مجد إبراهيم كاسوحة*
بدأت الحرب على بلادنا منذ أكثر من قرن من الزمن. لم تبدأ اليوم أو الأمس كما يرى الكثيرون ممن يتابعون الشؤون المحلية والإقليمية والدولية حسب متغيرات الأوضاع عامة. فسورية الطبيعية، التي تضم اليوم حسب التقسيمات الحالية كل من (سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين المحتلة)، هي من أكثر مناطق الوطن العربي خصوبة، كما أنها بوابة الشق الإفريقي من العالم العربي، وطننا الحلم الذي نصبوا إليه، مستفيضاً بشرح مختصر بهدف توضيح وضعنا اليوم.
كان الصراع على المنطقة، ولا يزال، صراعاً على المواقع الإستراتيجية والأراضي التي تشكل مصادر للثروات. أقطارنا اليوم هي رقع جغرافية متناثرة في أهم مناطق العالم التي تساهم في السيطرة السياسية والإقتصادية. أما الآن، فتعتبر المتغيرات الهائلة، التي طرأت على توازنات القوى، من دواعي الإنكشاف والوهن العربيين، في ظل غياب القدرة على التصدي للأطماع الدولية عبر غياب التضامن العربي الذي يشكل الهيكل الأساسي للأمن القومي الجماعي المنبثق عنه الأمن الإقتصادي والغذائي والمائي.
في غابر الأزمان، كانت الجبال والحصون المنيعة ضماناً لحماية المدن، لكن التطور الهائل في مجال التسلح، أوجد حقائق جديدة أخرى. فالحروب الحديثة تدور بأسلحة بطريقة مختلفة عن تـلك التي استخدمها الإنسان في الماضي. إنها تدور بأدوات ذات تقنيات حديثة التي تستخدم كافة الموارد والعلوم في صناعتها بأشكالها المختلفة من صواريخ ودبابات وطائرات خاطفة وقاذفات قنابل، هذا في الشق الأول.
أما في الشق الثاني، هي تدور بالإستخبارات وجمع المعلومات، كما يخضع للشق الثاني نظام اقتصادي عالمي معقد تم ربطه بسوق موحدة عبر المركزية العالمية للإدارة حيث تخضع كافة العمليات النقدية بشكلها المعروف، من تسديد وتحويل وتجميد وتحرير وتجيير أرصدة، لهذه المركزية. كل هذا يخضع لنظام موحد يُقرر اللحظة المناسبة لضخ أو درء أمواله، ومتى يخضع هذه البلاد أو تلك لمضاربات السوق، ويقرر أيضا اللحظة التي يسحب فيها تلك الأموال ويهدد اقتصاد البلاد من الداخل في غفلة عن أهلها وانشغالهم بعد إشغالهم بأمور ذات أهمية كبيرة نسبياً لتلك البلاد.
كانت البحار من أسباب استتباب السلام والرخاء، وأيضاً سبباً في الأطماع والحروب. وهكذا رأينا أن المواقع التي شهدت انبثاق الحضارات الفينيقية واليونانية والرومانية والمصرية القديمة كان معظمها في البحر الأبيض المتوسط، وقد شهدت أهوالاً وحروب، أودت بحياة الآلاف من البشر.
ويرجع الكثير من المؤرخين إلى الموقع لكشف الدور الحضاري الإستثنائي الذي لعبته اليونان في التاريخ الإنساني، حيث كانت تلك البلاد منبع الفلسفة، وكانت بلاد الإغريق المكان الذي تطورت فيه علوم السياسية والتاريخ، كما أنها شهدت قيام أول نظام نخبوي في تاريخ الإنسان. فلقد كان الموقع سبباً في رخائها وتحقق نهضتها، كذلك الأمر سبباً في دمارها واضمحلال دورها. إن إنفتاح المدينة لجهة البحر، سهل على الغُزاة احتلالها واستباحتها. وكما كان هذا البحر مكمن سرها الذي باحت به لسائر البشرية، كان الوسيلة التي انتقلت من خلالها علوم وتجارب الحضارات الأُخرى إليها، كالفينيقيين من المشرق والمصريين من الجنوب، وحيث كانت القوارب تمخر عِباب حوض البحر الأبيض المتوسط لتصل إلى حاضرة اليونان ناقلة العلوم وآخر الأخبار.
