د. حكمت مصلح*

تثار في الآونة الأخيرة مسألة إعلان حالة الطوارئ العامة في البلاد من قبل بعض الفئات التي أزعجها إعلان التعبئة العامة. من هنا، رأينا أنه من واجبنا توضيح الفروق بين الحالتين، حيث تتبادر إلى الذهن أسئلة عديدة ومنها: ما هو الفرق بين التعبئة العامة وحالة الطوارئ؟ وما هو الأساس القانوني لإعلان التعبئة العامة ومدى إرتباط ذلك بإعلان حالة الطوارئ؟ وما هو الأساس القانوني لإعلان حالة الطوارئ والتدابير المتخذة عند إعلانها؟ وهل من خفايا سياسية وراء المطالبة بإعلان حالة الطوارئ؟

فروق جوهرية

تعتبر حالة الطوارئ نظاماً قانونياً تتولى السلطة العامة في الدولة وضع أسسه وتطبيقاته ومجالات العمل به، ويهدف إلى مواجهة حالة أو ظروف إستثنائية بحيث يُسمح بموجبه للحكومة اتخاذ تدابير لا يمكن تطبيقها في الإطار القانوني العادي. لكن المهم في هذه النقطة أنه لا يجب أن يفهم من ذلك تعليق العمل بالقانون لا بل التشدد في تطبيقه مع تغليب المصلحة العامة على الخاصة.

أما بخصوص حالة التعبئة العامة، فهي تعني تحويل القوات المسلحة الوطنية، إلى حالة حرب أو شبه حرب، وإعادة بناء اقتصاد الدولة ومؤسساتها وقدراتها ومواردها المالية والبشرية وقوانينها من أجل توفير حاجات حرب طويلة الأمد وتحقيق أهدافها، وذلك من خلال حشد القوى لهذه الحرب أو عند وقوع الكوارث أو النكبات.

مشروعية قرار الحكومة

إن السند الأول في إتخاذ الحكومة لهذا الإجراء نجده في مواد الدستور اللبناني نفسه التي تنص على إمكانية إعلان حالة التعبئة العامة، حيث جاء في المادة 65 منه “أما المواضيع الأساسية فإنها تحتاج إلى موافقة ثلثي أعضاء الحكومة المحدد في مرسوم تشكيلها ويعتبر من المواضيع الأساسية ما يأتي تعديل الدستور، إعلان حالة الطوارئ أو إلغاؤها، الحرب والسلم، التعبئة العامة.” إذاً، نص الدستور صراحة على صلاحية الحكومة اللبنانية بإعلان حالة التعبئة العامة. لكن البعض، خصوصاً في مواجهة فيروس “كورونا”، رفض فكرة الطوارئ الصحية وغاب عن ذهنه أن في منظومة القوانين اللبنانية ما يراعي حالتي المرض والتعبئة العامة، فكيف إن كانت الأخيرة هدفاً للحد من مرض أو وباء.

أما السند الثاني، فنراه ضمن نص قانون الأمراض المعدية، الصادر في العام 1957، على تعريف تلك الأمراض وكيفية مكافحتها، حيث نصت المادة الأولى منه على أنه “يراد بالأمراض الإنتقالية تلك الأمراض التي تنتقل سواء من المريض أو السليم الحامل للجرثومة، إنساناً كان أم حيواناً، إلى الأصحاء مباشرة أو بالواسطة ومتخذاً أحياناً شكل وبائي حسب تقدير وزارة الصحة”، كما حدد قانون نفسه كيفية مكافحة هذه الأمراض. بالتالي، لم تخرج الحكومة اللبنانية، عند إعلانها حال التعبئة العامة، عن ذلك حيث أن نص المادة 3 من ذلك القانون التي تشير إلى “تكافح الأمراض الإنتقالية بالوسائل الآتية: منفردة أو مجتمعة، الإعلان عن عزل المصابين، عزل المخالطين، العلاج الواقي للمخالطين، التبخر، الإحتياطات الصحية.”

من هنا، يعتبر قرار الحكومة، الصادر في 16 مارس/آذار 2020 حول التعبئة العامة صائب وتؤكده المادة 9 من نفس القانون التي تنص على أنه “إذا هدد وباء بلاد الجمهورية كلها أو بعضها أو أخذ ينتشر فيها وكانت وسائل الوقاية المحلية غير كافية، فإن رئيس الجمهورية يصدر مرسوماً يعين فيه بعد استطلاع وزارة الصحة والإسعاف العام التدابير التي تحول دون امتداد هذا الوباء.” فتدابير إقفال الإدارات والمؤسسات العامة والجامعات والمعاهد والمدارس والشركات وكافة المحال التجارية، ما عدى ما يتصل بالغذاء والدواء والمحروقات، شكل الخطوة الأولى التي تحول دون إنتشار الوباء وتطبيقاً لقانون الأمراض المعدية.

