يارا انبيعة
لا تزال دول غرب البلقان ساحة صراع على النفوذ، حيث تقع بين صراع محور تركي – روسي من جهة، ومحور أوروبي من جهة ثانية، فكل منهما يريد حصة من السهول التي تعتبر “البوابة” إلى موسكو، التي بدورها لن تسمح ولن تتساهل مع أي اقتراب غير محبب من أراضيها، صربيا مثالاً.
ولطالما اعتبرت منطقة البلقان ميداناً لصراع النفوذ بين الغرب والشرق رغم أن كل دول المنطقة تطمح للإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي، ومعظمها انضم إلى حلف الأطلسي – الناتو.
زعزعة الإستقرار
حمل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الدول الغربية مسؤولية “زعزعة استقرار” البلقان وذلك قبيل زيارة قام بها إلى بلغراد، إذ قال، في مقابلة مع صحيفة “فيسرني نوفوستي” الصربية بما يتعلق بالوضع في البلقان، إن سياسة الولايات المتحدة ودول غربية أخرى تهدف إلى ضمان هيمنتها على المنطقة التي تشكل عنصراً خطيراً لزعزعة الإستقرار.
يأتي ذلك في وقت يشدد فيه الرئيس الروسي على الروابط بين البلدين القوية جداً، وخصوصاً الديانة الأرثوذكسية التي وصفها بأنها “صلة القربى الروحية والثقافية” بينهما. إضافة إلى ذلك، قد تستخدم روسيا نفوذها في مجلس الأمن، عبر حق النقض – الفيتو، لمنع كوسوفو من الإنضمام إلى الأمم المتحدة. هذا وقد اتهمت الولايات المتحدة، الحليفة القوية لكوسوفو، تكراراً روسيا بالتدخل في شؤون المنطقة بما يشمل الإستفتاء، الذي نظم عام 2018، في مقدونيا لتغيير اسم الجمهورية وهو كان شرطاً أساسياً لقبولها في حلف الناتو.
في المقابل، إتهم الرئيس بوتين الغرب بالضغط على كل من مقدونيا ومونتينغرو، المرشحة الجديدة للإنضمام إلى حلف الأطلسي، خلافاً لرغبة شعبي هاتين الدولتين حيث قال، في مقابلة مع صحيفة “بوليتيكا”، إن جهود حلف شمال الأطلسي للتوسع ترسم خطوط انقسام جديدة في القارة الأوروبية.
وفي موسكو شكك وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أيضاً في “شرعية” استفتاء تغيير اسم مقدونيا والذي كان هدفه حل خلاف مزمن مع اليونان، حيث قال “لا نعارض الإسم الذي تم اقتراحه، إنما نتساءل فقط حول رغبة الولايات المتحدة في ضم كل دول البلقان إلى حلف شمال الأطلسي في أسرع وقت ممكن وإزالة أي نفوذ روسي في المنطقة”، مضيفاً “لا يمكننا أن نتفق مع الذين يقولون إنه لا مكان لروسيا في البلقان.”
انعكاسات على العلاقة مع أوروبا
قام الرئيس بوتين، في 6 يناير/كانون الثاني 2019، بزيارة رسمية إلى صربيا لتعزيز العلاقات بين موسكو وبلغراد الحليف الأقرب للروس في منطقة البلقان. وعلى الرغم من أن بلغراد تطمح للإنضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إلا أنها ترفض المشاركة في العقوبات الدولية المفروضة على روسيا إثر ضمها لشبه جزيرة القرم، كما أن الطرفين لا يخفيان خصوصية العلاقة “السلافية – الأرثوذوكسية” التي تجمعهما. تلك العلاقة الذي تجلت في الكثير من المواقف، من بينها دعم موسكو لبلغراد حول قضية كوسوفو التي لم يوافق الصرب على استقلالها.
وفي الوقت الذي يتحفظ فيه الإتحاد الأوروبي على خصوصية العلاقة التي تجمع صربيا وروسيا، فإن الأخيرة ليس لديها أي مانع من انضمام بلغراد إلى التكتل الأوروبي، لكن الأمر مختلف تماماً حين يكون الحديث عن انضمام صربيا لحلف شمال الأطلسي، وهو ما ترفضه روسيا قلباً وقالباً، خاصة بعد انضمام مونتينيغرو للحلف في العام 2017، واعتزام مقدونيا الإنضمام للناتو. حين ذاك، ستصبح كل الدول المحيطة بصربيا، بإستثناء البوسنة، في دائرة نفوذ الحلف الأطلسي.
