كاميل غيل*
الشعور بالأمن هو أحد أهم حاجيات كل فرد. فتسلسل “ماسلو” الهرمي للإحتياجات يؤكد هذا الأمر على نطاق واسع، حيث أنه أصبح مقبولاً ضمن العلوم الاجتماعية لدرجة أنه بات من الممكن أن يشكل حقيقة واضحة بحد ذاته لدرجة أنه لم يعد يتطلب مزيداً من الإثبات. ومع ذلك وبغض النظر عما إذا كنا نقدِّر أهميته أو نعتبره شيئاً بديهياً آخر خالٍ من أي معنى أعمق، فإن هذا الأمر البسيط والعادي ينطوي على عواقب مهمة ليس فقط لحياة الناس وتفاعلاتهم بينهم، ولكن أيضاً لأنشطة الدولة سواء في مجال العلاقات الداخلية أو الخارجية.
كشخصية تنتمي إلى القانون الإلزامي لما يعرف بـ “الجغرافيا السياسية الكلاسيكية”، يعتبر فردريك راتزل، الباحث الألماني الذي عاش في أواخر القرن التاسع عشر، أول من قدم مفهوماً لنظرية “العضوية” في كتاباته. بكل بساطة، تفترض النظرية أن الدول تعمل على نفس المبادئ والأسس التي تعمل بها الكائنات الحية، كما تعمل أيضاً وفقاً لنماذج السلوك التي تحدث ضمن العلاقات الإجتماعية أو في البيئة الطبيعية.
من هنا، إذا أردنا تطوير نظريته في وقت الذي ما زلنا فيه نمضي بنفس طريقة التفكير هذه، يمكننا أن نستنتج أن الدولة، التي لا تمثل سوى مجموعة من الأفراد، لديها نفس التسلسل الهرمي للإحتياجات، بشكل أساسي، مثل الإنسان وتتبع الغرائز ذاتها. لذلك، في حالة وجود تهديد أو عدم يقين حول أمنها وإستمراره لفترة طويلة من الزمن، فإنها ستعزز مصلحتها الذاتية قبل كل شيء، وستستخدم جميع الوسائل الممكنة لتأمينها متجاهلة المبادىء الأخلاقية المتعارف عليها.
إن الشكوك حول ما إذا كان المفهوم الجيو – بوليتيكي، من أواخر القرن التاسع عشر، هو السياق مناسب لتحليل السياسة الخارجية للدولة الحديثة يجب أن يحل بالتأكيد من خلال تجربتنا في السنوات القليلة الماضية. على سبيل المثال، إن ضم شبه جزيرة القرم من قبل الإتحاد الروسي في العام 2014 (وهو ما تعتبره روسيا مبرراً تماماً بسبب الحاجة إلى الدفاع عن “الأراضي الأجنبية القريبة” مما اعتبرته تطوراً هجومياً مفرطاً لبُنية الناتو)، والحرب الناتجة في شرق أوكرانيا (وهو أول نزاع من هذا النوع في أوروبا منذ فترة طويلة بحيث بات له تأثير كبير على النظام الأمني للحدود الشرقية الكاملة للإتحاد الأوروبي)، وظهور “خلافة إسلامية” تم أعلنها من قبل ما يسمى بـ “الدولة الإسلامية” (وهو الذي يعد نتيجة لزعزعة استقرار المنطقة وكذلك من أعراض اهتزاز لنظام الأمن العالمي الذي تم إنشاؤه وتواجده بسبب الولايات المتحدة)، وأخيراً أزمة المهاجرين لعام 2015 وبداية عملية خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي بعد عام من ذلك.
كل تلك الأحداث، وبدرجات متفاوتة، تشكل معاً الحالة – السبب – النتيجة، كلها وفي آن معاً، لمسألة “تصدع الشعور بالأمن” ليس فقط فيما بين الدول، حول العالم، ولكن ضمن مواطنيها أيضاً، والذي يظهر مرة أخرى تأثير التفاعل بين المواطن والدولة.