ولعل من نافل القول الإشارة إلى أنه يكاد لا يوجد بيننا من لم يسمع عن حضارات المتوسط، في حين تغيب عنا إنجازات الحضارات المقفلة وإبداعاتها. ترى من قرأ منا عن صحراء التبت، والحضارات التي قامت في مجاهل أفريقيا أو في الأمازون. إنه الموقع يجعل الحضارات ماثلة في ذاكرة التاريخ، ولم يكن بالإمكان تحقيق تقدم بشري حقيقي، بمعزل عن روح التحدي واستنهاض المخزون الحضاري.
إن الجغرافيا ذات التنوع الهائل تبعث على تنوع الأوضاع أكثر مما تبعث على الوحدة (وهو ما تم استغلاله من الغرب في الوقت الراهن بتحريك هَبات “الربيع العربي” من مكان لآخر). ولذلك، فإنه لا يمكن أن يكون الحديث متطابقاً عند التعرض التاريخي للمجتمعات التي سكنت حوض المتوسط سابقاً. هذه المجتمعات عُرفت بحضارتنا الحالية أنها منشأ الحضارة عبر التاريخ: أوغاريت – رأس شمرا وغيرها، فلقد عرفت الزراعة المروية والإستقرار الحضاري والإقتصاد بأشكاله التبادلية الأولى. أما من صُنف عبر التاريخ بالمجتمعات الكثيفة السكان فكانوا قاطني أرض مصر، تلك الأرض التي عرفت الري منذ خمسة آلاف عام. هذه المجتمعات الحضارية لا يمكن مقارنتها مع مجتمعات مناطق الزراعة غير المروية المتناثرة أو مجتمعات الرعي في الصحاري الأفريقية وفي شبه الجزيرة العربية.
وحين جرى التخطيط لإغتصاب فلسطين، كانت أهمية الموقع في القلب من مشروع الإغتصاب. على سبيل المثال، جاء في رسالة اللورد روتشيلد إلى رئيس وزراء بريطانيا، هنري بالمرستون، عام 1839-1840 ميلادي: “إن هناك قوة جذب متبادلة بين العرب وعودة مجدهم مرهون بإمكانات إتصالهم وإتحادهم. إن فلسطين هي الجسر الذي يصل بين عرب مصر وبين العرب في آسيا. اتحاد هذه الشواطئ سيؤدي إلى قوة هائلة بين أكبر كثافة سكانية موجودة (مصر) وأخصب المناطق الموجودة في شرق المتوسط. فلسطين هي بوابة الشرق حيث يجب زرع قوة عدوة لتكون حاجزاً بينهما.” وفي وثيقة كامبل نيرمان يرد النص التالي: “إن من يسيطر على الشواطئ الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط يسيطر على العالم، وأن الخطر الأكبر يكمن في الشعب الموجود على شواطئه، نظراً إلى ما يتوافر فيه من مقومات الترابط”. ولذلك توصي الوثيقة بفصل الجزء الأفريقي عن الجزء الآسيوي عبر إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الحسر الذي يربط بين الجزأين، في فلسطين.
في ذات الوثيقة، نرى تصنيف الدول في العالم بالنسبة لبريطانيا ثلاث فئات:
الفئة الأولى: دول الحضارة البريطانية المنبثقة عن الأنجلوسكسونية /مسيحيي بريطانيا/ وهم (دول أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا) والواجب تجاه هذه الدول هو دعمها مادياً وتقنياً لتصل إلى مستوى تلك الدول (بريطانيا والحلفاء) والذي كان يعتبر أعلى مستوى من الإزدهار.
الفئة الثانية: دول لا تقع ضمن دول الحضارة البريطانية المنبثقة عن الأنجلوسكسونية /مسيحيي بريطانيا/ ولكن لا يوجد تصادم حضاري معها ولا تشكل تهديداً عليها (كدول أمريكا الجنوبية واليابان وكوريا وغيرها) والواجب تجاه هذه الدول هو احتواؤها فكرياً ودينياً وإمكانية دعمها بالقدر الذي لا يشكل تهديداً عليها وعلى تفوقها.
الفئة الثالثة: دول لا تقع ضمن دول الحضارة البريطانية المنبثقة عن الأنجلوسكسونية /مسيحيي بريطانيا/ ويوجد تصادم حضاري معها وتشكل تهديداً بتفوقها (وهي بالتحديد الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام) والواجب تجاه تلك الدول هو حرمانها من الدعم ومن إكتساب العلوم والمعارف التقنية وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة أي اتجاه يحاول دعم هذه الدول لإمتلاك العلوم التقنية، ونشر البعثات الفكرية لتدمير المجتمعات الاسلامية فكرياً من خلال حثهم على التخلف التام، وردف هذه المجتمعات ببعثات ذات توجهات متطرفة تنتشر بها لخلق حاضنات بشرية لاحقة.
ويصح أيضاً القول إنه بالقدر الذي يكون فيه الجوار عامل جذب خلاق، فإنه يكون عامل صراع ونفور. ويبرُز ذلك بوضوح في الصراع المرير الذي طغى على العلاقة بين الإمبراطورية الفارسية وبين مختلف الحضارات التي تعاقبت على العراق، من سومرية وبابلية وكلدانية وعربية. وكذلك الصراع المرير في العصر الحديث بين فرنسا وألمانيا وتركيا واليونان وغيرها، بما يعني استحالة قيام حضارتين متكافئتين متجاورتين. وفي مرحلة تاريخية واحدة دون أن تكون هناك صراعات وحروب إن صعود حضارة مجاورة، ضمن هذا التصور، يستلزم بالضرورة إما استمرار الصراع بينهما، أو تداعي أحد تلك الحضارات لصالح الأخرى.
الموقع الجغرافي، في الغالب، يعيش حالة ثبوت نسبي. ولذلك، يصبح صحيحاً القول بأن الدول، على عكس الأفراد، لا يمكن أن تختار جيرانها، إذ ليس بإمكانها أن تنتقل بموقعها أو تجبر جيرانها على تغيير مواقعهم. ولم يحدث عبر التاريخ القديم أو الحديث، أن جرت إبادة جماعية لجنس من البشر، تمكنت من استئصال شافة الشعب المستهدف، إلا في حالات تبدو نادرة جداً، كإبادة الهنود الحمر في أمريكا، وتشريد الشعب الفلسطيني من دياره، وما حدث للأرمن في بلادهم على يد الأتراك… إلخ، وحتى هذه الأمثلة تبدو موضع سؤال لأن تلك الشعوب ما دامت مستمرة في نضالها لتحقيق التحرر والإنعتاق.
وهكذا، إن علاقة الجوار هي سلاح ذو حدين؛ فهي عامل قوة حين تكون العلاقات متوازنة وحين يؤخذ في الإعتبار المصالح المشتركة للمتجاورين، وهي عامل ضعف حين تطغى قوة على أُخرى. أما الأراضي المجاورة، فهي غالباً ما تكون الطرق التي تعبر منها جيوش الإحتلال، وهي من مسببات تسهيل عمليات الإختراق. فلكي يتم لجيوش الغُزاة احتلال أراضي دولة ما، فإنها تحتاج إلى مواطئ قدم وممرات وطرق تعبر من خلالها إلى أراضي الدولة المستهدفة بالإحتلال.
