د. نواف إبراهيم*
هذا المؤتمر، أو اللقاء، هو حلقة جديدة من حلقات التآمر الدولي على العالم، وخاصة على منطقة النزاع الأول منطقة الشرق الأوسط حيث تأكل الدول المجتمعة بعضها البعض وتتناحر داخلياً هم “يتناهشون” في بعضهم البعض حيث لم يتبقَ في العالم ما يمكن الإستيلاء عليه. على سبيل المثال لا الحصر، إن الخلافات العميقة بين الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي، وخاصة مع بريطانيا وفرنسا العنيدة” التي ذهبت بإتجاه التعاون مع ألمانيا (لتجديد فكرة بناء الجيش الأوروبي) إذ لن تسمح الأخيرة للولايات المتحدة بالعبث أكثر في مصيرها ومصير جيرانها وحلفائها.
على الطرف الآخر، نتابع الخلافات المتصاعدة بين دول الإتحاد ذاتها؛ وأوضحها، الإتهامات المتبادلة بين فرنسا وإيطاليا بشأن استغلال أفريقيا وإفقارها في الوقت الذي تعلن فيه الدولتان سعيهما لمساعدة دول القارة السمراء. فلقد استدعت فرنسا السفير الإيطالي لديها وسلمته مذكرة احتجاج على تصريحات نائب رئيس الوزراء الإيطالي، لويجي دي مايو، الذي اتهم فيها باريس بتأصيل الفقر في أفريقيا والتسبب في تدفق المهاجرين بأعداد كبيرة إلى أوروبا، وأنها لا ترغب في حل النزاع الليبي، بسبب مصالحها في قطاع الطاقة، بحسب ما صرح نائب رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو سالفيني، أن فرنسا لا ترغب في تهدئة الأوضاع في ليبيا التي يمزقها العنف بسبب مصالحها في قطاع الطاقة.
المكان نفسه والأحداث مختلفة
في الحقيقة، التاريخ هنا يعيد نفسه ولكن بتغيير المواقع والمواقف. في العام 1955، قاد الإتحاد السوفياتي السابق “حلف وارسو” لمواجهة هيمنة الولايات المتحدة وعنجهيتها، ولكن لم يتم تحقيق الغاية التي تأسس من أجلها هذا الحلف. فاليوم، نرى أن الأمريكي متواجد في نفس المكان ونفس البقعة الجغرافية، مع تباعد زمني، من أجل “إفتعال” أزمات عالمية جديدة، لكن الفارق أن الروسي بات خارج هذا الإطار حيث أصبح ممسكاً بزمام المبادرة، وصلابة في الموقف والموقع، ويتحكم عن بعد إيجاباً وسلباً بتحالفاته الإقليمية والدولية على جميع الأصعدة ما يعد عاملاً أساسياً ومهماً في إفراغ هذا المؤتمر من مضمونه.
أما بالنسبة إلى القيادة السورية، وحلفائها في محور المقاومة، تعي تماماً ما تقوم به هذه القوى، التي عجزت عن حشرهم في الزاوية ووضعهم أمام الأمر الواقع وابتزازهم، وهذا ما جعل تلك القوى تذهب إلى “وارسو” حيث وجدوا لأنفسهم خلوة بعيدة عن الضجيج السياسي والميداني الذي صنعوه، ولم يجلب لهم سوى الخسارة تلو الأخرى. وما يؤكد ذلك، ما قاله الرئيس السوري، بشار الأسد، لعدد من الجنود والضباط في الجيش: “كل متر يقطعه جندي أو دبابة منكم… هو تغيير في سياسة العالم.”
