د.رائد المصري*
بهدوء بعد ثورة وكرامة.. إنه لبنان الذي لن يعود كما صنعته التسويات الدولية والإقليمية على عجل، ولن تعود قبضات المذاهب والطوائف لتتحكم به وبمكوناته من جديد، ولن يكون الدورين العربي والإقليمي إلا مسهلاً لبنائه الإقتصادي والإنتاجي أو محاكي لأزماته الداخلية، ولن يعود للأميركي وأتباعه وأدواته أي تأثير سوى التحكم بسياسات المصارف والبنوك والتلاعب بأسعار الدولار وصرفه.
تلك هي المفاجأة أو المعضلة التي وصلت إليها أحزاب السلطة الطائفية والمذهبية وتابعيها، التي تقتات على دم الناس وعرقهم وعلى الإستحضار والإصطفاف العمودي بين أبناء الوطن الواحد، من أجل اللعب على المتناقضات الداخلية وتوظيفها وتثميرها في أجندات خارجية وخيارات إقليمية لم تعد تجديهم بعد اليوم، ولن تطيل من عمر بقائهم الإستبدادي في هذا الحكم وتلك السلطة التي تسببت ساساتها بكل ما نحن فيه اليوم من مصائب.
لقد طالبت الثورة الشعبية في لبنان بإصلاحات إقتصادية ومنها وقف سرقة المال العام، الذي كبر بشكل مخيف، ومحاسبة الفاسدين والسارقين والسياسيين الذين إستفادوا من مواقعهم في السلطة، فجوبهوا ووجهوا بقوة عنفية و”ميليشيا” منظّمة من أحزاب الطوائف والملتحقين بها، الذين يعتاشون على مزاريب فوائض القوة في التوظيف وحشو الوزارات وإستنزاف الدولة وماليتها، بحيث تم الإحتفاظ بهم منذ زمن للقيام بهذه الغاية والمهمة.
تريد هذه الأحزاب المتسلطة بمذهبيتها وتصر على تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة مجدداً رغم معرفتها بأنه جزء أساسي من محور المناهضين للمقاومة وسوريا، أقله منذ العام 2005، ومن المتعاملين والمسهلين لقيام المشروع الأميركي، وهم يدركون أن الرئيس الحريري أيضاً لا يقطع خيطاً من دون الإرادة الخارجية، سواء السعودية أو الأميركية أو الأوروبية، في حين أحزاب السلطة ذاتها شعب الإنتفاضة بالتآمر وبالتعامل مع الأميركي لإستهداف المقاومة ومحاصرتها. فكيف لعاقل الإقتناع بهذه الحجج الواهية وبأفلامها المحروقة؟
إنهم يخافون من حكومة تكنوقراط بهدف إستخدامها للنيل من المقاومة وهم كانوا أغلبية، وما زالوا في البرلمان وفي حكومة الوحدة الوطنية، التي أسقطها الشعب الحر، ولم يستطيعوا حل العديد من الملفات مثل النفايات أو فتح معبر حدودي مع سوريا أو إعادة اللاجئين السوريين الى ديارهم، بينما يكيلون الإتهامات لشعب جائع فقد كل شيء، وإفترش الشوارع والأزقة إعتراضاً، فيرسلون إليه “ميليشيا” تقبض الرواتب من خزائن الدولة وماليتها للإعتداء عليهم ويحطوا من كرامتهم وإذلالهم على غرار ما فعلت على مدى عقود طويلة.
لقد باعوا النفط والغاز المكتشف حديثاً على سواحل لبنان قبل إستخراجه؛ فالأزمة التي تواجه هذه الطبقة المالية اليوم ليست التمثيل السياسي والإصلاح البنيوي في الدولة، بل المقايضة على هذه الثروات الكبيرة مع أي فريق خارجي، أميركي أو أوروبي أو روسي، للحفاظ على كراسيهم وحفظ رؤوسهم من التدحرج بعد إنكشاف سرقاتهم أو حماية السارقين وتغطيتهم لقاء صفقات سياسية وتسويات إنتهى زمنها ومدة تنفيذها.
بعد كل ذا، يتحدثون عن السعي لتدخل خارجي قوامه إستهداف البلد، وهم يرهنونه بإمضاءاتهم الورقية وبثرواته النفطية والغازية من جديد، كما رهنه أمراء الأحزاب والميليشيات بعد الخروج من الحرب الأهلية وإدخال لبنان في توافق شبيه بـ “إتفاق الطائف”، العام 1989، يكون عماده وضع اليد ورهن البلد وثرواته الجديدة بيد الخارج كما رهنته الحريرية السياسية للبنك الدولي ومؤسساته مقابل الإستدانة وتراكم الفوائد التي حملوها في النهاية المواطن الفقير المُعدم لقاء التطبيع مع إسرائيل.
إنها طبقة سياسية مغامرة ومراهنة تحتكم، بحكم بنيتها الطائفية والمذهبية، دوماً إلى الخارج للإستقواء على أقرانهم الداخليين، وهذا آخر أنموذج قد قض مضاجعهم في الحراك الجماهيري العابر للطوائف والمذاهب. فبدل أن يستفيدوا من قدراته وقوته لتسهيل عمليات إستئصال الفساد وإجراء الإصلاح وبناء الدولة المدنية، ها هم اليوم يحاولون ضرب إنتفاضة الشعب ومواجهة خطابه الوطني بخطاب مذهبي مقزز وموتور.
بالرغم من كل ذلك، إن الشعب لا يهزم وشواهد التاريخ كثيرة لأن الهزيمة ستكون من نصيب من سرق ونهب وحمى السارقين وغطى إرتكاباتهم. كونوا على يقين بأن الشعب يعرف حقيقتكم وأية قوة وطنية، إذا ما كانت تجسد تطلعات الشعوب ولا تحميها المذاهب والطوائف، ستكون البيئة الحاضنة بسبب حب الناس لها ولمنجزاتها.
لن نصدقكم بعد اليوم بتخييرنا ما بين الفقر أو الفساد أو الحرب الأهلية، فأنتم أب الفساد وأمه، وأهل الحرب والتقاتل في البلاد.
*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
مصدر الصورة: صحيفة الأيام – صحيفة العرب.
موضوع ذات صلة: تكليف وتأليف الحكومات اللبنانية: بين النصوص والأعراف