د. عبدالله الأشعل*

ذهلت وأنا أستمع إلى أحد المتحدثين على فضائية عربية والمذيع مشدود إليه بإنبهار، وهو ما يشكل خطراً شديداً على العامة ذلك أن المرحلة الحالية تشهد انحرافاً فكرياً وعقيدياً وسياسياً في البوصلة العربية بالنسبة للبعض. فقد انطلق هذا البعض يروج لقبول إسرائيل واعتبرها “صديقاً”، بينما الفلسطينيون هم أعداء وناكرون جاحدون للمعروف الذي قدم لهم وهم أنفسهم يتصارعون على الحكم ولا يكترثون بالمأساة التى تحيط بهم.

كما لفت نظري أيضاً أن المتحدث ألقى بالمسؤولية الكاملة على الجانبين الفلسطيني والعربي واصفاً مفتي فلسطين، الشيخ أمين الحسيني، بالتطرف وبالإضرار بالقضية عندما إنحاز إلى الفوهرر أدولف هتلر فإستعدى المعسكر الآخر ضد الفلسطينيين، وراح يرصد محطات التطرف والتشدد الفلسطيني بدءاً برفض العرب لقرار التقسيم مقابل استعداد اليهود من البداية للقبول بأية أرض دون أن يلتفت إلى الفرق بين اللص الذي ينطلق من العدم وبين صاحب الحق غير المستعد وغير المصدق لأن يفقد أرضه لصالح مهاجرين عطف عليهم وأوسع لهم في بيته فإذا بهم يطالبون بإقتسام البيت.

ثم يذكرالمتحدث، بإعتزاز، “حكمة” اليهود وقوتهم وهم يقهرون الجيوش العربية وتهور حكوماتها، مروراً بزعم تطرف الساسة العرب الذي جلب الحرب في حين حكمة اليهود جلبت السلام، معتبراً كل الساسة الفلسطينيين متطرفين وأضاعوا القضية بما فيهم الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي اشتط في المطالبة بما يجاوز قوته وقدره بل واعتبر حركة “حماس” والمقاومة متطرفة ودموية لأنها تطالب بجلاء إسرائيل عن أرض وهي حق لها، ناصحاً الفلسطينيين بقول ما تتفضل به إسرائيل عليهم، فهي القوية صاحبته الحق والعرب متطرفون معتدون.

أغاظني أن المتحدث إنفرد بالساحة واستكان له المذيع؛ ومع أنني لا أمانع في أن تستضيف الفضائيات العربية أمثال هؤلاء، ولكن يجب أن تكون الجلسة متوازنة ومع شخص خبير وله دراية كافية بردع هذا الصنف وكشف جهله.

من خلال ما سبق، يبقى هناك العديد من الأسئلة: هل قبول العرب بقرار التقسيم كان سيعطيهم نصيباً في فلسطين؟ هل يؤمن هذا بأن قرار التقسيم كان حقيقة أم أنه كان مرحلة في مسيرة المشروع الصهيوني؟ ثم من اعتدى على من: العرب أم إسرائيل؟ ألا يعلم أن إسرائيل هي التي اعتدت على مصر مرتين، في العامين 1956 و1967، واحتلت سيناء وأعادتها مقابل فرض شروطها التي كانت بداية الدمار لمصر والمنطقة العربية؟ هل المتطرف هو اللص الذي يريد انتزاع الفريسة من صاحب الحق أم هو صاحب الحق الذي ينكر على اللص عدوانه وهمجيته وجشعه وجرائمه؟

من قال لك أن فلسطين لليهود أيها الجاهل، وهل يعلم هذا الجاهل أن الدكتاتورية العربية هي المسؤولة عن ازدهار إسرائيل فى ظهور هؤلاء السفهاء على كل الساحات لأنها حجبت الأخيار والأكفاء وطوعت مصادر القوة لحفظ كراسيها وملأت الدنيا ضجيجاً بالوحدة العربية وسحق إسرائيل بينما كانوا فريسة سهلة كي تحقق الأخيرة فيناً نصراً لا تستحقه وتنزل بنا مذلة لا تستحقها جيوشنا وشعوبنا؟

فعندما لقنها الجيش المصري وبقية العرب درساً في العام 1973، سارع الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، إلى “إجهاض” النتائج من خلال توقيعه على إتفاقية “كامب ديفيد” ومن قبلها الثغرة التي خططتها واشنطن مع إسرائيل للإحاطة بجيوش مصر الباسلة غدراً وغيلة بعد صدر السادات إلى المشهد أضعف العناصر وجنب خيرة العسكرية العربية حتى أن الفريق محمد الجمسي بكى وهو يوقع على اتفاق الكيلو 101، فك الإشتباك، الذي خلص الجيوش المصرية من كماشة الثغرة التي لم يتم التحقيق مع المسؤول عنها وهي مربط الفرس في تحويل 1973 من نصر إلى نكبة 1979 و”كامب ديفيد”؟

أيضاً، هل يعتبر هذا “السفيه” أن الإحتلال وابتلاع فلسطين عمل حكيم، بينما مقاومة الإحتلال تطرف وطريق إلى الحفاظ على كرسي الحكم وأي كرسي هذا والمقاومة تدفع ثمن هؤلاء الجبناء كل يوم؟ وإذا كان مفهوم التطرف والإعتدال على هذا النحو في ملف القضية الفلسطينية، الا تعلم يا هذا أن المتطرف هو المعارضة للحاكم العربي ولإسرائيل، بينما المعتدل والمتحضر هم حملة المباخر والداعون إلى التطبيع والإستزلام من أمثالك؟

إن التطرف في أي شيء هو أن يلزم طرف الشي، وأما الاعتدال فهو أن يلزم وسطه أو قريباً منه. وما تدعو إليه من التسليم بالحق للمغتصب هو قمة التطرف، بينما المطالبة بكل فلسطين هو قمة الإعتدال. لقد خبر العرب أن المشروع الصهيوني يريد كل فلسطين، وأن “مسرحية السلام” لا تعني أكثر من تخديرهم حتى تتمكن الأخيرة منهم لتحقيق السلام الذي يناسبها وهو فرض كل شروطها والتفاوض من أجل التوقيع والإقرار؛ في حين أن هذا السلام لا ينهي الصراع، بل يعيده إلى نقطة البداية ويجدد الجراح والعزم على اقتلاع هؤلاء السفهاء من قريتنا “إنهم قوم يخرصون”.

بالمناسبة، إعتبر كل من الرئيسي السادات وعرفات في نظر إسرائيل مثالاً معتدلاً جداً لأن الأول قدم محطة “كامب ديفيد” والثاني قدم محطة “أوسلو”. فما هي الزواية التي نقيس منها التطرف والإعتدال؟

حتى في المجال الديني أيضاً، الشيخ المتطرف في نظري هو من يعمد إلى إستخدام الدين لتبرير سياسات الحاكم، بينما الشيخ أو الشخص المتطرف عند الحاكم هو من يتحدى سلطته وفساده، بينما هناك متطرف “موضوعي”، وهو الذي يحكم عقله وحساباته ولا يأبه للمجتمع من حوله. وعلى كل حال، إن تبقى هذه مصطلحات نسبية، لكن المهم: أين يقف الحق ضمن تلك المعادلة؟

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصور: وكالة القدس للأنباء – الميادين.

موضوع ذا صلة: شرعية الحاكم العربي بين إسرائيل وفلسطين