في حالة أوروبا، يرى الخبراء أن هذه الحقيقة هي مصدر، من بين عدة مصادر أخرى، لصعود “الشعبوية”، والتي أدت في العديد من الأماكن إلى تعزيزها أو حتى الوصول إلى سدة الحكم، والتي يشار إليها بأنها تيار رئيسي “معادٍ لليبرالية”. في هذا السياق وضمن معظم الدراسات، يشكل النجاح الإنتخابي لحزب “القانون والعدالة” – PiS البولندي، في العام 2015، مثالاً واضحاً على ذلك.
على الرغم من أنه يمكن للمرء أن يجادل هنا ما إذا كان ينبغي وضع الظاهرة الإنتخابية الخاصة لحزب “القانون والعدالة” ضمن الديناميكيات الموصوفة فيما أشرنا إليه سابقاً، يمكن القول حقيقة بأن الحزب وجد لنفسه مناخاً إجتماعياً معاصراً حيث قام بتوجيهات ماهرة سواء من خلال توفير الشعور بالأمن الداخلي، عبر إتخاذ قرار حازم بشأن نظام إعادة توطين اللاجئين من الشرق الأوسط وأفريقيا، والخارجي، من خلال الإعلان عن تكثيف وجود بولندا في الناتو وتعزيز التحالف مع الولايات المتحدة.
اليوم وبعد مرور خمس سنوات من وصول الحزب إلى سدة الحكم، يمكن القول بأن موقفه من الهجرة لم يكن سوى “مناورة” ذكية ومحسوبة بالكامل. في هذه الحالة، تبقى هناك عدة أسئلة: ماذا عن الأمن الخارجي؟ هل تم تحقيق أي شيء مهم على هذا المستوى؟ إلى أي مدى يعتمد على علاقتنا بالولايات المتحدة؟ وأخيراً، ما هو وضع الأمن البولندي على الساحة الدولية في العام 2020؟
الولايات المتحدة: أولاً وقبل كل شيء
في إطار الدقة التاريخية، تجدر الإشارة إلى أن فرضية تعزيز علاقاتنا مع الولايات المتحدة وخلق بولندا “عابرة للأطلسي” لم يكن جديداً أو شيئاً إستثنائياً ضمن أجندة حزب “القانون والعدالة”. فمن خلال طرق ومناسبات عدة، تم الإعلان عن هذه السياسات من قبل الرئيس البولندي الراحل ليخ كاتشينسكي. لكن هذه المرة، كان من الممكن أن يكون كل شيء مختلف تماماً.
ففي مجال العلاقات مع الولايات المتحدة، بدأ حزب “القانون والعدالة” أعماله بإنزلاقة خطيرة وفي وقت مبكر، تقريباً في شهر نوفمبر/تشرين الثاني العام 2016. كما هو الحال في كثير من الأحيان مع واقعنا السياسي، لم يكن لنا القدرة على إكتشاف ذلك لو لم يكن الأمر مزيجاً بين المصادفة والفضول في وسائل الإعلام وعدم كفاءة صانعي القرار. فعند جوابه عن إحدى الأسئلة بما يخص مدى التواصل الحكومي مع محيط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قال ويتولد وازيكوفسكي، وزير الخارجية الأسبق في حكومة رئيسة الوزراء السابقة بياتا شيدلو (بالمناسبة، ربما كان أكبر خيبة أمل الفترة ما بين 2015 – 2020)، على شاشة TVN24: “من خلال ما أعرفه، هناك بعض الأقطاب المرتبطين بالإنتشار البولندي. جميع القنوات يجب أن تفتح على الفور.”
كان من الممكن أن يمر هذا التصريح القصير، المكون من جملة واحدة تقريباً، من دون أن يلاحظه أحد ما لم يكن مرادفاً بشكل أساسي لحقيقة أن إدارة الدولة لم تكن مستعدة بشكل صحيح لتفعيل الوضع السياسي في الولايات المتحدة، “حليفنا الإستراتيجي”، عشية الإنتخابات. والسؤال هنا: هل كان ذلك نتيجة الإعداد الموضوعي الضعيف لمهام محددة في ذلك الوقت؟ أم أن الأمر كان مرتبطاً بشكل كبير مع إستطلاعات الرأي ما قبل الإنتخابات والرواية السائدة، كما نذكر، التي دفعت النقاش حول الانتخابات الرئاسية الأمريكية بشكل عالمي؟ في الوقت الحالي، من المستحيل إعطاء إجابة واضحة لا لبس فيها.
