الشيخ كامل العريضي*

“تنذكر وما تنعاد” – “منذكرها لأخذ العبرة”، تحت مقولات كهذه وغيرها نعود لنبش رفات الماضي البغيض. تلك الرفات التي لم تتحلل مع مرور الزمن، لأن عوامل تحليلها من العيش الواحد والمحبة الصادقة لم تنضج بعد، أو أننا كنا نستخدم مواد مقلدة ومغشوشة لردم تلك الهوة.

عند كل تاريخ أو مناسبة وبسبب إشتداد العراك السياسي بين الأفرقاء اللبنانيين، تطفو على وجه صفحات التواصل الإجتماعي، حرب كلامية تستخدم مصطلحات الحقبة الأليمة من تاريخ لبنان وتحدي استعراض الصور من ذاك الزمن، مرفقة بعبارات التهديد والوعيد، واللافت أن هذا النموذج يشمل الأحزاب والتيارات السياسية كافة تقريباً.

كنت قد كتبت منذ عدة سنوات أن أكثر ما يلفتني ويقلقني هو نشر الصحف والمواقع الإلكترونية الخاصة بعدد من الأحزاب، والكثير من الصفحات الخاصة للأشخاص، ذكريات وصور وتفاصيل الحرب الأهلية المشؤومة والمعارك التي كانت تحصل هنا وهناك. والمذهل أكثر من ذلك هو مدى تفاعل وتعاطف الناس معها والإعجاب بها والتعليقات عليها والطامة الكبرى هو تعلق الجيل الجديد بها وبمجرياتها وأحداثها المأساوية.

للأسف، هذه الظاهرة آخذة بالتمدد. مع أن ثقب الأوزون الكبير قد إلتأم بفضل “كورونا”، إلا أن جراحنا لم تلتئم جيداً بعد، بل ذهب بعضنا إلى أحداث العام 1860 والبعض الآخر هرول إلى ما قبل قبل العم 1860 حتى وصل به الأمر إلى أيام فخر الدين المعني الثاني الكبير، ونصب له محكمة وديواناً، وربما هناك من وصل إلى أبعد من ذلك. يا ليتهم ذهبوا إلى أعماق السنين لسحب درره ومناقبه الحميدة، فهي زاخرة وممتلئة بمناقب الكبار أصحاب المواقف الوطنية والشهامة والعروبة والعزة والكرامة.

ونجد أن هذه الظاهرة المؤلمة لن تتوقف، مع أننا من دعاة التفاؤل دائماً، إلا إذا استعملنا المواد الصحيحة والعوامل المسجلة في ماركة الثقة، وهذا يحتاج إلى جهد جبار من الجميع من دون استثناء. هنا، أرغب أن أفكر بصوت عالٍ لمناقشة تلك الآفة؛ وقد يوافقني البعض في معالجتي، وقد لا يرحب بها آخرون. ولكن الوقت قد حان لمعالجتها والإشارة إلى أسبابها بإخلاص، ومن أبرز هذه الأسباب:

أولاً: الشعور بـ “فائض القوة”

أثبتت التجارب أن أي فئة من اللبنانيين تشعر أنها تتمتع بفائض قوة مدعوم من الخارج تسعى إلى السيطرة على الآخر سواء بالآلة العسكرية أم بالوسائل الإقتصادية والإجتماعية. وبكل تأكيد، هي مجهزة بكل المبررات والحجج التي تسوّغ لها القيام بذلك، سواء أكانت مقنعة للآخر أم لا.

ثانياً: الأرض الخصبة

عند الحديث عن أي نكسة من تلك النكسات، ننهي حديثنا بأنها حرب الغرباء على أرضنا وذلك كي لا نحمل أنفسنا أوزارها. نعم، إنها حرب الآخرين على أرضنا، ولكن لو لم تكن تلك الأرض خصبة لمثل هذه المشاريع المميتة لما نبتت وأعطت أشواكها. فلو كنا جميعاً على قدر المسؤولية، لما سمحنا لهؤلاء الغرباء بتنفيذ أجندتهم الخبيثة فينا.

ثالثاً: الرغبة في السيطرة

هذه الرغبة الهادمة في السيطرة على البشر والحجر وعدم الإعتراف بالآخر، دفعت البعض إلى التحالف مع جهات خارجية لدعم موقعه الداخلي. وعند الغرور وغلبة “الأنا”، تزول كل المحرمات وتسقط كل الخطوط الحمراء للحفاظ على العيش المشترك.

رابعاً: الطائفية

أكثرية الأحزاب السياسية تذم الطائفية وتدعو إلى الخلاص منها واعتماد دولة القانون. إلا أن ذلك ليس إلا كلاماً وتسجيلاً للمواقف، لأن الأفعال على الأرض تبرهن خلافه كلياً، وما التقسيم الطائفي للرئاسات والمراكز المتقدمة في الدولة إلا دليلاً ثابتاً، وما يستتبع هذا الميثاق الوطني غير المكتوب والمخالف للدستور من المطالبة دائماً بحق هذه الطائفة أو تلك، وكذلك حماية الفاسدين، بعذر أنه عندما يتم محاسبة فلان من هذه الطائفة فعلينا أن نحاسب فلاناً من تلك الطائفة. فلا غرابة إذ إن محاسبة الفاسدين يعمل به على قاعدة ستة وستة مكرر.

