كاميل غيل*
رأي مناقض
في الواقع، إذا كنت أريد أن أنهي الدراسة الآن تاركاً للقارئ مجموعة من البيانات الصحفية فقط حول العلاقات مع الولايات المتحدة، فإنه من الممكن أن يتوصل إلى نتيجة مفادها أن العام 2015 كان نقطة تحول مهمة إذ أنه أوصل بولندا إلى عصر جديد من النشاط الدولي؛ وكما وعدَت خلال فترة المنافسة ما قبل الإنتخابات، وقفت بلادنا على قدميها من جديد. مثل هذه الفكرة التوجيهية، ستلائم بلا شك ما تقوله وسائل الإعلام الحكومية، هذا من ناحية. من ناحية أخرى، إنه ومع عدم إضافة تحليل أعمق، لا يمكن لنا وببساطة وصف هذا النص بـ “الموضوعي”.
عندما نلقي نظرة فاحصة على التفاصيل، يمكننا ملاحظة شيء مهم ويتمثل في أن أداء مؤسسات الدولة، التي يتم تقديمها في وسائل الإعلام العامة على أنها رائدة، هو في الحقيقة ذا بريق أكثر منه ذي فعالية.
في كل حالة من الحالات التي تمت مناقشتها يمكن ملاحظة بعض الأمور: إما أن تستفيد الولايات المتحدة ضعفي ما تستفيده بولندا؛ أو أن أهمية التطورات التي تتلقاها ليست كبيرة بالقدر الذي يعتقده الجمهور الداخلي؛ أو أن بولندا تكسب فوائد على المدى القصير بينما يتعقد موقفها على المدى الطويل بشكل كبير. وهو ما قد يكون واضحاً، وبشكل إستثنائي، في “مبادرة البحار الثلاثة”.
قد يثير تطبيق الفكرة تعاطفاً في الدوائر القومية البولندية بسبب نوع من التشابه مع فكرة البرزخ – Intermarium. في هذه الحالة، يمكن القول بأن المنطقة الجغرافية متشابهة تقريباً بين الفكرتين، وقد يكون التشابه الوحيد. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه وخلال السنوات الخمس الأولى من إعلانها، تم تنفيذ الجانب الإقتصادي من المبادرة فقط، هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، لم تنتج هذه المبادرة أية فوائد سياسية ملموسة، كموقع بولندا ضمن الإتحاد الأوروبي، ما يشير إلى محدودية وظائفها على المسرح الدولي. بالإضافة إلى ذلك، من الصعب مقاومة الإنطباع بأن وراء دعم الأمريكيين لـ “مبادرة البحار الثلاثة” تقف ثلاث قضايا أساسية للغاية تشكل تهديداً لبلدنا على المدى البعيد. أولاً، بدأت الولايات المتحدة، لا سيما في في البداية، بترويج المبادرة كبديل أو “إسفين” في خاصرة الإتحاد الأوروبي، على الخط الفاصل بين أوروبا القديمة والجديدة. هذا الأمر في حال نجاحه، يمكن استخدامه واقعاً لتفكيك القارة الأوروبية بشكل دائم وإزالتها من المنافسة على الساحة العالمية. ثانياً، تتماهى المبادرة بشكل مثالي مع الإستراتيجية الأمريكية لمواجهة التأثير الصيني في المنطقة (17 + 1). من هنا، إن مشاركة الولايات المتحدة فيها يمكن أن يمنع بولندا من اتباع سياسة خارجية ناجحة متعددة التوجهات، والتي هي في صلب مصلحتنا الحيوية خاصة على المستوى الإقتصادي. ثالثاً، ليس من الصعب التخيل أن الأمريكيين سوف يستخدمون المبادرة كأداة للتفاوض مع الإتحاد الروسي؛ من ناحية، هذا الأمر سيجعلنا “رهينة” فيما يتعلق بالعلاقات الروسية – الأمريكية. ومن ناحية أخرى ومرة أخرى، كـ “تضحية” يمكن أن يقدمها الأمريكيون للروس على مذبح السياسات الموجهة ضد الصين الصاعدة.