إن الرئيس الأسد كان يعي تماماً ما قاله، فلقد اختصرت هذه المقولة الكثير من النتائج التي حصدتها الجغرافية السورية، فلقد أصبحت قضيتها قضية العالم التي قسمته إلى أحلاف تواجه بعضها الآخر. ونتيجة هذا الصمود، تصاعد الحديث في الغرب عن تشكيل “ناتو عربي” ليكون قائداً للمرحلة الجديدة من “الحرب بالوكالة” ومسانداً، إن لم يكن بديلاً عن، حلف الناتو الذي بات عبئاً على دوله بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
تأكيداً على ما ورد أعلاه، أكد ممثل سوريا الدائم لدى الأمم المتحدة، د. بشار الجعفري الذي وجه رسالة خلال جلسة لمجلس الأمن بعد الإعتداءات الإسرائيلية، مفادها: “نقول لمن يحاولون إعادة رسم خرائط المنطقة وفقاً لأهوائهم… سوريا التي تصدت للحرب الإرهابية الدولية غير المسبوقة ستتصدى لتلك المخططات البائسة وتسقطها كما أسقطت غيرها.” فعلى مدى عقود، هذه الرسالة كانت واضحة جداً ولا تأويل لها بأن قواعد الإشتباك مع وكلاء الولايات المتحدة في المنطقة تغيرت ويعني أن الرد والهجوم من قبل الطرف المعتدى عليه، دمشق وحلفاءها، يفكر جدياً بالرد على ما يجري العمل عليه والتحضير له لسوريا والمنطقة، وهذا تطور هام ويمكن أن نعتبره خطيراً لجهة اشتعال فتيل حرب لا يمكن لأحد تحديد مساحتها الجغرافية ولا مدتها الزمنية.
من خلال ما سبق، يبدو أن أبرز مهام هذا “الناتو” مواجهة “حلف المقاومة”، الذي يواجه المخططات والمشاريع الإمبريالية والصهيونية العالمية والذي تترنح تحت بساطه معظم دول المنطقة والعالم بفعل السياسات الأمريكية وانتفاضة الرأس مال العابر للقارات، الذي يحكم هذه الدول وسياساتها، والذي بدأ يتهاوى وتتهاوى مصالحه. فهو يريد أن ينقذ نفسه ولو على حساب شركائه ومشغليه من دول الغرب وغيرهم، فالأزمة الإقتصادية العالمية في أوجها ولن يسلم منها إلا بعض الدول وعلى رأسها العملاق الإقتصادي الصيني، الذي يعتبر الأقل تأثراً بهذه المتغيرات، الذي يقف في صف الحلف المناهض والمواجه للهيمنة الأمريكية. هذا الحلف الذي رسم صمود سوريا وحلفائها خطوطه العريضة المتجانسة والمتماسكة لجهة تحقيق الهدف في إنقاذ هذا العالم من هذه التنظيمات الإرهابية المنظمة دولياً، أو على الأقل الحد من إجرامها.
العلاقة بين القطبين
لا بد لنا هنا من تقديم قراءة مرحلية للعلاقة بين القطبين الدوليين الكبيرين روسيا والولايات المتحدة، مع عدم القدرة على التكهن بشكل دقيق إلى ما قد تؤول إليه هذه العلاقة في الفترة القادمة وخاصة بعد لقاء وارسو سواء فشل أم نجح. وحي التضارب في العلاقات بين البلدين، نرى أن التشابكات الدولية والإقليمية الناتجة عن الخلافات القائمة حول تقسيم المصالح الجيو – سياسية والإقتصادية على المستوى العالمي، وضعت أكبر قوتين عسكريتين، ونوويتين، على سكة التناحر لجهة المصالح الجيو – سياسية والإقتصادية وطرق المواصلات والممرات والمعابر البحرية. ولقد كان للقضية السورية دور أساسي في هذا الخلاف الذي جدده الأمريكي مع روسيا، كون واشنطن لا تستطيع العيش من دون عدو. من هنا، إن أي اعتداء على موسكو سيكون اعتداءً على الحلفاء جميعاً، وسيضعهم في خندق المواجهة صفاً واحداً، لا سيما ما يتعلق بـ “الإستثمار في الإرهاب”.