خامساً: اعتماد أسلوب الخطابَين

لا نخفي سراً أن أسلوب الخطابين، هو الموضة الدارجة عند العديد من المسؤولين. هناك خطاب منمق ومسجع وكلام دولة على الشاشة، يقابله خطاب ثانٍ في الكواليس والغرف المغلقة يدعو إلى عدم الوثوق بالآخر والركون إليه، وإلى البقاء على أهبة الإستعداد واليقظة لأي تحرك مشبوه، داعماً رأيه بشواهد من التاريخ.

سادساً: حماية الأرض

من المفترض أن يكون المقصود بهذا المصطلح الراقي أرض أمتنا العربية أو وطننا الغالي؛ ولكن وللأسف، أصبح لكل منا أرضه الخاصة، نتيجة توزيع الديموغرافي للسكان. فتحت هذا العنوان، يعتقد كل فريق أن عليه أن يتجهز عسكرياً واقتصادياً لا لصد غزوات العدو الاسرائيلي، بل تخوفاً من أي طرف لبناني مسلح يحاول القيام بأي اعتداء.

سابعاً: “المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين”

من خلال هذا الشعار وغيره من الشعارات وحيث لا أحد يملك دليلاً قاطعاً على عدم حدوث أي توتر مسلح، لجأ اللبنانيون إلى مبدأ الأمن الذاتي لحماية أنفسهم بعضهم من بعض.

ثامناً: أسلوب التصعيد والتعبئة السياسية

يعمد عدد من الساسة إلى التصعيد الخطابي القوي والتعبئة الجماهيرية وشد العصب، في أثناء المفاصل الدقيقة، وهذا ما يدفع التابعين لهم إلى المغالاة والتعصب والتهجم على الفريق المغاير بقوة، وهذا التصعيد يكون إما نتيجة لتصعيد موازٍ أو عملية استباقية. وعندما تتطور الأمور تبدأ عملية التهدئة وضبط الشارع؛ وما حصل يكون قد حصل.

تاسعاً: رجال المحبة والسلام

قبل كل تلك الويلات كان ثمة قامات وأصوات مخلصة تدعو إلى نبذ الفتنة، والإحتكام إلى الضمير والعقل، وعندما تقع الواقعة يكون هؤلاء العقلاء أول الشهداء. وهذا ما جعل الكثير من الناس يتموضعون ضمن نطاق معين للدفاع عن نفسهم.

عاشراً: ضعف مؤسسات الدولة

عندما تضعف الدولة وسلطاتها، أو عندما يعتريها الفساد بسبب سوء إدارتها، فستكون النتيجة كارثية على الوطن، ويعمد كل مواطن إلى الاستقواء بطائفته أو حزبه على غيره، لا بدولته.

هذه بعض الأسباب التي أعتقد أنها أساسية في مشاكلنا وتكرار حوادثنا السيئة. ولكي أكون صادقاً مع نفسي وأمام الله، أعترف أن بعض تلك الأسباب موجودة عندي، وأعمل جاهداً على الخلاص منها ونزعها من نفسي في السر والعلن، كما الكثير من أبناء شعبنا الأبي.

وخلال كلامي مع عدد من الأخوة والأخوات بهذا الموضوع، سألني لي أحدهم: هل عندك ضمانة حقيقية أن لا تعتدي أية جهة علينا؟ هل أنت متأكد من أن الآخر يفكر مثلك أم أنه يعد العدة ويتجهز لأمور معينة؟ كان جوابي بألم: لا ضمانة لدي!

هذا الجواب حركني لكتابة تلك الأسطر، لأن الآخر يفكر بهذا الفكر أيضاً وهو لا يريد شراً لأحد إلا أنه يتجهز خوفاً من خطر داهم، وهو أيضاً ليس لديه ضمانة بأنه لن يكون هناك يوم مشؤوم عليه.

لذلك، نرى أنه لا بد من وقفة جميعاً وقفة وطنية مع أنفسنا لنتخطى تلك الحواجز ويطمئن بعضنا لبعض، ونوقن أنه مهما اشتد الخلاف، يجب الإبقاء عليه ضمن الأطر السياسية فقط. بالتالي، هناك مسؤوليات جسام على العديد من فعاليات المجتمع.

على الأحزاب كافة أن تشدد على محازبيها ومناصريها عدم فتح تلك الحقبات لأننا لن نصل إلى نتيجة إيجابية، فكل فئة لديها مبرراتها وترى ذاتها مظلومة وأن ما قامت به لأجل لبنان وشعبه. أيضاً، على الدولة أن تعمل على تعزيز القوانين التي تثير نعرات طائفية، وأن لا تلاحق فقط من يشتم مسؤولاً هنا أو نافذاً هناك. كما يقع على عاتق رجال الدين والمربين والفعاليات أيضاً زرع بذور المحبة في نفوس النشئ الجديد بشكل دائم.

ختاماً، كل ما نريده هو العيش الواحد الحقيقي بعيداً عن التسويات المؤقتة والمصالح المشتركة، مع الحفاظ على التنوع السياسي لخدمة وطننا ومبادئ النظام الديمقراطي وتعزيز دولة القانون والكفاءة.

*مدير ثانوية “الإشراق” فرع المتن – لبنان.

مصدر الصور: العربي الجديد – النهار.

موضوع ذا صلة: لبنان.. والإنفجار الوشيك