أما السند الثالث في إعلان التعبئة العامة، نجده واضحاً من خلال قانون الدفاع الوطني، وتحديداً المادة 2 منه التي تنص على أنه “إذا تعرض الوطن أو جزء من أراضيه للخطر يمكن حينها إعلان حالة التأهب الكلي أو الجزئي وإعلان حالة التعبئة العامة أو الجزئية:
1. تهدف حالة التأهب إلى الحد من تعرض السكان والمنشآت الحيوية للخطر ولتأمين حالة التعبئة العامة واستخدام القوى المسلحة.
2. تنفيذ جميع أو بعض الخطط المقررة.
3. تعلن التدابير المذكورة بمرسوم يتخذ من مجلس الوزراء بناء على إنهاء المجلس الأعلى للدفاع.
4. يمكن أن يتضمن أحكام خاصة تهدف إلى:
– فرض الرقابة على مصادر الطاقة وتنظيمها وتوزيعها.
– فرض الرقابة على المواد الأولية والإنتاج الصناعي والموارد التموينية وتنظيم استيرادها وخزنها وتصديرها وتوزيعها.
– تنظم ومراقبة النقل والإنتقال والمواصلات والإتصالات.
– مصادرة الأشخاص والأموال وفرض الغرامات على الأشخاص المعنويين والحقيقيين وفي هذه الحالة تراعى الأحكام الدستورية والقانونية المتعلقة بإعلان حالة الطوارئ.”

فقرار الحكومة في إعلان التعبئة العامة له سنده الشرعي في مواد الدستور والقوانين المراعية الإجراء اللبنانية، فالتعبئة العامة حالة قانونية منظمة بنصوص، وما يدل على رغبة الحكومة في إعلان التعبئة لا الطوارئ هو نص الفقرة الأخيرة، من المادة السابقة، التي أكدت على مدى الإرتباط بين إعلان كل من حالتي التعبئة العامة والطوارئ بقولها “وفي هذه الحالة (أي التعبئة العامة) تراعى الأحكام الدستورية والقانونية المتعلقة بإعلان حالة الطوارئ”، ما يعني إنجاح نيتها إلى الإبتعاد عن إعلان حال الطوارئ وإصرارها على تطبيق حالة التعبئة.

حالات الطوارئ وحيثياتها

عرف لبنان حالة الطوارئ قبل الإستقلال، أي في زمن الإنتداب، وبعده. وما نود ذكره هنا بأن إعلان حالة الطوارئ كان يقترن دائماً بإعلام الحكومة للمجلس النيابي بها الذي عليه أن ينظر فيها بمدة أقصاها 8 أيام. هنا، قد يسأل البعض: لماذا العودة إلى مجلس النواب عن إعلان حالة الطوارئ؟

قبل الإجابة على هذا السؤال، نود ذكر بعض التواريخ التي تم إعلان حالة الطوارئ فيها، وأبرزها:
– في 31 نوفمبر/تشرين أول من العام 1926، وفي نفس اليوم إجتمع المجلس النيابي وقرر الموافقة عليها.
– في 5 يونيو/حزيران من العام 1967، حيث لم يتلكأ مجلس النواب عن الإنعقاد وإجتمع في اليوم نفسه ليوافق على المرسوم والتدابير المتخذة.
– في العام 1969، لكن مجلس النواب لم يبلغ بها لأن مدتها كانت 7 أيام ولم تصل إلى اليوم الثامن، حيث بدأت في يوم 23 إبريل/نيسان وإنتهت في يوم 29 منه.
– في 16 سبتمبر/أيلول من العام 1972، ولقد أحاطت الحكومة عبر رئيسها، المجلس النيابي، بها.
– في 16 سبتمبر/أيلول من العام 1973، وأخذ علم به المجلس بالنيابي بنفس اليوم.
– في 7 مايو/أيار من العام 1973 إلا أن الحكومة لم تبلغ المجلس بها، ورغم ذلك بقيت سارية المفعول.

من خلال الحالة الأخيرة، يستند بعض الفقه إلى مشروعية إعلان حالة الطوارئ من قبل الحكومة من دون إخطار مجلس النواب بها لأنه مجرد “إجراء شكلي” لا يؤثر عليها. لكننا نرى خلاف ذلك والسبب هو أن إعلان هذه الحالة فيه تعدي على الحقوق والحريات العامة وتقيدها، ونقل السلطة من السلطة المدنية إلى السلطة العسكرية تحت إشراف الحكومة، وكون المجلس حامي الحريات والحقوق يجب إعلامه بإعلان حالة الطوارئ.

