بدأ العالم العربي ينظر إلى القانون الدولي والأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وكل هذه المصطلحات، بعين الشك؛ فهو يعلم أن مبادئ القانون الدولي وضعتها الدول الغربية المسيحية، ولكن الأهم من ذلك أنه بدأ يدرك أخيراً أن العالم في حقيقته ينقسم إلى أقوياء وضعفاء، وشمال وجنوب، وسادة وعبيد، وأن الأشكال المختلفة التي سادت العلاقات الدولية، طوال القرنين الأخيرين

فلقد اقنع العالم العربي أن “نظرية الصراع” هي التي تحْكم علاقات الدول، وأن الصراع يتطلب أوراق القوة، وأن العالم العربي لديه كل أوراق القوة لكنه لا يستطيع استخدامها، فأصبح الغرب يحصل على مصالحه فيه دون مقابل سياسي بعد أن طوّع نظّمه وحكامه لمصالحه، وربط هؤلاء الحكام بهذه المصالح فأعطاهم “فتات” ما ينهبه من خيرات بلادهم، تاركاً الغرب هؤلاء الحكّام ما بين البطش بشعوبهم وما بين ذل إرتباطهم به، إذ لا يكاد يفلت من هذه القاعدة إلا الدول التي ليس لها أهمية على خريطة العالم أو تلك التي تفتقر إلى أية مصلحة مكانية أو سياسية أو إيديولوجية.

من الواضح أن العلاقة بين الغرب والعالمين العربي والإسلامي لا يزال يحكمها تراث قديم له صبغة دينية مهما حاولنا أن نفلت من هذا التصنيف الثنائي؛ ولكن في نفس الوقت، حاول العالم العربي أن يندمج في مؤسسات المجتمع الدولي دون أن يدرك أنه، وإن ساهم مؤخراً مع الدول الغربية في وضع قواعد القانون الدولي، لا يتملك القوة والقدرة لتطبيق هذه القواعد لصالحه.

أيضاً، هناك الكثير من العوامل التي تدفع العالم العربي إلى التوقف لتبصر الموقف، فقد لاحظ العالمين العربي والإسلامي أن الصراع الأمريكي – السوفيتي في أفغانستان أدى إلى استغلال الغرب للعالم الإسلامي حتى يصفّي الإمبراطورية السوفيتية، ولم يُعدم الشعارات البراقة التي أغرت شباب العالم الإسلامي بالانخراط ضمن صفوف معركة الغرب ضد السوفيات، تارة أن الإسلام والمسيحيين أديان توحيد والصراع بين الموحدين والمؤمنيين ضد الملاحدة – أي الشيوعيين، وطوراً آخر أنه صراع بين الحق والباطل، من دون أن يدرك العالم الإسلامي أن “مقولة طرفين وجزءين” – “جزء وطرف” يمثلان الحق، وهو العالم الإسلامي وأفغانستان وجزء استغل الظرف كعادته.

في أزمة غزو العراق للكويت، تبين أن الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، قد إستُدرج من قِبل الولايات المتحدة حتى تؤمن وجودها العسكري في منطقة الخليج وتقضي في نفس الوقت على العراق، كدولة عربية رئيسية، لصالح إسرائيل. فلقد حرصت واشنطن على تطويع النظام السياسي العراقي، مثلما حرصت على ذلك مع مصر باعتبار أن البلدين من أكبر الدول العربية.

وفي هذا الحدث، كان القانون الدولي يقف تماماً إلى جانب واشنطن، من الناحية النظرية، لإخراج العراق من الكويت؛ ولكن من الناحية الفعلية، كان الهدف تدمير العراق. لذلك، تركت الانطباع في الخليج بأن واشنطن هي التي حررت الكويت وأن العروبة والقومية، وغيرها من الشعارات، هي التي احتلتها. أيضاً، لاحظ العالم العربي أن إسرائيل قامت باحراق غزة، وأن مجلس الأمن لم يتمكن من مجرد الإنعقاد؛ وعندما انعقد، لم يصدر إلا قراراً باهتاً يدين فيه الإرهاب ويقصد به المقاومة الفلسطينية. أما الدول الرئيسية، فقد ظلت تمد إسرائيل بالاسلحة حتى تفتك بالفلسطينيين وتعزز خطواتها، وأهمها الإبقاء على الحصار وخنق الشعب الفلسطيني وفي نفس الوقت تتحدث عن حقوق الإنسان والشرعية الدولية حتى أن اللجنة الرباعية الدولية قررت أن رفع الحصار عن غزة يتطلب امتثال حركة “حماس” للشرعية الدولية.

من هنا، ارتاب العالم العربي أمام مفهوم “الشرعية الدولية”؛ هل هي رد الحقوق إلى اصحابها أم مساعدة الغاصب للاجهاز على الضحية؟ فبإسم الشرعية الدولية، صدر أكثر من خمسين قراراً من مجلس الأمن، خلال السنوات الخمس الأخيرة، وكلها في قضايا عربية وإسلامية وهدفها الأساسي تمكين إسرائيل من المنطقة.