ومع ذلك، فإنه لا بد من التسليم بأن حالة الجوار هي القدر الجغرافي الذي على الدول أن تعيش وتتعايش معه. والحدود الإقليمية لدولة ما هي بطبيعتها أطراف رقعتها السياسية، تمثل خطوط توازن القوة وجبهات إلتحام الضغوط السياسية على جانبيها، وفيها تتحدد المداخل والنقط الإستراتيجية الحاسمة.
البحث في سبل الضعف وكيفية تجنبها
ابتلُي العالم العربي بالإستعمار القديم والحديث، من الاستعمار العثماني إلى الاستعمار الغربي حيث أمعن بكل أشكاله في تقسيمه وتشجيع عوامل التخلف به، ودعم هذا الإستعمار التنظيمات الإرهابية التي استهدفت عدداً من الدول العربية ذات الأنظمة الجمهورية فيما سمي بـ “الربيع العربي” لتُمارس هذه التنظيمات الإرهابية كل أشكال القتل والذبح وتدمير البشر والحجر وهي بمعظمها ممولة من حكام البترودولار العرب. يضاف إلى هذه الأخطار التي خلقها وشجعها الإستعمار وحلفاؤه والتي تهدد الأمن القومي العربي، خطر آخر هو الخلل في الأمن المائي العربي؛ بنظري، هذا هو الصراع القادم للمرحلة المُقبلة بُعيد الصراع على موارد الطاقة والتي ستُحدد وجه ومعالم العالم القادم وهو ما يُبرر احتِدام الصراع على الجولان من أجل تحديد من يسيطر على موارده المائية وتربته الغنية، إذ تختلف المياه عن غيرها من الموارد الطبيعية، فلا توجد بدائل للمياه ومن الصعب استيراد المياه حيثُ تُعَد مورداً محلياً، لفترات طويلة ودائمة.
كانت المنافسة الجيو – سياسية الدولية المحتدمة على الموارد الطبيعية سبباً في تحويل بعض الموارد الطبيعية الإستراتيجية إلى محركات لصراع هائل، فقد تحولت موارد المياه العابرة للحدود الوطنية مصدراً نشطاً للمنافسة والصراع، وانطلق سباق محموم لبناء السدود على منابع الأنهار الدولية.
يعاني العالم العربي نُدرة المياه العذبة ويتفاقم الوضع بفعل الإنفجار السُكاني، وتدهور النُظم البيئية الطبيعية، الأمر الذي يُلقي بظلاله القاتمة على مستقبل المنطقة وخاصة أنَّ معظم الدول العربية كيانات حديثة. ويبدو أن ندرة المياه تساهم في إدامة حلقة العنف وقد اُسُتغل ارتفاع أسعار الغذاء المرتبط مباشرة بأزمة المياه المتفاقمة في المنطقة من خلال “الربيع العربي” الذي أجج الإرهاب، بكافة اشكاله التنظيمية الفكرية منها والعسكرية، في العالم العربي والذي أصبح حبيساً داخل حلقة مفرغة، إذ تؤدي الضغوط البيئية والديموغرافية والإقتصادية إلى تفاقم ندرة المياه، ما ينتج مزيداً من البطالة، وتغذية للتوترات الإجتماعية والإضطرابات السياسية والتطرف. فوفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة، ربما يهبط متوسط معدل توافر المياه السنوي في العالم العربي إلى 460 متراً مكعبا للفرد، وهذا أقل من نصف عتبة الفقر المائي عند مستوى ألف متر مكعب.
إن الأزمات المائية تحد من قدرة الأفراد والمجتمعات الحفاظ على سبل عيشهم واستقرارهم السياسي، مع وجود مؤسسات هشة ضعيفة وغير فعالة، وبنية أساسية متضررة تعمل كمضاعف للتحديات التي تواجهها الإدارة المستدامة للمياه. كما أن تزايد السكان في المنطقة والتوسع الحضري يشكلان سبباً لزيادة الطلب على المياه، إضافة إلى أن الأضرار المناخية تجعل ندرة المياه أشد قسوة.