لكن بفضل التعاون في مجال التسلح، تمكنا بالفعل من الوصول إلى العتاد العسكري الفاعل على مستوى العالم، وبشروط لم تكن ممكنة مع أسلاف حزب “العدالة والقانون”، وهنا لنا كلمة في هذا الخصوص. إن إن عمليات الشراء المذكورة، خاصة في حالة طائرات F-35، تمت من دون إجراء مناقصة أو مراعاة لمبادئ الشفافية المعترف بها ما أدخلنا، وبشكل خطير، في دائرة الإعتماد على دولة واحدة فقط. على سبيل المثال، إن تغيير المسار السياسي للولايات المتحدة قد يشكل تهديداً خطيراً لنا، خصوصاً وأن العقود الموقعة لم تحقق فائدة تذكر في مجال تعزيز قدرة صناعة وهندسة الأسلحة المحلية، ولقد أثيرت هذه المسألة مع أنظمة صواريخ باتريوت حيث تم تحقيق تخفيض جزئي للسعر ليس أكثر. أخيراً وفي كلتا الحالتين، تم تقديم شراء الأسلحة المذكورة أعلاه على أنها خطوة أساسية في تحديث الجيش البولندي، إذ شكل الأمر عملية دعائية فعالة لا أكثر. هذه التعاملات، التي تمت بفضل العلاقات مع الولايات المتحدة، أغلقت المناقشات الآن على الإحتياجات الفعلية لإصلاح وتحديث القوات المسلحة البولندية.
هذه الشق يعتبر مشابهاً لعملية التعاون في مجال الطاقة. بفضل إمدادات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، لدى بولندا فرصة حقيقة كي تصبح مستقلة، جزئياً على الأقل أو تكسب مساحة للمفاوضات، عن الإتحاد الروسي، هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، إن مثل هذه العلاقة الإقتصادية القوية مع الولايات المتحدة ستغلق الطريق على وارسو من أجل الحصول على المواد الخام من أية مصادر أخرى. في الواقع، هذا يتناقض وبشكل صارخ مع سعي الحكومة المعلن لتنويع الإمدادات في هذا القطاع؛ على سبيل المثال، توقف استثمار الشركة البولندية لإستخراج النفط والغاز في إيران بسبب تهديد العقوبات الإقتصادية الأمريكية.
يمكن تلخيص هذا الجزء من الدراسة بشكل مثالي من خلال إختيار تعبير حقيقي للعلاقات البولندية – الأمريكية في 2015 – 2020. وبدلاً من شعار حكومة بولندا “الوقوف على القدمين مجدداً”، فإن تصرفات سفيرة الولايات المتحدة في بولندا، جورجيت موسباتشر، تشكل فضيحة بحد ذاتها حيث أنها لا تعامل المسؤولين البولنديين كشركاء سياسيين جديين ولكن كإداريين مؤقتين ضمن برنامج “باكس” الأمريكي العالمي.
رهنية العلاقات
حالياً، يتوافق وضع علاقات بولندا مع الولايات المتحدة بشكل أساسي مع نموذج العلاقات بين الإمبراطورية والدولة، بحيث أنه لا يتناسب حتى مع حدود المفهوم الأكاديمي لـ “القوة الإقليمية”. في هذه الحالة، بسبب الإختلاف الواضح للقوى ومستوى العمل، وفي حالة الخطر، سيصبح مفهوم راتزل، في القرن التاسع عشر، أكثر أهمية مع مرور الوقت؛ هذا يعني أن الولايات المتحدة ستستمر في التحول نحو آسيا، الأمر الذي بدأت به خلال رئاسة باراك أوباما. نتيجة لذلك، ستفقد أوروبا، خاصة الوسطى والشرقية منها، أهميتها الإستراتيجية للأمريكيين، وهو ما قد يثبت قريباً أن الضمانات الأمنية لبولندا لا تساوي الكثير خصوصاً عند مقارنتها بالحاجة إلى مواجهة التقدم العالمي للصين.