وعندما هاجمت إسرائيل عدة مقرات للأمم المتحدة في غزة، حتى خلال وجود الأمين العام في إسرائيل، لم يحرك العالم ضدها بعد أن أصبح مجلس الأمن مشلولاً عن اتخاذ أي عمل ضد إسرائيل، ولكنه طريق قوي في تعقب العالم العربي. وقد كان آخر فصول هذه المأساه هي توظيف المحكمة الجنائية الدولية لكي تساعد مجلس الأمن في هذه المهزلة، فأصبحت المحكمة أداة “أنيقة” لاتهام من يجرؤ على الممانعة؛ فأنشأت المحكمة الخاصة بلبنان بشعار واضح وهو “تطويع” حزب الله وسوريا بالقانون، فيظن المراقب أن القانون الدولي سيف مسْلط على “المارقين”، ولكنه لا يعلم أن “المروق” مصطلح غربي وأن المارق هو من تحدده وتعينه الولايات المتحدة كالإرهاب؛ فيصبح الرجل إرهابياً إذا خالف مصالحها، ويسمّى مقاوماً إذا كان سلوكه متوافقاً من إستراتيجياتها.

لذا، إن القضية في أساسها هي رغبة الغرب في الهيمنة، حيث وزّع “أبطال” هذه الحملة، فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا، الأدوار فيما بينهم، في حين أن عملهم ينسجم تماماً مع المشروع الصهيوني. ولهذا، يشهد العالم العربي – الإسلامي هجمة جديدة بالقانون الدولي ومن خلال المنظمات بالمحاكم الدولية. على سبيل المثال، يعتبر الرئيس السوداني، عمر البشير، مجرماً ويجب محاكمته بسبب جرائمه في دارفور؛ لكنه إذا قدم تنازلات للولايات المتحدة كما تريد، فستسعى الأخيرة لحصوله على جائزة نوبل للسلام، تماماً مثلما تحول مناحيم بيغين، زعيم عصابة الهاجانا، من زعيم عصابة ساهمت في إنشاء الدولة اليهودية إلى رجل سلام لأنه وقع معاهدة مع مصر، التي شكلت “الجائزة الكبرى” للمشروع الصهيوني وادخلت مصر في دوامة السقوط ومعها العالم العربي في دوامة الضياع الذي وصل الآن به إلى القاع.

والسرال هنا: إذا كانت المحكمة الجنائية الدولية حلماً، فهل ظن العالم العربي أن هذه المحكمة يمكن أن يمثل أمامها مجرمون اعداء له؟ الإجابة يجدها القارئ عند المدعي العام الذي قرر ملاحقة الرئيس البشير رغم هشاشة الاتهامات له متناسياً حقه بالحفاظ على وحدة بلاده ولو بالقوة، بينما تغاضى عن جرائم القيادات العسكرية والسياسية في إسرائيل على الرغم من الأحداث الموثقة التي قدمتها أكثر من 350 منظمة دولية، وكما رفض من قبْل التحقيق في جرائم الولايات المتحدة المرتكبة بالعراق.

ففي قضية الرئيس البشير، يبدو أن المؤامرة واضحة وهي أن مجلس الأمن، الذي يفترض الناس منه أنه يحافظ على الأمن الدولي، لم يتورع إذا تعلق الأمر بالدول العربية، ومنها السودان، أن يعمل على زعزعة الأمن في هذه المنطقة. وقد أصبح قرار القبض على الرئيس البشير هو “الطلقة الأخيرة” من هذه المؤامرة، بل إننا نتوقع أعمالاً درامية كبيرة تحت ستار هذا القرار الذي يروج الغرب بأنه نتاج الشرعية الدولية وهناك ضرورة بالإمتثال لها.

أظن أنه في ضوء هذه الخبرة الطويلة وتعامل العالم العربي مع المنظمات الدولية ومع القانون الدولي، فقد ادرك هذا العالم العربي أن القانون قائم، لكن الذي يستفيد منه هو القوي وأن الضعيف هو الذي ضعفت إرادته وانحلت عزيمته وتفرقت صفوفه وانقطعت صلته بحقه فأبعده الوهن عن مناصرة الحق، فاصبح الغرب يتحكم بمصيره ويهجم على دينه ورموزه وهويته وعقيدته حتى يُفقده احترامه لها كما يكفّر بقيمه التي استخدمت هذه المنظمات في تحطيمها تحت ستار العولمة، وهي دعوة لتنميط العالم وفق قيم الغالب.

العالم العربي والأمم المتحدة

اليوم، أظن أننا وصلنا إلى مرحلة بدأ فيها الكثيرون يتساءلون عن جدوى استمرار عضوية العالم العربي في الأمم المتحدة ما دام مجلس الأمن أصبح أداة فعّالة للسيطرة، وبعد أن توافقت الدول دائمة العضوية على مصالح واحدة، فأصبح أداة لدعم القوي ضد الضعيف. وقد لاحظ العالم موقف مجلس الأمن من القضية الفلسطينية، وكيف أن التلويح بما يسمى بـ “عملية السلام” قد خدّر العالم العربي، خاصة بعد أن أصدر مجلس الأمن قراراً يؤكد فيه على هيمنة التسوية من خلال انشاء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، بينما يساعد المجلس على تقويض أي أمل في قيام هذه الدولة لكونه يأتمر بتوجهات الولايات المتحدة التي تسيطر إسرائيل على قرارها.

فإذا كان المجلس أداة في يد الكبار، فلماذا لا ينسحب العالم العربي من المنظمة الدولية حتى لا يتم قهره من خلال هذا المجلس وتحت ستار الطابع الالزامي لقراراته والتي لا تلزم سوى الدول العربية؟ هذا السؤال يطرح بشدة خصوصاً هذه الأيام، وأظن أن تمزق العالم العربي واختراقه زاد من ضعفه وجعل مثل هذا الطرح جزءاً من التاريخ.

مصدر الصور: Pinterest – العربي الجديد.

موضوع ذا صلة: تحرير المصطلحات الصهيونية في الصراع العربي – الإسرائيلي

د. عبدالله الاشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر