د. عبدالله الأشعل*

في الخامس من يونيو/حزيران عام 1967، حدث تحول حاسم في مسيرة المنطقة حيث تسيدت إسرائيل وإنحسرت مصر، ومعها سقطت كل الشعارات والأكاذيب. لم يتمكن أي فنان أو أديب أو قاص من أن يصور المرارة التي شعرنا بها والتي أسقطت كل المقدسات السياسية والعجول المقدسة، حيث يرجع الفضل لإسرائيل.

لكن الغريب أن النظام في مصر لم يكن أميناً مع نفسه ووطنه، إذ كان يجب عليه أن يبدأ بداية جديدة فيؤسس لحكم مدني ديموقراطي. لكن الذي حدث هو استمرار التمسك بالسلطة وتوارثها تحت غطاء متجدد من التضليل والكذب. لم يجرؤ حاكم على أن يتوقف أو يوقف هذا المسلسل الذي انحدر بمصر إلى أدوار سحيقة. الغريب في الأمر أن كبار العلماء والمثقفين برروا للنظام سوء عمله وبرع الكاتب الراحل، محمد حسنين هيكل، في “تضليل” الناس، بل وأكد أن استمرار الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، في السلطة هو أكبر إنجاز.

كنت سأوافقه لو أن الرئيس عبد الناصر راجع بأمانة أسباب “نكبة” مصر، وأقام نظاماً مدنياً تحت إشرافه. الغريب أنه حتى صبيحة التاسع من يونيو/حزيران، الذي ظهر في مسائه الرئيس عبد الناصر ذلك الظهور الشهير، كان الإعلام المصري يصر على أن جيشنا المظفر دخل تل أبيب ويزف هذه البشرى ضمن نشراته الإخبارية المتعاقبة.

تمر ذكرى هذه النكبة كل عام بهدوء دون أن تقدم كشف حساب لما حدث، وحتى قصيدة الشاعر المصري الراحل، عبد الرحمن الأبنودي، التي صدح بها “العندليب الأسمر”، عبد الحليم حافظ، كانت مبكية لكنها لم تعالج الجرح الغائر. فهل يقدم أحد أبنائنا دراسة جامعة تتحلى بشهادات الأحياء والمعاصرين لهذه الأحداث. وهل تُجري الحكومة بحثاً وتحقيقاً صحيحاً وأميناً بما جرى العام 1967 وكيف اشترك “الدجالون” العلماء لتبرير النكبة وتضليل الناس فإستخدموا علمهم للكسب الرخيص وتكريس الإستبداد بدلاً من استخدام هذا العلم في نصح الحاكم ورفعة الآمة فأخرجوا لنا أجيالاً من الجهلة المنافقين؟

كلما سمعت أحدهم يقول إنه “أستاذ الأجيال”، أشعر بالإكتئاب لأنه أنتج لنا أجيالاً على شاكلته رغم أن بعضهم كانوا علماء في تخصصهم، وهذه نقطة تحتاج إلى دراسة مستفيضة حول دوافع مثل هذه الشخصيات لتفضيل مكاسبها الشخصية وخيانة أمانة الوطن والمشاركة في ذبحه. ولا شك أن إسرائيل، بنكبة العام 1967، قد فازت بـ “الضربة القاضية”؛ فالهزيمة لم تكن عسكرية، فقط بل كانت ضربة قاصمة لأهرام الورق والحمل الكاذب والذين لم يملوا من استمرار الكذب والتغطية على سابقيهم.