لقد وضع السياسيون في الإئتلاف الحاكم مسألة أمننا، على الرغم من أنهم ليسوا وحدهم من يقع عليهم اللوم، في أيدي دولة لا يمكننا الوثوق بسياساتها مستقبلاً. ليس ذلك فقط بسبب عدم التناسق الواضح للقوى الموصوفة أعلاه، ولكن أيضاً بسبب قضايا أكثر واقعية. إن إمكانية فتح علاقات جديدة وغير متوقعة مع الولايات المتحدة، يعود الفضل فيه إلى نهج الرئيس دونالد ترامب غير التقليدي فيما يخص النهج الليبرالي للعلاقات الدولية. ومع ذلك، يمكن عكس الديناميكيات المرتبطة بها بنفس السرعة والقدر حتى لو كان ذلك تحت مسمى الفوائد الخاصة في السياسة المحلية، إذا ما تم استبداله عند نهاية ولايته بمرشح ديمقراطي أو حتى جمهوري أكثر حذراً. لذلك، إن أمن بولندا في خطر كبير حيث يبدو أن مصير علاقاتنا مع الولايات المتحدة واضح، واستنتاجه الحتمي يطرح سؤالاً ليس عما إذا كان هذا سيحدث ولكن متى سيحدث.
ختاماً، لا شيء يظهر بشكل أكثر وضوحاً من إفتقار النخبة البولندية للقدرة على التفكير طويل المدى سوى حالة العلاقات مع الولايات المتحدة. فلقد قال المفكر النمساوي، إريك فون كونلت-ليدن، ذات مرة أن “الإختلاف الكبير بين السياسي ورجل الدولة؛ بالنسبة للسياسي، إن إعادة انتخابه أو النجاح الإنتخابي لحزبه أمر مهم. وبالنسبة لرجل الدولة، فهو الخير بلاده وأجيال المستقبل فقط.” لم أجد لدراستي تلخيصاً أكثر دقة من هذه المقولة.
*باحث في العلاقات الدولية – بولندا.
المراجع:
أنظر:
L. Sykulski, „Geopolityka”, Wydawnictwo Naukowe Grategia Sp. z o.o. , Częstochowa 2014.
أنظر:
Azyl i migracja w UE: fakty i liczby”, Parlament Europejski: https://bit.ly/2YLDbGo
أنظر:
– T. Żukowski, Lech Kaczyński miał wizję i poczucie misji”, Polskie Radio 24: https://bit.ly/2zrnzwV
أنظر:
Waszczykowski przyznaje, że Polska nie ma żadnych kontaktów z otoczeniem Trumpa?”, Kresy.pl: https://bit.ly/2Lgjr5S
أنظر:
Wizyty Zagraniczne”, Strona Prezydenta RP: https://bit.ly/3dqjMi8
أنظر:
Amerykańskie sankcje na Nord Stream 2. Krytyka w Niemczech”, DW: https://bit.ly/3dHn5C3
أنظر:
Nowy dokument MSZ ws. relacji z USA”, Onet.pl: https://bit.ly/2LbkpAj
أنظر:
PGNiG nie odpuszcza Iranu”, Wnp.pl Gazownictwo: https://bit.ly/2WzhF4M
أنظر:
Brzeziński: Trójmorze cieszy się szerokim poparciem w USA”, Defence24: https://bit.ly/2SN1xMg
أنظر:
J. Palowski, „Rozłam pomiędzy USA a Europą? Skutki dla Polski”, Defence24: https://bit.ly/3fz8om3
أنظر:
M. Szopa, „Co dokładnie kupi Polska w programie Harpia?”, Defence24: https://bit.ly/3ch2jc4
أنظر:
V. Insinna, „Inside America’s Dysfunctional Trillion-Dollar Fighter Jet Program”, New York Times: https://nyti.ms/2Wj8x5m
مصدر الصور: مكتب الأمن الوطني – DeviantArt – Neftgaz.
موضوع ذا صلة: “مؤتمر وارسو”: قاعدة لنشر النزاعات العالمية