يكفي القول إن مثل هذا الإهمال يمكن أن يشكل، في ظروف معينة، عقبة خطيرة وطويلة الأمد أمام حزب “القانون والعدالة” لتحقيق سياساته الرئيسية في مجال السياسة الخارجية. يمكن التكهن بأن العوامل التي ساهمت في إقامة علاقات وثيقة بين الحزب البولندي الحاكم وإدارة الرئيس ترامب كانت على شكل تشابه إيديولوجي، لكون الرئيس ترامب نفسه محافظاً. فلقد سددت بولندا، ما قيمته 2 % من ناتجها المحلي الإجمالي، إشتراكها المالي في الناتو. لكن الحقيقة الأكثر واقعية تكمن في أنه وبسبب تحفظات المجتمع الدولي والإستقبال البارد الذي لاقاه الرئيس الأمريكي الجديد في البداية، اضطرت إدارته للإعتماد على العلاقات وقنوات التواصل التقليدية المتراكمة عبر سنوات خلت حينما أرادوا العمل خارج حدود البلاد.
بإعتراف الجميع وبوضوح تام، تم تعزيز العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة بشكل كبير في ظل الحكومة الحالية خاصة إذا ما قارنا النشاط الأجنبي للرئيس أندجي دودا بنشاط سلفه. بين السنوات 2015 – 2020، قام الرئيس بزيارتين إلى الولايات المتحدة على غرار الرئيس السابق، برونيسلاف كوموروفسكي (بما نسبته 11: 6).
من الواضح أن بولندا تحاول، بنشاط، التواصل مع الإدارة الأمريكية في مناسبات مختلفة. خلال المحادثات، كان الضغط الأساسي دائماً نحو الدعم الأمريكي في مسعى تنويع مصادر الطاقة في البلاد، وتعزيز وجود القوات الأمريكية فيها. فلقد عقد إجتماعان رسميان مع الرئيس ترامب، أحدهما في سبتمبر/أيلول العام 2018 والآخر في يونيو/حزيران العام 2019.
أيضاً، هناك عدة أمور يجب ملاحظتها أولها صورة أندجي دودا، واقفاً أثناء التوقيع على عقد الطاقة والتي انتشرت بشكل واسع، والتي أصبحت سبباً للسخرية؛ أيضاً، يجب الإعتراف بأن الدفع وراء شعار “حصن ترامب”، في سياق إنشاء قاعدة للقوات الأمريكية في بولندا، كان أسلوباً تفاوضياً مثيراً للإهتمام وملائماً. بشكل عام وبإستثناء الخلاف البسيط مع إسرائيل (فيما يخص القانون المتعلق بمعهد التذكر الوطني حيث تم الكشف بعد ذلك عن مضمون مذكرة سرية من السفارة البولندية في واشنطن لجهة وقف الإجتماعات المشتركة إلى حين نزع فتيل ذاك الخلاف)، يمكن القول بأن العلاقات بين بولندا والولايات المتحدة تتطور بشكل ديناميكي للغاية، فهي تأخذ مكانة عالية المستوى في كثير من الأحيان أكثر بكثير مما كان عليه خلال حكم الحكومة الإئتلافية، التي ضمت كل من “المنصة المدنية” و”حزب الشعب البولندي”.
في هذا السياق، هناك عدد من المجالات تستحق إهتماماً خاصاً مشتركاً، وأبرزها:
– دبلوماسياً: قبل كل شيء، من الضروري هنا ذكر مبادرة “البحار الثلاثة”، تم الإعلان عنها رسمياً، والتي تعتبر مبادرة مستقلة لدول وسط وشرق أوروبا (لا سيما بولندا وكرواتيا)، حيث أنه من الصعب التخيل أنه يمكن توحيدها في الشكل الحالي دون دعم سياسي من الولايات المتحدة. يظهر هذا بوضوح من خلال عدة أمور أبرزها حلول الرئيس ترامب كضيف شرف، على قمة وارسو، فكان رئيس الدولة الوحيد من خارج الدول المشاركة، أو الإعلان الأخير لوزير الخارجية، مايك بومبيو خلال مؤتمر عقد مؤخراً في ميونيخ، عن خطة لتحويل مليار دولار إلى صندوق استثمار المبادرة لدعم مشاريع الطاقة والبنية التحتية. بالإضافة إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى الإجراءات النشطة التي اتخذتها واشنطن ضد مشروع “السيل الشمالي – 2″، الألماني – الروسي، لا سيما العقوبات الإقتصادية القوية التي فرضتها، في ديسمبر/كانون الأول العام 2019، على الشركات المنخرطة في بناء خط أنابيب الغاز هذا.
