د. آصف ملحم*

لم تكد الأزمة الإيرانية – الأمريكية، التي عصفت بالمنطقة عقب إغتيال اللواء قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، تنتهي حتى وجدنا أنفسنا أمام أزمة جديدة، وهي حادثة تحطم الطائرة الأوكرانية في الأجواء الإيرانية. فبالرغم من أن هذه الطائرة سقطت بصاروخ روسي الصنع أطلقته الدفاعات الجوية الإيرانية، فإنه يوجد العديد من الأسئلة والشكوك حول هذه الحادثة.

من نافلة القول، عند التحقيق في حادثة ما، أنه لا بد من الإجابة على السؤال التالي: من هي الأطراف المستفيدة ومن هي الأطراف الخاسرة في هذه الحالة؟ فالإجابة على هذا السؤال قد لا يكشف الحقيقة كاملة ولكنه سيساعد على كشف نصفها على الأقل.

إن ما يثير الإنتباه في هذه الحادثة هو تشابهها الكبير مع حادثة سقوط الطائرة الماليزية بوينغ 777، في 17 يوليو/تموز العام 2014، فوق أوكرانيا في منطقة الدونباس – محافظة دانيتسك، التي كانت تشهد أعمالاً حربية بين القوات الحكومية الأوكرانية وقوات موالية لروسيا ساعية للإنفصال.

في حينها، تم الترويج، من قبل السلطات الأوكرانية، لرواية مفادها أن الطائرة تحطمت بسبب تعرضها لصاروخ روسي تمتلكه تلك القوات، حيث سارعت الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، إلى تبني هذه الرواية علماً بأن روسيا قد قامت بتقديم بيانات أقمارها الصناعية التي تؤكد أن الصاروخ انطلق من المنطقة التي تسيطر عليها القوات الحكومية. ولكن بالرغم من أن قمراً صناعياً أمريكياً كان متواجداً شرق أوكرانيا يوم تحطم الطائرة الماليزية، إلا أن الولايات المتحدة إمتنعت عن تقديم المعطيات والمعلومات التي التقطها ذلك القمر.

لا يخفى على أحد الدوافع السياسية خلف إتهام القوات الموالية لروسيا بإسقاط تلك الطائرة بالرغم من أن الحقيقة كانت واضحة وبينة، إلا أن التحقيقات ما زالت مستمرة حتى هذه اللحظة. في الحادثة الجديدة، يتكرر السيناريو نفسه تماماً، إذ تسابق ممثلو الحكومات الغربية، حتى قبل البدء بالتحقيق على تكرار عبارة “صاروخ روسي الصنع أسقط الطائرة الأوكرانية”.

وبسبب ضعف الحجة والحنكة السياسية عند الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لم يجد ما يقوله سوى عبارة “لدي إحساس بأنه تم إسقاط الطائرة بصاروخ”! فمتى أصبح “الإحساس” قرينة قانونية تستند إليها الحوادث؟! وإذا كان الأمر على هذه الشاكلة، فنحن شعوب منطقة غرب آسيا على يقين مطلق بأن للولايات المتحدة أو إسرائيل أصابع خفية في هذه الحادثة، وهذا ليس إحساساً أو حدساً بل يمكننا تقديم الكثير من الحجج المتماسكة لدعم هذا الإتهام.

يبدو أن الولايات المتحدة أجادت هذه المرة حبكة التمثيل والإخراج فأضافت عنصراً إسرائيلياً إلى القضية، وهذا العنصر ضروري عند التعامل مع إيران، إذ ليس خافياً على أحد العلاقات العدائية بين كل من طهران وتل أبيب، والحديث هنا يدور حول رجل الأعمال الأوكراني – الإسرائيلي، إيغور كالامويسكي، أحد مالكي شركة “الخطوط الجوية الأوكرانية” مع رجل الأعمال الإسرائيلي، آرون مايبيرغ.

يعد كالامويسكي أحد المقربين من الرئيس الأوكراني يهودي الأصل فلاديمير زيلينسكي، فهو من قام بتمويل حملته الانتخابية. إضافة إلى ذلك، تعتبر القناة التلفزيونية الأوكرانية 1+1، التي يملكها كالامويسكي، من أكثر القنوات شراء لأعمال زيلينسكي الكوميدية قبل وصوله إلى سدة الرئاسة. كما أن كالامويسكي تزعم ويتزعم العديد من المنظمات والمجالس والاتحادات اليهودية، الأوكرانية والأوروبية والدولية.

أما بالنسبة إلى الشركة، تعتبر “الخطوط الجوية الأوكرانية” من كبرى شركات الطيران في كييف، تولى رئاستها يفغيني ديخنه، في 18 سبتمبر/أيلول العام 2019، علماً أنه كان، منذ العام 2014، قائماً بأعمال المدير العام لمطار باريسبول الدولي، وهو أحد مطارات العاصمة، ومن ثم أصبح نائباً للمدير العام لهذا المطار نفسه، العام 2017.

في الواقع، كالامويسكي نفسه لم يدل بأي تصريح لوسائل الإعلام حتى الآن عن سبب تحطم الطائرة، بل تولى هذه المهمة رئيس الشركة، يفغيني ديخنه، الذي أكّد أن الطائرة المنكوبة كانت من أفضل الطائرات في أسطول الشركة المكون من حوالي 40 طائرة.

ديخنه نفسه وخلال مقابلة، بتاريخ 3 أكتوبر/تشرين الأول العام 2019، مع وكالة الأنباء UNIAN أكد أن خسارة الشركة في العام 2018 بلغت 100 مليوناً من الدولارات، وفي نهاية العام 2018 أصبحت الشركة عاجزة عن دفع رواتب موظفيها. إضافة إلى ذلك، فإنه توقع بأن تبلغ خسارة الشركة، في العام 2019، حوالي 50 مليون دولاراً على الأقل.