فالنهوض الروسي السريع، زاد من توجس وتخوف الجانب الأمريكي، إلا أنه غير مبرر لأن موسكو، بعكس واشنطن، تدعو إلى بناء عالم يقوم على أساس الإحترام المتبادل، وعلاقات الند للند، واحترام سيادة ووحدة الدول ومصالحها. لذلك، استعملت واشنطن “أسلحتها” الإقتصادية، الشركات العابرة للقارات التي تتحكم بمقدرات العالم، للمواجهة وهو ما يذكرنا بمبادرة الدفاع الإستراتيجي للعام 1983التي أطلقها الرئيس الأمريكي الراحل، رونالد ريغان، والتي عرفت فيما بعد بـ “حرب النجوم”. وما يحدث اليوم، مع سياسة الرئيس دونالد ترامب منذ 2017، يتطابق معها، نوعاً ما، لجهة تحديث القوة العسكرية والردع الصاروخي ومراجعة العقيدة النووية، وكل ما يتعلق بها من أجل مواجهة روسيا.
حالياً، تعتبر العلاقات الثنائية هي الأسوأ في تاريخها، خصوصاً لجهة التهديدات الأمريكية والتوتر في العلاقات الروسية – التركية التي تؤخر الإستقرار في المنطقة، وتحديداً لجهة ما يحصل في إدلب السورية. بالتالي، إن نجاح العلاقة التركية – الأمريكية يمكن أن ينعكس سلباً على علاقات أنقرة مع موسكو، والعكس صحيح. في مسألة سوريا بالذات، لن يقف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مكتوف الأيدي أمام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لأنه سيحمله مسؤولية نتائج “تمرده” على الإتفاقات المشتركة.
اليوم، هناك محاولات أمريكية لجهة إيصال التوتر بين الطرفين إلى حدود القارة اللاتينية، لا سيما بعد وصول رئيس برازيلي جديد مؤيد لسياسات واشنطن، والإنقلابات المتكررة في فنزويلا، حليفة روسيا، ناهيك عن المحاولات الأمريكية لحصارها وضربها من الخاصرة الأوكرانية، ونشر الدرع الصاروخية في دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق والبلقان، مروراً بإستفزازها في منطقة جنوب شرق آسيا، والتضييق عليها في مناطق المعابر البحرية، وصولاً إلى توسع الخلاف ليشمل القارة الأفريقية، فيدخل العنصر الصيني على هذا المحور الجديد، منهياً عند سباق القواعد العسكرية الذي من المتوقع أن يكون محور المواجهة الجديدة.
إن النقطة الأساسية والتي يجب الإنطلاق منها هي أن الولايات المتحدة لم تفهم، حتى اللحظة، الإستراتيجية الروسية التي تعتمدها موسكو في تنفيذ سياساتها والأسس التي تقوم عليها، حيث قد تكمن ضمن الإجابة على السؤالين التاليين: هل تحاول روسيا جعل نفسها قطباً في النظام الدولي الجديد؟ ام انها تسعى لتغيير النظام الدولي الحالي وهو ما يؤرق الولايات المتحدة؟
“مأزق” وارسو
بالعودة إلى “مؤتمر وارسو”، يمكن القول عنه بأنه نقلة دولية حساسة وخطيرة لا سيما وأن الولايات المتحدة نفسها لا تضمن نجاحه، كونها قادرة على اختلاق الأعذار في حال فشل، كإشعال الخلافات أو “الإستعانة” بالإرهاب. هذا من جهة.
من جهة أخرى، لا تريد بولندا وضع نفسها في المواجهة. فبعد أن دعت إيران الحكومة البولندية إلى تحمل تبعات استضافة المؤتمر، أكدت وارسو حقها في تنظيم المؤتمرات بهدف تعزيز الإستقرار في الشرق الأوسط، بالتأكيد تحت ضغط من واشنطن. هذا ما أشار إليه المتحدث بإسم الخارجية الإيرانية، بهرام قاسمي، حيث قال “يبدو أن بولندا تحت تأثير الضغوط والوعود الأمريكية قد وضعت في مسار السلوك الأمريكي في البيت الأبيض المعادي لإيران.”