– طاقاوياً: بصرف النظر عن العقود الموقعة لتوريد الغاز الطبيعي المسال الأمريكي إلى بولندا (في نوفمبر/تشرين الثاني العام 2017 ويونيو/حزيران العام 2018)، يجب علينا هنا ذكر العقدين طويلي الأجل، أكتوبر/تشرين الأول العام 2018، المبرمين ما بين الشركة البولندية لإستخراج النفط والغاز – PGNiG وشركة فينتور غلوبال إل.إن.جي – LNG الأمريكية من أجل توريد ما يقرب على المليون طن من الغاز الطبيعي المسال سنوياً لمدة 20 عاماً. في هذا المجال، يقول رئيس الشركة البولندية، بيتر فوجنياك، أن هذه الخطوة كانت أولى عقود الشراء طويلة الأجل لمواد الخام الأمريكية في شرق ووسط أوروبا.
– عسكرياً: بفضل العلاقات القوية مع الولايات المتحدة، تمكنت بولندا من شراء المعدات العسكرية المخصصة فقط للأعضاء البارزين في الحلف فقط. هنا، أود أن أشير إلى منظومتي الـ MIM-104 Patriots (صواريخ أرض – جو)، وطائرات النفاثة من طراز F35A الحديثة، والتي قوبلت بإستقبال رسمي إستثنائي، حيث أكد وزير الدفاع الوطني، ماريوس بلاشزاك، أنها “ستعطينا تفوقاً في الجو”.
*باحث في العلاقات الدولية – بولندا.
المراجع:
أنظر:
L. Sykulski, „Geopolityka”, Wydawnictwo Naukowe Grategia Sp. z o.o. , Częstochowa 2014.
أنظر:
Azyl i migracja w UE: fakty i liczby”, Parlament Europejski: https://bit.ly/2YLDbGo
أنظر:
– T. Żukowski, Lech Kaczyński miał wizję i poczucie misji”, Polskie Radio 24: https://bit.ly/2zrnzwV
أنظر:
Waszczykowski przyznaje, że Polska nie ma żadnych kontaktów z otoczeniem Trumpa?”, Kresy.pl: https://bit.ly/2Lgjr5S
أنظر:
Wizyty Zagraniczne”, Strona Prezydenta RP: https://bit.ly/3dqjMi8
أنظر:
Amerykańskie sankcje na Nord Stream 2. Krytyka w Niemczech”, DW: https://bit.ly/3dHn5C3
أنظر:
Nowy dokument MSZ ws. relacji z USA”, Onet.pl: https://bit.ly/2LbkpAj
أنظر:
PGNiG nie odpuszcza Iranu”, Wnp.pl Gazownictwo: https://bit.ly/2WzhF4M
أنظر:
Brzeziński: Trójmorze cieszy się szerokim poparciem w USA”, Defence24: https://bit.ly/2SN1xMg
أنظر:
J. Palowski, „Rozłam pomiędzy USA a Europą? Skutki dla Polski”, Defence24: https://bit.ly/3fz8om3
أنظر:
M. Szopa, „Co dokładnie kupi Polska w programie Harpia?”, Defence24: https://bit.ly/3ch2jc4
أنظر:V. Insinna, „Inside America’s Dysfunctional Trillion-Dollar Fighter Jet Program”, New York Times: https://nyti.ms/2Wj8x5m
مصدر الصور: مكتب الأمن الوطني – فرانس 24.
موضوع ذا صلة: وارسو: “المسرحية العبثية”