في هذا الشأن، طعم مياه الشرب في قطاع غزة كطعم مياه البحر، حيث أدت سنوات من الإحتلال والحصار الإسرائيلي والإهمال، إلى استنفاذ المياه الجوفية الطبيعية في القطاع لتحل محلها مياه البحر ومياه الصرف الصحي، ما يشكل خطراً على الصحة العامة ويعد كارثة بيئية.
بالتالي، ينبغي أن تركز التدخلات المتعلقة بإدارة المياه على زيادة الدخل، وبناء نظم غذائية مرنة، والعمل على تعزيز الوصول إلى الأسواق ولو منعتهم الأزمة المائية من الزراعة في المناطق المحرومة بما أن مشاكل المياه والزراعة كلها مشاكل محلية بالأساس، فإن البحث وتطوير التكنولوجيا ونقلها تضفي مزيداً من التحسينات في كفاءة المياه وإنتاجية المحاصيل في المنطقة. وبالنظر إلى حجم التحديات التي تواجه عديداً من البلدان في المنطقة العربية ولكون هذه التحديات مشتركة، فإن العمل الجماعي والشراكات أمران ضروريان، للمساهمة في الإستقرار المحلي والإقليمي.
يناقش تقرير “الفاو” والبنك الدولي، الذي صدر بعنوان “إدارة المياه في النظم الهشة”، كيف يمكن للإستثمارات في المياه أن تساعد على تحقيق الإستقرار من خلال تلبية احتياجات سبل العيش على المدى القصير ومعالجة تحديات الإستدامة على المدى الطويل. كما أن إدخال تكنولوجيات، الأكثر تقدماً لتأمين متطلبات المحاصيل الزراعية، قد يساعد على الحد من استخدام المياه. مثلاً، يعمل الأردن، بمساعدة أوروبية، على مد خط أنابيب من البحر الأحمر إلى البحر الميت، لنقل مياه البحر الأحمر.
في المقابل، هناك عدة مفارقات منها أن المياه كما تدعم الحياة يمكن أن تكون سبباً للموت عندما تصبح ناقلة للميكروبات أو تتخذ هيئة موجة مد عارمة “تسونامي”، أو فيضانات مفاجئة. بالمقابل، يفرض الإحتباس الحراري على إمدادات مياه الشرب ضغوطاً متزايدة، وقد أدت تغيُّرات أساليب الحياة إلى زيادة في معدل استهلاك الفرد من المياه، مع تسبب ارتفاع دخل الفرد تغير في بنية النظام الغذائي. فاليوم، أصبح عدد سكان العالم من البشر أكثر قليلاً من سبعة مليارات، ولكن أعداد الماشية لا تقل في أي وقت عن 150 ملياراً، مع تحول الإستهلاك العالمي بشكل سريع إلى اللحوم فإن هذا بحد ذاته محرك أساسي للضغط على المياه.
الآن، تدور بالفعل نزاعات وربما حروب سياسية واقتصادية في العديد من المناطق، وهو ما ينعكس في بناء السدود على الأنهار الدولية، ولنتأمل هنا على سبيل المثال أن بناء إثيوبيا سداً على النيل الأزرق، أثار تهديدات مصرية بشن عمليات عسكرية انتقامية، بينما تركيا تسيطر على منابع نهري الفرات ودجلة ومن ثم تتحكم في المياه المتدفقة إلى سوريا والعراق.
إن الزيادات الكبيرة في الطلب على المياه يحركها النمو الإقتصادي والديموغرافي والإنتاج الإضافي من الطاقة والتصنيع والغذاء إضافة للزيادة السكانية، وقطاع المياه لا بد أن يتبنى كل الخيارات غير التقليدية، بما في ذلك تحلية مياه المحيطات والبحار لأن الحياة تتوقف عليها. ويتطلب الأمن المائي في المنطقة العربية الذهاب إلى ما هو أبعد من زيادة الإمدادات المائية المباشرة كالتركيز على ضمان إدارة مستدامة للموارد، وتقديم خدمات فعالة وبأسعار معقولة لا سيما أن مثل هذا النهج المتوازن يعزز القدرة على تحمل الصدمات والأزمات الممتدة، مثل الجفاف أو النزاع أو تدفق اللاجئين، مع معالجة الإحتياجات الفورية مثل الأمن الغذائي. وبناء عليه، يجب على صانعي السياسات والممارسين والباحثين في العالم العربي تركيز الإهتمام على دور المياه، واعتماد السياسات التي تحول إدارة وتخصيص الموارد المائية إلى قوة تربط المجتمعات بعضها ببعض، إذ ستبقى السدود التي تبنى على منابع نهر النيل، في إثيوبيا، ونهري دجلة والفرات، في تركيا، خطراً حقيقياً إضافياً يهدد الأمن المائي العربي، الذي يشكل خطراً يضاف إلى الأخطار الكبرى التي تهدد الأمن القومي العربي اليوم.
الفريق الإقتصادي المتجاور
يمكن من عدة دول متجاورة أن تشكل فريقاً إقتصادياً متكاملاً ذات بنية اقتصادية ضخمة تستطيع من خلال مواردها الطبيعية وأصولها الإنتاجية أن تحقق الإكتفاء الذاتي وهذا ما نُحارب عليه اليوم، لا أعرف إن لاحظ معظمنا أنّ الفترة الممتدة ما بين الأزمة السورية والوقت الذي كان مُقرر لإنسحاب القوات الأمريكية من العراق.
ففي الشهر السادس من العام 2011، كان من المفترض خروج آخر جندي أمريكي من أرض العراق، فلم يمض هذا الزمن وافتعلت الأزمة السورية بالشهر الثالث من العام ذاته. برؤيتي وحسب المعطيات العامة، هنالك خوف متجذر لدى كافة الدول الغربية، وعلى رأسهم الأمريكيين ومن خلفهم البريطانيين، من قيام وحدة اقتصادية أو منطقة تعاون اقتصادي موحد تضم كلاً من سوريا والعراق وإيران جغرافياً واقتصادياً وخصوصاً بعد الحرب العراقية، في العام 2003 حيث تشكل نظام عراقي قائم بمعظمه من أصدقاء للبلدين الجارين من الغرب والشرق (سوريا وإيران).
إن ما تم بإفتعال الأزمة السورية هو منع قيام هذه البنية الإقتصادية عبر خلق حاجز بشري بين كل من سوريا والعراق في شرق وشمال شرق سوريا (قوات إرهابية محاربة عالمياً – تنظيم “داعش”، وقوات معتدلة ذات خيار انفصالي – قوات قسد الكردية وما تضمه من مكونات أُخرى)، وهو الأمر الذي تحاول الولايات المتحدة الحفاظ عليه لمنع قيام وحدة أو اتصال جغرافي مفتوح لمسافات شاسعة بين البلدان الثلاث. نتيجة لهذا، كان العمل الممنهج على تدمير جزء كبير من البنى التحتية السورية سعياً لضرب الإقتصاد المحلي من أجل سهولة تدمير وتفكيك الدولة السورية لاحقاً عبر حرب إقتصادية مركزة، وذلك بعد فشل الشق العسكري بتغيير البنية الأساسية لمؤسسات الدولة لدينا. ما نراه اليوم من ضغوط اقتصادية تمارس علينا من عدة محاور خارجية تستهدف المواطن بغذائه وعلاجه وأساسيات مستلزمات الحياة من موارد الطاقة النفطية والكهربائية، هو عبارة عن مجموعة من الحلقات التي يمكن تسميتها بمجموعة “عقد الصياد الجذرية”، وهي مجموعة من الإجراءات الخارجية التي تظهر كعشوائيات ولكنها ممنهجة لتدمير روح الصمود لدى المواطنين. لذلك، يجب علينا تجنب هذه الأزمة حتى لو كان البعض من ثمن هذا التجنب غالياً.
