إذا إنطلقنا من أن الدولة هي أرقى تجمع سكاني بإعتبار أن المجتمعات في مسارها وتطورها تصل إلى مرحلة التنازل عن جزء من حريتها لأجل بناء دولة تقوم بدور الإدارة والأمن والتشريع والقضاء، وعليه يمكن إعتبار الدولة منتوج وظاهرة إجتماعية تدل على مدى تطور المجتمعات ورقيها، فهناك مجتمعات إستطاعت بناء دول وهناك مجتمعات غير قادرة على بناء دولة وتتجه نحو المجهول، وقد توصلت المجتمعات الحديثة إلى طريقة لتمثيل الشعب على أساس السلوك الانتخابي، فالمجتمع الجزائري سيقوم بإختيار من يمثله في هذه الانتخابات التشريعية وخاصة أن هذه المرحلة تشهد حسابات جديدة فرضتها ظروف داخلية تتمثل في تداعيات الإضطرابات الاجتماعية من إحتجاجات ومظاهرات.

وعليه، سنحاول في هده المقالة تسليط الضوء على مجموعة من التساؤلات أهمها:
• هل هده الانتخابات ستكون فرصة للتغيير الحقيقي أم هي “مسرحية” من مسرحياتنا كمجتمع تعودنا على العيش في فوضى ونفاق إجتماعي؟
• هل الدور المركزي في العملية السياسية يعتمد على المثقّف أم على أساس شهادات جامعية تمنحها مؤسسات لا علاقة لها بالبحث العلمي ولا بالثقافة؟
• هل الفرد والمجتمع الجزائري مستعد للتضحية من أجل تغيير حقيقي أم يقوم بتدوير للوضع القائم بمسرحية أبطالها أشباه أكاديميين ومثقفين يبحثون عن الترقية الإجتماعية ومجتمع مدني إنتهازي؟

أولا: مسرحية: قناع المثقف وجامعيون بلا ثقافة

على غير العادة، تشهد العملية الانتخابية هده المرة مشاركة عدد كبير من المترشحين حاملي الشهادات الجامعية؛ ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل هذا العدد الهائل ظاهرة صحية في مجتمع مثل المجتمع الجزائري؟ وهل الدول تركز على المثقّف أم على حاملي الشهادات؟ وما حال المنظومة الجامعية التي نراهن عليها في انتاج أكاديميين ونخب تقوم ببناء دولة المؤسسات؟

فالكل يعرف – حتى الشارع الجزائري – الواقع المزري للبحث العلمي في الجامعة الجزائرية من خلال غياب التقاليد العلمية وإنتشار أشباه باحثين وأساتذة بدون ضمير مهني وتفشي لظاهرة المحسوبية والسرقة العلمية التي أصبحت ضمن إبتكارات وإنجازات الجامعة الجزائرية. فالمنظومة بمؤسساتها الرسمية أو غير الرسمية بالإضافة إلى ثقافة المجتمع ونظرته للعلم والثقافة، داعمة لإنتاج أشباه مثقفين أو حتى بدون ثقافة بسيطة، والدليل على ذلك مستوى النقاشات والبحوث العلمية التي لا تزال عقيمة وغير منتجة، وما زلنا لا نفرق بين دور الأكاديمي والخبير والمثقف والمفكر، فعن أية نخبة نتحدث وعن أي مثقّف أو أكاديمي نبحث في ظل منظومة تربوية وجامعية ضعيفة وهشة.

وعليه، لا يمكن في الوقت الراهن المراهنة على الاصلاح والتغيير ونحن لا نمتلك النخبة التي تقود هدا المشروع والمثقف الذي يوازن بين الرأي والرأي الآخر، بل سننتقل في المرحلة القادمة من “الشعبوية” الغوغائية إلى شعبوية وديكتاتورية أشباه أكاديميين يضعون قناع المثقف بحثاً عن الترقية الإجتماعية في واقع لا يعترف بالعلم والثقافة.

فهذه المسرحية الجديدة أبطالها مجتمع يدعي التغيير، ومجموعة حاملي شهادات يحاولون عن طريق إرتداء قناع المثقّف والثقافة الدخول للحياة السياسية لإرضاء مجتمع يتوهم أنه في مرحلة التغيير؛ فعبر التاريخ وفي إطار بناء الدول والمجتمعات، كان الرهان على دور المثقّف كروح للأمة وليس على حاملي شهادات وخاصة أننا نجد أن الكثير من خريجي الجامعات الجزائرية وحتى في الدراسات العليا بلا ثقافة فضلا عن إمتلاكهم لمشروع انتخابي وفلسفة بناء دولة ومجتمع.