إن هذا الجيش والوطن أمانة في أعناقنا جميعاً؛ وما لم نحل عقدة العام 1967، فلن نفلح في العثور على البداية الصحيحة. والسؤال هنا: إذا كان الكاتب هيكل قد بنى شرعية الرئيس عبد الناصر ليس على اختيار الشعب، رغم أنه كان يستطيع أن يحصل على أكثر مما تظن في إنتخابات حرة، فلماذا تم تزوير الإنتخابات والإستمرار في الدجل والتغطية على المواجع؟

لقد كانت نكبة العام 1967 النتيجة المنطقية لـ “ثورة يوليو” وضباطها، العام 1952، وفشلهم في إدارة البلاد بشعارات وهمية. كما كانت النكبة الطريق الطبيعي لـ “كامب ديفيد”، وهو بداية تسيد المشروع الصهيوني وانحدار قيمة مصر ومكانتها في الإقليم. لذلك أقول، إن نكبة 67 كانت السبب الأساسي في كل أحوال العالم العربي الآن؛ فالحكام الذين رفعوا شعارات القومية العربية، ساهموا بنظمهم الجاهلة المستبدة بضياع المواطن والأوطان العربية.

نريد أن نعرف ماذا حدث في العام 1952، وإجراء تقييم مرحلة الرئيس عبد الناصر، ثم أبعاد الدمار الذي حدث في نكبة 67 رغم أن الرئيس عبد الناصر كان قد سبق وحذر من عدوان إسرائيلي، في الساعة الثامنة من يوم الإثنين 5 يونيو/حزيران العام 1967 ولمدة ستة ساعات فقط، وليس كما زعمت إسرائيل “حرب الأيام الستة”.

من وجهة نظرنا، لا قيمة للتحقيقات التي تمت في فساد جهاز المخابرات والقيادات العسكرية وإلى أي مدى كان الرئيس عبد الناصر يسيطر على القرار في البلاد، ولماذا شجع مظاهرات الطلبة العام 1968. لا بد من الإعتراف بأن جيلي قد شهد قرار الآلهة ووجد المعابد خالية كما صور المرحوم المؤرخ عبد العظيم رمضان في كتابه ومقالاته في “مجلة أكتوبر”.

إن عصر الرئيس الراحل، أنور السادات، كان “نكاية” لعصر الرئيسين، عبد الناصر وحسني مبارك، الذي تركز على الفساد مع استمرار الإنهيار وأن طول مدة حكمه، مع هذا الإنهيار، قد أغرته بأن يورث نجله، جمال. ولذلك، كانت ثورة “25 يناير” فرصة للبعض لوقف هذا التوريث وذلك ليس خوفاً على مصر من حكم ملكي جديد، فكلهم تخلصوا من ملك واحد ونصبوا أنفسهم ملوكاً.

إن محنة مصر هي أن السجل الذي بدأ مع العام 1952 لم يتم تنقيته؛ بالتالي، نريد معرفة ما حدث في الأعوام 1952 – 1956 – 1967 – 1973 – 1979- 2011 وما بعدها، فالروايات التي تقدم ليست تاريخاً. أيضاً، إن المذكرات السياسية في مصر مشكوك بصحتها، فهي تبرير متعمد من صاحب المذكرات، مثل مذكرات محمد نجيب وأنور السادات وضباط يوليو. لقد آن الأون أن نعرف ما حدث في العام 1967.

في كل ذكرى النكبة، يجب أن نضيف جديداً صحيحاً لأجيالنا الجديدة، والأغرب أن واحداً ممن يحسبون على نخبة علماء السياسة، ممن فضلوا مكاسبهم على ضميرهم الوطني والعلمي، عقد ندوة وإفتتحها بأن “نصر أكتوبر” يجب أن يغفل “نكبة يونيو”، فنسقطها من الذاكرة، لكنه لا يدري أن علاقة يونيو/حزيران 1967 بأكتوبر/تشرين الأول 1973 هي محل مراجعة للحقيقة والتاريخ، فلم يمحو “نصر أكتوبر” مهانة وكارثة و”نكبة يونيو”، لكن مُنحت الفرصة للمقاتل المصري أن يلقن إسرائيل درساً عندما يحسن القيادة والتخطيط، حسبما اعترف رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، أرييل شارون في مذكراته. أما المقاتل المصري البسيط، فموجود دائماً ببطولاته حتى وسط مهرجان كارثة 1967.

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصور: موقع صوت الدار.

موضوع ذا صلة: في الذكرى الحادية والأربعين لـ “صفقة السلام”