فما ندفعه اليوم للحرب الشعواء هو ناتج عن أزمة اقتصادية جزئية تمت في البلاد قبل ثلاث أعوام من الأزمة الحالية، بدءاً من العام 2008 لغاية العام 2011، نتيجة لعدد من المتغيرات الإقصادية المفاجئة الإقليمية والعالمية والتي لم تتناسب مع واقع سوريا الإقتصادي بالنسبة للدول المحيطة بها قبل الأزمة. فإحدى أهم النقاط التي عجلت بإندلاع “الثورات الملونة” كانت إرتباط القوات الأمريكية بتاريخ انسحاب محدد من العراق. فلو حصل هذا الإنسحاب ولم تحدث هذه الثورات الملونة في العديد من البلدان العربية لما كنا نعاني حتى اليوم، فالحراك بمراحله الأولى كان عبر نفحات تحريضية منطلقة من واقع معيشي سيء ناتج عن امتدادات الأزمة الإقتصادية العالمية.
حين ننظر للماضي، نرى أن معظم ما ألمَّ بنا كان ناجم عن اختناق اقتصادي مفاجئ في عدد من المناطق الحيوية لكنه كان محدوداً نوعاً ما. أما ما يُحاك اليوم لكامل الجغرافيا السورية، فلا يمكن لمواطن لا يستطيع أن يحقق كامل ثمن طعامه من ناتج عمله إلا سبيلين؛ إما الإنهيار أو الإنفجار. وفي كلتا الحالتين يبقى المجتمع والدولة المتضررين الرئيسيين.
ولنتجنب العقوبات الإقتصادية وربما الأزمات التي قد تنشأ عن هذا الحصار المفروض، يجب علينا مراعاة ظروف وواقع الحياة التي نمر بها ونستغل واقع الحصار لمحاولة خلق اكتفاء ذاتي من كافة نواحي الحياة التي تحقق الإستمراية الإقتصادية والإجتماعية، إذ يجب أن نخلق موارد للطاقات الكهربائية بشكل اقتصادي وبيئي تام بعيداً عن مصانع الكهرباء التقليدية المبنية على أساس الطاقات الإحفورية، من الغاز والنفط، إما عبر بناء مزارع رياح كاملة في عدة مناطق حيث يمكننا الإستفادة من طاقة الرياح الكبيرة التي يتم اختيارها بعد الدراسة، أو بناء عدة مزارع للطاقة الشمسية في الصحراء السورية، أو محاولة الإتفاق لبناء مفاعل نووي للطاقة الكهربائية بيننا وبين الحليف الروسي هذا على المستوى الإستراتيجي.
أما على المدى المنظور، فيجب العمل على دعم المزارعين والفلاحين وصغار المنتجين منهم المتواجدين في الأرياف ممن يقومون بزراعة ما نأكل من خلال تأمين مياه الريّ لهم ورفدهم بجزء من مسلتزماتهم الزراعية التي يعجزون عن تحقيقها. ومن أهم خطوات الدعم العام والشامل حفر آبار تعمل من خلال وحدات طاقة بديلة ليتم توزيع العمل بها وفق نظام ساعات محددة لري المحاصيل ما يساعد على زراعة مساحات كبيرة وجعلها مناطق مروية بِأُسس الكترونية ذات تقنيات متقدمة لا مناطق بعلية مما يساهم في زيادة الناتج الزراعي، إضافة إلى تأمين موارد تنموية إنتاجية تحقق واقع خدمي وربحي في المناطق الحدودية، كمثال إنشاء الجامعات الخاصة التي تحقق في أماكن إقامتها أصول إنتاجية وعائد مالي كبير وردف المناطق الحدودية التي تعاني من محدودية الأُفق والأصول الإنتاجية بعدد كبير من فرص العمل، وهذا هو المنطلق الذي سيساهم في خلق بيئات ذات تنمية مستقرة على مدار سنوات عديدة قادمة.
*باحث سوري
مصدر الصور: قدس آنلاين – الصدى نت – موقع كلمة.