أما السيد يوري ميروشنيكوف، الذي ترأس هذه الشركة لأكثر من 15 عاماً، وفي مقابلة مع الوكالة الإخبارية LIGA، بتاريخ 2 فبراير/شباط العام 2019، أكد أن أحد الأسباب الرئيسية للخسارة الحادة في الشركة هو الإرتفاع الكبير في أسعار وقود الطائرات الذي يشكل 30% من مصاريف الشركة.

في الحقيقة، وفقاً لمعطيات الوكالة الأوكرانية لتطوير البنية التحتية SMIDA، إن الشركة آنفة الذكر تعاني الخسارة تلو الخسارة؛ ففي الفترة الممتدة ما بين العامين 2010 و2018، حققت أرباحاً طفيفة في العامين 2012 و2013 وربحاً جيداً وفي العام 2016 أيضاً، أما باقي الأعوام فقد كانت الشركة في حالة خسارة تامة.

في السنوات السابقة حاول كالامويسكي حل المشاكل المالية للشركة عبر مصادر حكومية؛ كإلغاء ضريبة القيمة المضافة للطائرات المستوردة أو إلغاء ضريبة المنتجات المصنعة على وقود الطائرات، إلا أن وزير البنى التحتية الأوكراني، فلاديسلاف كريكلي، اشترط أولاً تستديد الديون المتراكمة على الشركة.

بناءً على هذه المعطيات التي تقدمنا بها، يمكننا الاستنتاج بأن هذه الشركة كانت على عتبة الإفلاس تماماً، وليس هذا فحسب بل كانت جميع الآفاق مسدودة أمام الشركة للخروج من أزمتها المالية. ما فيما يتعلق بالأدلة التي قدمتها واشنطن، فيمكن تسجيل الملاحظات التالية:

1.عند طلب الرئيس الأوكراني من الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا تقديم المعطيات التي تؤكد أن هذه الطائرة أسقطت بصاروخ، سارعت واشنطن إلى تلبية الطلب؛ فهذه السرعة في تقديم المعلومات من قبل أجهزة المخابرات الأمريكية دليل قاطع على أنهم كانوا يتابعون الحادثة من بدايتها وأنه تم التحضير لكل شيء مسبقاً.

2.هذه المعطيات هي مجرد فيديو، تداولته العديد من القنوات التلفزيونية، قام بنشره على موقع “تويتر” مواطن إيراني مقيم في لندن. في هذا الفيديو، من غير الواضح أين ومتى تم تسجيله من جهة، وما هو الصاروخ الذي ضرب الطائرة من جهة ثانية. علاوة على ذلك، يبرز السؤال التالي: ما هي هذه المصادفة الناجحة بأن يقوم أحدهم بتصوير “سماء مظلمة” في لحظة ضرب الطائرة بصاروخ إيراني؟

3.يؤكد رسلان ليفييف، الذي يرأس فريق استخبارات الصراعات Conflicts Intelligence Team CIT وهي مجموعة مستقلة من المتطوعين الروس، أنه تم ضرب الطائرة بصاروخين؛ إذ أنه لدى التواصل مع الشخص الذي قام بتصوير هذا الفيديو، أكد أنه بدأ التصوير بعد سماعه لصوت “خبطة”، وهذا دليل على أنه تم تصوير الصاروخ الثاني الذي أصاب الطائرة. بناء على ذلك، فمن المؤكد أن الدفاعات الجوية الإيرانية أطلقت صاروخاً بهدف إسقاط الصاروخ الأول، إلا أن هذا الصاروخ أسقط الطائرة.

وبالعودة إلى السؤال الذي طرحناه في بداية هذه المقالة حول الأطراف الخاسرة والأطراف المستفيدة، فإننا نستطيع تلخيص الإجابة بالنقاط التالية:

1.حصلت الولايات المتحدة على مكاسب عديدة بغض النظر أصلاً عن مسببات هذا الحادث؛ فلقد انتزعت “الفرحة” الإيرانية بالنصر، وغطت على خسائرها في القاعدة العسكرية التي قصفتها إيران في العراق. إضافة إلى ذلك، سيتم إشغال إيران وابتزازها بالتحقيق بالموضوع عبر لجان مسيسة، والأمثلة كثيرة حول ذلك.

2.أما إسرائيل فإنها ستستغل هذه الحادثة للضغط على إيران في برنامجها الصاروخي، كما أنها ستحاول الإساءة إلى سمعة إيران واستغلال هذه الحادثة بهدف التأثير على القرارات الروسية المتعلقة بالتعاون العسكري معها.

3.أما أوكرانيا، فعلاوة على التعويضات المالية التي ستجنيها شركة “الخطوط الجوية الأوكرانية”، فإن هذه الحادثة لا تخلو من بعض عناصر “الروسوفوبيا” التي تحاول الإدارة الأوكرانية الترويج لها.

4.الخاسران الأكبران في هذه الحادثة هما إيران وروسيا، والأسباب أصبحت واضحة وجلية.

ختاماً، ما أشبه اليوم بالأمس؛ فعلى ما يبدو أن جعبة واشنطن وتل أبيب لن تنضب من المؤامرات، وسيبقى شرقنا مسرحاً لحروبهم ومؤامراتهم ما لم تتضامن شعوب هذه المنطقة مع بعضها البعض، لإخراجهم من أرضنا التي استباحوا خيراتها وأفسدوا فيها.

*خبير في مركز الأوضاع الاستراتيجية – موسكو.

مصدر الصور: صوت أمريكا – كييف بوست.

موضوع ذو صلةأوكرانيا: حرب عالمية ثالثة.. وكارثة نووية