته بنفسي عدة مرات وفي إحداها كنا نحن المستهدفين، خصوصاً وأن تلك المنطقة تسكنها الكثير من القبائل التي تلتف على بعضها. لكن ما حصل مؤخراً، هناك مصالح اقتصادية مهمة لا سيما وأن حقل تنغيز من الحقول الهامة جداً لإستخراج الغاز في كازاخستان. ومع دخول الإستثمارات الإسرائيلية، بدأ بشكل سريع مع تبادل العلاقات الدبلوماسية، في العام 1992، حيث توجد هناك اليوم الكثير من الشركات الإسرائيلية وحتى المستشارين الإسرائيليين، ولا أبالغ إذا قلت إنهم متواجدون في دوائر الدول الكازاخية الرسمية والوزارات.”

وفي نقطة مهمة، يشير الدكتور كفوري إلى “وجود علاقة وثيقة بين رئيس الوزراء الكازاخي الحالي وعدد من كبار السياسيين “التجار” حتى وصلت إلى وجود علاقات شخصية وثيقة. إضافة إلى ذلك، فتح الرئيس الكازخستاني مجالاً كبيراً للأعمال المشتركة مع إسرائيل لتسهيل التعاون بين البلدين. في المقابل، قامت إسرائيل، لأول مرة في تاريخها، بإعطاء كازخستان قرضاً مالياً.” وفي مؤشر على مدى العلاقات القوية التي تربط بين البلدين، قام الرئيس الكازاخي بإعطاء “إسرائيل مصنعاً لإنتاج اليورانيوم بقيمة رمزية وهي 300 ألف دولار، فيما القيمة الحقيقية لهذا المصنع تقدر بـ 20 مليون دولار.”

وعن رأسمال الإسرائيلي، يقول الباحث كفوري بأنه “فاعل لدرجة كبيرة جداً جداً في كازاخستان، ويسيطر على العديد من القطاعات الزراعية، بشكل كبير، والإتصالات والنفط. بإعتقادي، إن ما حصل مؤخراً من إعتداء، وليس إشتباك كما حاولت السلطات تفسيره، إن إسرائيل هي من تقف خلف تلك الأحداث بهذا الشكل خصوصاً وأن صيحات المهاجمين كانت تشير إلى “الأنذال العرب” حيث تم الحديث عن مجموعة وليس فرد، أي المهندس الذي قام بنشر الصورة والذي يعتبر مذنباً ويجب محاسبته، ما يشير إلى وجود تحريض مبطن، ودعم من السلطات الكازاخية لهذا التصرف بالرغم من نفيهم لهذا الأمر. ولكن في هذه النقطة بالذات، هناك تساؤلات مهمة أبرزها: لماذا لم تقم الشرطة بخطوات أمنية خصوصاً وأنه مرفق اقتصادي حيوي وهام. وكف يتجمع آلاف العمال في هذا المرفق الحيوي من دون أن تعلم الإستخبارات والأجهزة الأمنية بذلك؟ من وجهة نظري، هناك من يقف وراء هذا الإعتداء لا سيما الجهات الإسرائيلية التي ترغب بطرد اللبنانيين، وطرد كل الشركات العربية، لا سيما اللبنانية، كما حدث سابقاً في عدد من الدول الإفريقية.”

ختاماً، إن الحديث عن الموضوع ليس مقاربة لمؤامرة تحاك في مخيلتنا أو في خفاء الحروف. ربما هو مبالغة مقنعة أو إيمان مطلق بأن الشر لا يمكن أن يمسنا إلا من العدو الصهيوني عينه. إن هذا الإيمان قد يكون مسيّساً، وما إلى ذلك من توصيفات، لكنه دليل على صوابية الموقف خصوصاً عندما ندعم أية فكرة تزيد من مقاومتنا لهذا العدو التاريخي، وبذلك سنكون على الطريق الصحيح.

مصدر الأخبار: سيتا – وكالات.

مصدر الصور: دايلي ستار – العربي الجديد.