وجاءت زيارة بوتين لبلغراد، وفق مراقبين، لدعم الرئيس ألكسندر فوسيتش في مواجهة الإحتجاجات الصربية الشعبية ضده وضد سياساته والمطالبة بحرية الإعلام وإنهاء الهجمات ضد الصحفيين والساسة المعارضين وعدم إبرام اتفاق سري مع كوسوفو. كما يتهم المحتجون في بلغراد رئيسهم بالإعداد لتسوية مع كوسوفو عبر مفاوضات، وهو شرط مسبق رئيسي حتى تنضم صربيا إلى الإتحاد الأوروبي.
ملفات ثلاث
في ذات السياق، بدأ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، زيارة لبلغراد في محاولة لتعزيز دور فرنسا في البلقان، على وقع تزايد نفوذ روسيا والصين في المنطقة. لكن الزيارة لا تشي بإحراز تقدم بسبب تعثر الملفات التي تعني القارة الأوروبية، سواء انضمام صربيا إلى الإتحاد الأوروبي أو الحوار مع كوسوفو.
ويَعتبر الإليزيه أن هذه الزيارة تشكل فرصة لإحياء الصداقة “الفرنسية – الصربية”. وفي سياق موازٍ، تشدد فرنسا على “استئناف الحوار” بين صربيا وكوسوفو مع استمرار عدم اعتراف بلغراد بإستقلال إقليمها السابق، وتذكر الرئاسة الفرنسية بأن ماكرون يرفض أي توسيع للإتحاد الأوروبي قبل إصلاح آلية عمله، من دون ربط ذلك بتاريخ محدد.
وفي الجانب الصربي، يبدو أن الرئيس ألكسندر فوسيتش، عزم على خص ضيفه بإستقبال لافت، كأنه يرد بذلك على الإستقبال المتواضع الذي حظي به، في احتفالات 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، في باريس. فبسبب خطأ بروتوكولي فرنسي، أُجلس الرئيس فوسيتش، الذي يمثل بلداً دفع ضريبة كبرى في الحرب العالمية الأولى، على منصة ثانوية في حين جلس نظيره الكوسوفي، هاشم تاجي، في المنصة الرئيسية إلى جانب الرؤساء إيمانويل ماكرون وفلاديمير بوتين ودونالد ترامب.
ومن مظاهر الحفاوة الصربية حشد نحو عشرة آلاف شخص إلى احتفال شرف الصداقة الفرنسية – الصربية، وتلقي سكان بلغراد رسائل نصية قصيرة تدعوهم إلى الحضور لتحية الرئيس الفرنسي في مدينة ازدانت بألوان العلم الفرنسي. وقال المحلل السياسي ألكسندر بوبوف “إن هذا الحدث سيتيح إرساء توازن بعد الإستقبال الكبير لفلاديمير بوتين. لقد حان الآن دور ماكرون. لدى السلطة الإمكانات الضرورية لتنظيم استقبال مماثل وجعله لافتاً، خصوصاً أنها قادرة على اجتذاب العدد المطلوب بدليل ما حصل عند استقبال بوتين”، مضيفاً “أن بلغراد تنتظر توضيح ثلاثة أمور، انضمام صربيا إلى الإتحاد الأوروبي، والدور المقبل لفرنسا في البلقان في ضوء الإهتمام المتزايد لباريس بهذه المنطقة، وقضية كوسوفو. إنها زيارة بالغة الأهمية يأمل فوسيتش أن يجني منها أكبر قدر من الفوائد.”
وخلال اجتماعهما في أبريل/نيسان 2019 في برلين، أبدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس ماكرون تفاؤلاً بقدرتهما على دفع بلغراد وبريشتينا إلى استئناف الحوار، وكان مقرراً أن يجتمع الطرفان مجدداً في باريس بداية يوليو/تموز، ولكن تم إلغاء اللقاء.
فيما يخص العلاقات الاقتصادية بين باريس وبلغراد، لا تبدو أيضاً على أفضل ما يرام رغم أن شركة “فانسي” فازت أخيراً بمناقصة مطار بلغراد، فيما لا تزال عين مجموعة “ألستوم” على مشروع المترو في وجه منافسة صينية، ويرافق وفد من مسؤولي “ألستوم” ماكرون في زيارته.
