السفير د. عبدالله الأشعل*
تعتبر المفاوضات أداة معترف بها عند البشر، منذ بدء الخليقة، لترتيب الأوضاع وتسوية المنازعات ثم صارت أداة الدبلوماسية في إدارة العلاقات الدولية، ولذلك ازدهر علم المفاوضات والتدريب عليها وصقل مهارات التفاوض بل وأصبحت هناك مدارس مشهورة فيها.
نظراً لأهمية المفاوضات، فقد تضمنت مبادئ القانون الدولي مبدأ “حسن النية” أي حظر استخدام المفاوضات لإضاعة الوقت بينما النية مبيتة لنتيجة أخرى. وقد سجل العمل الدولي أن بعض الدول دخلت فى مفاوضات بينما كانت تخطط للحرب. كما عُرفت المفاوضات بأنها أهم وسائل التسوية السلمية للمنازعات، لكنها في الواقع وسيلة دائمة ليس فقط لتخفيف التوتر بل ومحاولة العودة إلى الاتفاق بعد نشوب القتال.
من هنا، يمكن القول بأن هناك نوعان من المفاوضات؛ النوع الأول، المفاوضات العسكرية والأمنية ويتولاها عسكريون وأمنيون. أما النوع الثاني، المفاوضات النوعية سواء كانت سياسة أو حدودية أو تجارية أو غيرها من موضوعات العلاقات الدولية حيث يدخل ضمنها المفاوضات الإقتصادية والإستثمارية والمعونات وصور التعاون وغيرها.
فيما يخص كلاً من إسرائيل وإثيوبيا، فقد استخدمتا المفاوضات لكسب الوقت وفرض الأمر الواقع من طرف واحد وبذلك تفرغ المفاوضات من معناها ومضمونها، حيث يوجد تشابه كبير بينهما في هذا المجال، بل يمكن القول بأن هناك تحالفاً بينهما ضد مصر في وقت لا يوجد فيه أي نوع من التحالف المصري – الفلسطيني؛ بالتالي، على الضحيتان التحالف في وجه الجلادين المتحالفين.
بالنظر إلى العلاقات الإسرائيلية – الإثيوبية نرى بأنها كانت دائماً تصب ضمن العداء الإسرائيلي – العربي، ولقد أدى هذا العداء الكبير لإثيوبيا إلى دعم العرب لثورة إريتريا كي تتحرر من الاستعمار الإثيوبي. أضف على ذلك إضطهاد أديس أبابا للمسلمين فيها رغم أن ملكها، في بداية ظهور الإسلام، استقبل هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة وذلك بعد أربعين عاماً من “عام الفيل”، الذي ولد فيه رسولنا الكريم واتلي حاول خلالها أبرهة الأشرم تحطيم الكعبة، فأباد الله جيشه كما أخبرتنا “سورة الفيل”. أيضاً، يبدو بأن دخول المسيحية إلى إثيوبيا كانت عاملاً إيجابياً حاسماً في تغيير الموقف من المسلمين.
بالعودة إلى المتشابهات، يمكن أن نقارن موقف إسرائيل من الفلسطينيين وإثيوبيا مع مصر، فنرصد أهمها:
أولاً، وضع خطة للحصول على كل شئ والتكتم على هذه الخطة، والظهور بمظهر المرونة والرغبة في التسوية للتعمية والتدليس. فعلت إسرائيل ذلك مع الفلسطينيين، لجهة أنها كانت تتفاوض من أجل “حل الدولتين” بينما تضمر إقامة دولة لها وحدها وطرد الفلسطينيين. أما أثيوبيا، فقد وضعت خطة بناء “سد النهضة” بمواصفات تحرم مصر من المياه، وتكتمت عليها مدعية أنها لن تضر بها، قبل أن تجاهر بخطتها والإصرار عليها والكذب بشأنها.
ثانياً، لا تعترف كل من إسرائيل وإثيوبيا بالقانون الدولي، فهما يركزان أساساً على الأمر الواقع الذي تحميه القوة كحالة إسرائيل، وهو ما تعتمده إثيوبيا من فرض للأمر الواقع على حساباتها عن قوة مصر ونظامها وأزماتها.
ثالثاً، إستخدمت إسرائيل المفاوضات لكسب الوقت بل وصلت إلى حد اعتبار المفاوضات هدفاً في حد ذاتها؛ فقبولها بالمفاوضات، صوِّر على أنه مرونة من جانبها ودليل على رغبتها فى التوصل إلى حل سلمي. وعند الإعلان عن “صفقة القرن”، فُهم أن الهدف من ورائها هو الموافقة على الصفقة ليس إلا.
أما بالنسبة إلى إثيوبيا، فقد إستخدمت المفاوضات من أجل كسب الوقت اللازم لإستكمال بناء السد وملئه وتشغيله وفرض الأمر الواقع على مصر، بل قبلت إثيوبيا واسطة كل من الولايات المتحدة والبنك الدولي، وحضرت مفاوضات واشنطن ثم رفضت التوقيع على الإتفاق. وطبعاً لا بد من القول هنا بأن واشنطن تعتبر “القاسم المشترك” بين إثيوبيا وإسرائيل في المجالين: الفلسطيني و”سد النهضة”.
رابعاً، إستغلت إسرائيل ضعف الفلسطينيين وعملت المزيد لإضعافهم من خلال الشقاق الفلسطيني، والتغلغل فى القرار العربي، بمساعدة واشنطن. أما اثيوبيا فقد استغلت هي الأخرى ضعف مصر تحت ستار حسن النية.
خامساً، تنفذ إسرائيل خطة تصفية القضية الفلسطينية على الأرض، فما كان من الجانب الفلسطيني إلا أن أوقف التفاوض بعد الإطلاق العلني للخطة، 28 يناير/كانون الثاني 2020. كذلك إثيوبيا، كانت تتحدث عن التفاوض وهي في الواقع ماضية بتنفيذ السد دون الإكتراث بأية قيود، رافضة جميع المقترحات الهادفة إلى تخفيف الضرر عن مصر.
سادساً، هناك مؤشرات على مساندة إسرائيل لإثيوبيا ضد مصر، والتعاون لإفنائها عن طريق نهر النيل؛ بالتالي، لا بد أن إثيوبيا هي الأخرى تقوم بدعم إسرائيل ضد الفلسطينيين على الرغم من التصريحات والبيانات وعدم الإعتراض على قرارات الإتحاد الافريقي الداعمة للمقاومة الفلسطينية ربما بسبب دعم جنوب إفريقيا لهذا الإتجاه.
ختاماً، لم يكن هدف إثيوبيا من استمرار المفاوضات ضمان تسليم مصر بما تريده لأنها ضمنته من خلال تراخي الموقف المصري الخالي من الإصرار والحماس. عند هذه اللحظة بالذات، أعلنت إثيوبيا بأن المفاوضات لم تعد مطلوبه في حين لم تقطع مصر المفاوضات احتجاجاً على استدراجها إلى كل طلبات أديس أبابا، التي قادت المفاوضات على طريقة “المفاوضات الصفرية”. لقد أدركت مصر ذلك من البداية لكن الغريب أنها قبلت الإستمرار فيها فين أوقف الفلسطينيون المفاوضات العبثية فقط بعد الإعلان عن “صفقة القرن”.
**سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصور: العربي الجديد – أرشيف سيتا.
موضوع ذا صلة: سد النهضة الإثيوبي وآثاره على مصر