وعلى ما يبدو، قررت بولندا التهرب من تحمل المسؤولية أو قد يكون هناك أمر آخر يكمن في حيلة أمريكية من أجل رفض إيران المشاركة، توافقاً مع الموقف الروسي ولنفس الأسباب التي اعترضت عليها موسكو، كذريعة هدفها التبيان للرأي العام، الداخلي والعالمي، بأنهما يقفان وراء عرقلة الحلول، وإحباط الجهود الأمريكية لتحقيق الديمقراطية في العالم، وهو ما لا ينطلي على كل من طهران وموسكو.
تبعات كارثية
في حال كُتب لهذا المؤتمر النجاح، سيكون نقطة تحول كارثية نحو حرق العالم وتدميره، وخاصة منطقة الشرق الأوسط؛ أما فشله، فسيعد انتكاسة حقيقة للدول الداعمة، خصوصاً وأنها لم تعد تمتلك ما يراهن عليه. فبعد تعافي تونس وصمود دمشق، يبدو أن الدور قادم على إيران، التي أثبتت أنها قوة إقليمية مستقلة قادرة على المواجهة والمجابهة وتكبيد الخسائر الفادحة لمن يتجرأ بالإعتداء عليها وعلى حلفائها، فتهديدات قائد القوات الجوية الإيرانية للكيان الإسرائيلي تظهر مدى قدرة طهران على “إزالة إسرائيل”، وما اُعلن لم يكن رداً سياسياً بل هو موقف حاد وحازم يعلم صناع القرار تبعاته تماماً.
لذلك، نرى أن أحد المواضيع الرئيسية لـ “مؤتمر وارسو” هو إيجاد طريقة للحد من توسع القوة الإيرانية في المنطقة، التي وصلت إلى الفضاء؛ فما يخيف الولايات المتحدة والغرب، قيام قوة إقليمية، وحتى دولية في المستقبل، خارجة عن السيطرة الأمر الذي يهدد مصالحهم بالفعل وأذرعهم الطولى في المنطقة، سواء كانت إسرائيل أو بعض الدول العربية.
أما بالنسبة إلى روسيا، فقد أعلنت عدم مشاركتها في المؤتمر، إذ صدر الرد الحازم من وزارة الخارجية عبر بيان أعربت عن عدم مشاركتها، مشيرةً بأن أسباب انعقاد المؤتمر لا تأخذ بعين الإعتبار برأي دول الشرق الأوسط أنفسهم، علاوة على تجاهله للصراع العربي – الإسرائيلي، التخوف من المصالح الجيو – سياسية الأمريكية الأحادية.
بالمحصلة، إن التطورات التي نشهدها اليوم على الساحتين الإقليمية والعالمية لا تنذر بأي هدوء منتظر على المدى القريب، وإذا ما ربطنا الإعتداءات الجارية، على سوريا وحلفاءها من قبل الإسرائيلي، والضغوط التي تمارس على روسيا وصولاً إلى إيران، والتي فشلت في تطويعهما، زد على ذلك محاولات التشويش على علاقات الأحلاف المناوئة للحلف الغربي وصولاً إلى “مؤتمر وارسو”، والكثير من التفاصيل الأخرى التي يمكن لحظها وبناء المواقف عليها لجهة تحرك الرأسمال العالمي بما تتقاطع مصالحه مع قيادات الدول المتحالفة لنهب ثروات ومقدرات العالم والسيطرة عليه.
من هنا، نرى أن العالم بات في مهب الريح، في ظل التحولات العالمية الراهنة والتي تعتبر منطقة الشرق الأوسط نقطة انطلاقها وارتكازها. بناء على ما سبق، تبرز عدة تساؤلات إلى الواجهة: إلى أين يسير هذا العالم؟ من هو المذنب الحقيقي في هذا التخبط العالمي؟ الأجوبة على هذه التساؤلات كثيرة لكن ما يهمنا هو النتيجة، وما التعويل الأساسي إلا على صحوة دولية عاقلة لإنقاذ هذا العالم من الدمار الشامل قبل فوات الأوان… أماني مقرونة بالعمل لعلها تتحقق بفضل الحكماء والعقلاء.
*كاتب سياسي وإعلامي سوري
مصدر الصور: روسيا اليوم – البيان – عربي اليوم.