د. رائد المصري*

بهدوء.. لقد إنتاب القوى الطائفية، وتكتُّلاتها العصْبوية في لبنان، القلق الشديد من حالة الوعي الثورية التي أطلقها المنتفضون ضد سياسات المصارف وإنتهاكاتها المستمرة لكرامة الشعب كل يوم، في محاولات لتطويع و”لَي” الأذرع المالية لقوى الإحتكار الرأسمالية التي تمد الإقطاع السياسي الفئوي بشرايين الإستمرارية والحياة.

فإستهداف هذه الأذرع التي تتبع شروط المؤسسات المالية الدولية، وسياساتها المنحازة لأصحاب رأس المال على حساب أغلبية الشعب اللبناني مضاف إليها توحيد النضال بإتجاه سياسة المصرف المركزي وجمعية المصارف وضد مواقع الفساد من الصناديق المالية المذهبة (فوق الرقابة) والمؤسسات العامة كالكهرباء والضريبة على القيمة المضافة و”أوجيرو” و”مجلس الجنوب” وغيرها من مزاريب الهدر والتنفيعات، واقع يعكس الوعي الطبقي والثوري لهذه الشرائح من الطاقات الشبابية وصوابية خيارها السياسي والمصداقية التي يتحلّى بها هؤلاء. لذلك، واجهتهم قوى وميليشيا الأحزاب الطائفية برد فعل عنفي إلغائي ذكّرنا بتوسع وإنتشار الفكر “الداعشي”، في العراق وسوريا ولبنان مؤخراً، وممارساته.

من الجهل التام ربط إنتفاضة الشعب اللبناني، في 17 تشرين، بأجندات خارجية ومؤثرات إقليمية مباشرة على حَراك الجماهير المستمر من دون أن يكون لبنان خارج إطار أية أحداث وتطورات خارجية؛ وعليه، فإن ما قام ويقوم به الشعب اللبناني، منذ بدء الإنتفاضة، لم يكن بفعل تدخل خارجي أو مؤامرة حاكتها دوائر الغرب، الأميركية والصهيونية، كما يدعي بعض التافهين والمزايدين، بل بفعل تبعية هذا النظام السياسي نفسه، وإقطاعه الطائفي بالأساس، لرأسمال المعولم وخضوعه لضغوط لإملاءات البنك الدولي، وقبوله ممارسة وتسهيل سياساته في ضرب سيادة الدولة أو منع ممارستها بالمطلق.

لكننا اليوم أمام مطالب إصلاحية ومكافحة للفساد وللسرقة في المال العام، وغداً ستكون أمام ظاهرة سياسية كبيرة عابرة لطوائف والمذاهب. فمن سيدخل جنتها السياسية، سيتذوق طعم الحرية الحقيقي خارج القيد الطائفي والمذهبي، وخارج إطار الزعيم القبلي والعشائري المستحكم برقاب الناس. إنه المنطق الطبيعي لتطور الحياة والأجيال.

نحن أمام نظام سياسي طائفي قمعي مستبد منهار فقد أية إمكانية لإستمراره، فخسر معركة بناء الدولة بعد أن بدد ثرواتها، في السرقة والفساد والإرتهان للخارج، ولم يكمل معركة التحرر الوطني. هي سلطة لم تنجح إلا في قهر الشعب، الذي لم تخطيء بوصلته مرة واحدة في قضية تحرير فلسطين، فلا يمكن لأحد اليوم أن يتنبأ لنا بمؤامرات أميركية وصهيونية لتمرير “صفقة القرن”، ويدعي التصدي للمشاريع الغربية الإستعمارية، وهو الذي أضعف قوة الدولة اللبنانية وأفقدها مناعتها الوطنية بسبب إحتكاره لأدوات الإنتاج، وتعزيزه لحكم المصارف وتقوية نفوذها، ورهن البلاد للقرارات السيادية للخارج، وفساده وتسلّطه على الثروات العامة والسرقات الموصوفة للمال العام.

والسؤال هنا: كيف لمدعي المقاومة من الفاسدين أن يكونوا شركاء في سلطة تأتمر، أكثرية مكوناتها، بالأوامر الأميركية؟ كيف شكل هؤلاء رافعة تحمي منظومة سياسية توالفت وتزاوجت في نظام طبقي طائفي فاسد إستئثاري في الداخل وخاضع للتبعية والإرتهان في الخارج.

حتى اليوم، تمنع الولايات المتحدة الإقتصاص من السياسيين الفاسدين في لبنان، وتطلب حمايتهم. لذلك، إن موقفها ملتبس من حكومة الرئيس حسان دياب، وأي عملية قطع أو تنصل مع الفاسدين لا يمثل سياستها ولا يخدم مصالحها الإستعمارية. لذا، هي بحاجة لإنشاء طبقة من الفاسدين خدمة لمصالحها، بدءاً من العراق وإنتهاءاً بفلسطين ومروراً بلبنان؛ فالإحتلال الخارجي يحتاج إلى طبقة من الفاسدين لخدمته. ولا زال هناك بعض التافهين يتشدقون بأن ثورة الشعب اللبناني تشكل مدخلاً ومنفذاً للخارج لضرب الوحدة وهز الإستقرار. هل هناك أتفه وأحقد وأكذب من هكذا توصيف؟ّ! إنها “العنجهية” المذهبية والطائفية حين تسقط وتتحطم.

إن نزول الشعب اللبناني، بكافة تلاوينه العابرة للطوائف والمذاهب وبمختلف المواقف والتوجهات والولاءات والتطلعات، لهو إدانة صارخة لكل الإصطفافات الطائفية والمذهبية السلطوية، وما يجري هو ثورة ضد وعلى نظام طائفي متخلف دمر الموارد والطاقات البشرية وحركة الإنتاج؛ ولا حل إلا بكسره في إنتخابات قائمة على النسبية خارج القيد الطائفي كمرحلة أولية، فخيار بناء الدولة الوطنية القادرة على المواجهة وكذلك المدخل لأي إصلاح حقيقي لا يمكن أن ينجز إلا به، ومع قيام إقتصاد حقيقي منتج ومتكامل مع البلدان العربية المجاورة، وطبعاً هذا لن يكون إلا من خلال إلغاء نظام المحاصصة والتبعية والزبائنية وتعميم الخطاب الوطني على كل أنحاء الجمهورية كما بدأ به وأثبته خطاب الإنتفاضة اللبنانية في 17 تشرين.

*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

مصدر الصور: أخبارنا نت.

موضوع ذا صلةالإنقضاض المذهبي على الثورة