أما فيما يخص الأسس القانونية التي إرتكزت عليها حالات إعلان الطوارئ فهي:
1. قبل الإستقلال، تم الإستناد إلى القرارات الصادرة عن المفوض السامي، وهي:
– القرار رقم 4/5 الصادر في 5 يناير/كانون الثاني من العام 1925.
– القرار رقم 24 الصادر في 8 فبراير/شباط من العام 1936.
2.أما بعد الاستقلال صدرت عدة مراسيم نظمت هذه الحالة، هي:
– المرسوم الإشتراعي رقم 27 تاريخ 16 فبراير/شباط من العام 1953.
– المرسوم الإشتراعي رقم 52 الصادر في 5 يونيو/حزيران من العام 1967.
– الدستور اللبناني في مادته 65 السابقة الذكر.

وبالعودة إلى أسباب إعلان حالة الطوارئ، نجد بأن المادة الأولى من المرسوم رقم 52 لعام 1967 قد أوضحت أسباب إعلانها بما يلي “عند تعرض البلاد لخطر داهم ناتج عن حرب خارجية أو ثورة مسلحة أو أعمال أو اضطرابات تهدد النظام العام والأمن العام أو عند وقوع أحداث تأخذ طابع الكارثة”. فإذا توافرت أية حالة من الحالات السابقة، يجوز إعلان حالة الطوارئ في البلاد.

من هنا واستنادًا إلى النص بقوله “أو عند وقوع أحداث تأخذ طابع الكارثة”، نجد أن وباء “كورونا” من الأحداث التي تأخذ طابع كارثة. لذلك، يجوز للحكومة إعلان حالة الطوارئ وهو ما قامت به ولكن على طريقة “الطوارئ الصحية” خصوصاً إذا ما نظرنا للتدابير التي نصت عليها الفقرة الثالثة من المرسوم الإشتراعي رقم 52 لعام 1967 وهي:
1. تحري المنازل ليلاً ونهاراً.
2. فرض الإقامة الجبرية.
3. منع الإجتماعات المخلة بالأمن.
4. إعطاء الأوامر بإقفال قاعات السينما والمسارح ومختلف أماكن التجمع بصورة مؤقتة.
5. منع تجول الأشخاص والسيارات في الأماكن والأوقات التي تحدد بموجب قرار.
6. منع النشرات المخلة بالأمن واتخاذ التدابير اللازمة لفرض الرقابة على مختلف وسائل الإعلام.

ومع إتخاذ الحكومة لهذه التدابير، يبقى السؤال الأساس: لماذا لم تعلن الحكومة حالة الطوارئ العامة في البلاد؟ يأتي الجواب ضمن المادة رقم 3 من المرسوم الصادر عام 1952 والتي عددت القوى المولج بها تنفيذ حالة الطوارئ. ففي معرض نصها تقول “تتولى السلطة العسكرية العليا صلاحية الحفاظ على الأمن وتوضع تحت تصرفها جميع القوى المسلحة”.

هذا النص يستدعي منا سؤالاً آخر: هل القوى العسكرية كافية لتأمين الإنضباط التام والإلتزام بالقوانين؟ من هنا نقول، وفي ظل إنخفاض نسبة الوعي لدى العديد من الشرائح الإجتماعية لخطورة جائحة “كورونا”، إن عديد القوى الأمنية لن يكفي، لا بل أن هناك في خفايا السياسة من يترصد بالدولة والمجتمع ويتمنى العودة إلى حالة الحرب ومسك زمام الأمور كل في منطقته، ما سيرتب فرض تقسيم مبدأي للبلاد خصوصاً أن الدولة أخرجت نفسها من لعب دور القائد للمجتمع، وأقفلت مؤسساتها الرسمية كلياً، وتركت الشارع لمن يحلم بسد الفراغ فيه.

من هنا، نتوجه إلى رئيس مجلس الوزراء، الدكتور حسان دياب، بضرورة توخي الحذر من إعلان حالة الطوارئ العسكرية، علماً بأنه قد أعلنها ضمناً من خلال قرارات مدير عام قوى الأمن الداخلي وقرارات وزير الداخلية وأكدت نجاحها. لذلك، ليس المطلوب تحويل جائحة “كورونا” إلى جائحة لأحزاب السلطة فتسقط الدولة ويضيع الوطن، فهي لا تمثل سوى الزعماء والطوائف لا المجتمع المدني المغيب أساساً عن لعب أي دور ريادي وإنقاذي في حالة الكوارث.

*باحث قانوني – لبنان

مصدر الصور: جريدة اللواء – جريدة الجمهورية.

موضوع ذا صلة: بالتفكك الإجتماعي والعنصرية يواجه اللبناني الوباء