وتشكل منطقة البلقان حلقة مهمة في المشروع الصيني الطموح “طرق الحرير” الجديدة لتطوير قدرات بكين الإقتصادية، ومع منحهم قروضاً بفوائد رمزية، كما يكثف الصينيون حضورهم في مشاريع البنى التحتية والصناعة في المنطقة. فبين العامين 2007 و2017، أعلنت بكين عمّا مجموعه 12 مليار يورو من القروض في دول المنطقة، ثلثها مخصص لصربيا.
إطلاق الحوار بين صربيا وكوسوفو
تعهد الرئيس الفرنسي العمل على إعادة إطلاق الحوار والتوصل لإتفاق دائم بين صربيا وكوسوفو، خصمي الحرب السابقين اللذين تشهد علاقاتهما خلافاً دبلوماسياً منذ أشهر. وقال ماكرون إنه سيقوم بتنظيم اجتماع في المستقبل القريب مع قادة صربيا وكوسوفو وكذلك مع المستشارة الألمانية من أجل التوصل لحل دولي ودائم. وقال الرئيس ماكرون “إن الأحداث في الأشهر القليلة الماضية تقلقنا والقرارات المخالفة للإتفاقات يجب إبطالها”، واضاف “من مسؤوليتنا تقديم الدعم الضروري للتوصل لإتفاق.”
يأتي هذا في وقت قام فيه أهالي شمال كوسوفو، وغالبيتهم من الإثنية الصربية التي لا تزال موالية لبلغراد، بالتظاهر احتجاجاً على فرض رسوم حالت دون وصول السلع الصربية إلى المنطقة. وتقول كوسوفو إنها لن تلغي الرسوم قبل أن تعترف بلغراد بإستقلالها، فيما لن تدخل صربيا في حوار قبل إلغاء الرسوم.
التسريع في ضم صربيا للإتحاد الأوروبي
صرح الرئيس الفرنسي أنه ينبغي على الإتحاد الأوروبي إجراء إصلاحات في آليات القرار، من أجل تسريع ضم صربيا. جاء ذلك في كلمة له، في مؤتمر صحفي مشترك عقده مع نظيره الصربي، حيث اوضح أن بلاده ترتبط مع صربيا بعلاقة صداقة تاريخية تتغلب على الخلافات بين البلدين، مضيفاً أن أحد أهداف زيارته الرسمية لبلغراد هو بناء مستقبل مشترك مع صربيا، مؤكداً أن الإتفاقيات الموقعة حول التعاون في مجالات التعليم والثقافة والنقل والدفاع والطاقة ستعطي دفعة جديدة للعلاقات الثنائية، كما اعترف الرئيس ماكرون أن الإتحاد، بدوله الـ 28، غير متمكن من العمل بصورة جيدة في الوقت الراهن.
وشدد الرئيس ماكرون على ضرورة تنفيذ الإتحاد الأوروبي اصلاحات لإتخاذ قرارات أسرع وذات فاعلية أكبر، وبالتالي قبول صربيا عضواً فيه، داعياً الإتحاد الأوروبي إلى بذل جهود في حل المشكلة بين صربيا وكوسوفو في غضون بضعة أشهر، لأن ذلك يعتبر من مسؤولياته. الجدير بالذكر، أن زيارة ماكرون لصربيا تعد الأولى لرئيس فرنسي منذ 18 عاماً، حيث كانت الزيارة الأخيرة للرئيس الأسبق، جاك شيراك العام 2001.
ختاماً، بين روسيا وأوروبا، لمن ستكون الغلبة في البلقان؟ هذه العجالات والأحداث المتسارعة لا تتضمن صراعاً على مصالح اقتصادية ضيقة أو صفقات دولية خفيفة العيار المالي، بل تمثل بالنسبة لروسيا قضية حياة أو موت، وهي معيار قومي مثله مثل قضية الغاز التي تقام الحروب لأجلها، سهول وجبال البلقان هي خط الدفاع الطبيعي الرئيسي الأول والأخير قبل سهول موسكو المفتوحة والباسطة ذراعيها في أبواب آسيا.
من هنا، لا يمكن لموسكو أن تصمد تاريخياً في وجه أي غزو ما دامت هذه الجبال مهددة بالإحتلال ومراصدها مهددة بالأعداء. الموضوع يشكل خطاً أحمراً روسياً، في حين يحاول ماكرون، بصلف سياسي، تلوينه بألوان أخرى، لا رهانات على أي شيء سياسي، ولكن قد يكون لروسيا كلام أخر حين يلتف الحبل على العنق.
مصدر الأخبار: سيتا – وكالات.
مصدر الصور: Miami Herald – News Week