في هده المعادلة الصفرية والواقع المرير سنعيد إنتاج التخلّف، وسيبقى الهدف من دخول العملية السياسية وخاصة الانتخابات هو البحث عن الترقية الاجتماعية والإنتهازية بأية طريقة ولو بشراء الذمم أو استخدام المال الفاسد أو عقلية الولائم والنفاق الاجتماعي وخطاب الخنوع والتخلف إلا القليل الذين أصلاً لا ينتخبهم المجتمع ممن يمتلكون مشروع ويخافون على مستقبل هدا الوطن.

ثانياً: مجتمعات تتوهم ولا ترغب في التغيير الحقيقي

تنتج المجتمعات البشرية في إطار تطورها أفكار وثقافات حضارية تقوم على مفهوم الفرد المواطن له حقوق وواجبات اتجاه المجتمع والدولة، وتنتج مجتمعات هدفها العيش المشترك، وتقوم هذه المجتمعات في سيرورتها بعمليات إصلاح وتغيير للأفضل للحفاظ على استمراريتها.

إن المجتمع الجزائري اليوم – ولأسباب عديدة – وفي ظل ما يعشيه غير مستعد لعملية الاصلاح والتغيير لأن التغيير الحقيقي يفرض تغيير ثقافة الفرد وتنشئته الاجتماعية والسياسية من خلال إعادة النظر في مفهوم القبيلة والجهوية والعنصرية والخلط بين المصلحة العامة والخاصة وكثير من المفاهيم والخطابات التي يتبنها المجتمع والفرد الجزائري والتي لا ترتقي إلى مفهوم المواطنة بل لثقافة رعائية؛ وبالتالي، يساهم في تدوير الوضع القائم فقط.

ويجب أن ندرك أن أي تغيير وإصلاح يعتمد على مركزية دور النُخب والعلماء والمفكرين ورجال الدين، فعلى سبيل المثال لم يستطع ما يسمى الحراك إخراج نخبة تتكلم بإسمه وتحمل مشروع بديل، بل دخل في فوضى وغياب مشروع مجتمعي وذلك راجع إلى ضعف الثقافة السياسية من جهة، وإلى الاغتراب السياسي من جهة أخرى؛ بالإضافة إلى إنتهازية ما يسمى “المجتمع المدني” في الجزائر الذي فقد دوره في بناء الدولة وبإعتباره حلقة وصل بين السلطة السياسية والمجتمع.

فالفرد الجزائري، بصفة خاصة، والمجتمع الجزائري، بصفة عامة، مسؤولان اليوم عن الكثير من سلوكيات الفساد والتخلف؛ فعقلية التخوين والتشكيك التي يتبناها المجتمع لمن يدخل العمل السياسي، لا تبني دولة المؤسسات إذ سيصبح العمل السياسي والنضالي مجرّد “طقوس” موسمية ظرفية تعكس مدى النفاق الإجتماعي، ما يفتح المجال أمام إنتهازيين للوصول إلى السلطة.

وأخيراً، يجب أن نتعلم من هذه المرحلة ونستخلص الدروس؛ فإلى متى نمارس النفاق الاجتماعي في كل حملة إنتخابية؟ وإلى متى يبقى الكل يتهم الكل والكل ضد الكل؟ وعليه، يجب أن نتحرر من العقلية الإنتهازية ونتحمل المسؤولية كل على قدر سلطته فالمعلم مسؤول ويساهم إما في بناء الدولة أو إضعافها، وكذلك الأستاذ الجامعي والموظف الإداري والسياسي والمسؤول، ويجب أيضاً أن نبتعد عن الشعوذة والعشوائية والغوغائية في العمل المتعلق بالدولة لأنه – في الأخير – يبقى العلم والبحث العلمي أساس تطور المجتمعات والمثقف أساس بناء الدولة والأنظمة السياسية.

مصدر الصور: العين الإخبارية – العربي الجديد.

موضوع ذا صلة: هل ينهي قانون الإنتخابات الجديد ظاهرة شراء الأصوات؟

د. بلقاسمي مولود

باحث متخصص في الدراسات الدولية – الجزائر.