د. عبدالله اﻷشعل*
لا جدال في أن التاريخ جزء أساسي من متطلبات التحليل في العلوم السياسية بكل فروعها بدءاً من نظم الحكم وعلاقات الدول وفصولها المتقلبة، وقد تفرع عن ذلك الكثير من المذاهب وأكثرها إلغائية في التقلب بين صفحات التاريخ أو تأصيل إتجاه ما لخدمة هدف سياسي معين. غير أن وصف التاريخية ثم المبالغة بإستخدامه في مصر، فهذه كلمة تاريخية وذاك حدث تاريخي وهذا زعيم تاريخي وقد وصف الدستور المصري العام 2014 الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بأنه “الزعيم الخالد” مثلما أطلق الوصف نفسه على عدد من الرؤساء العرب؛ أما العلاقات الدولية فإنها، في الكتابات المصرية، عند اللزوم علاقات تاريخية، وإذا ما تقلبت وإختلف المزاج السياسي بحث الكتاب عن “العداء التاريخي”.
الحق أن التاريخ لا يستقيم على وتيرة واحدة، فقد تعرضت مصر خلال العصر الناصري للكثير من الهزات في علاقاتها الخارجية حيث إعتدت عليها بريطانيا وفرنسا، العام 1956، بينما كانت الولايات المتحدة هي الصديق، وأما موسكو فكانت في مقتبل مرحلة التحالف، فيما إسرائيل هي العدو التاريخي. كانت مصر ترى نفسها على الطريق الصحيح، وأن الدول التي على خلاف معها هي في معسكر الخطأ، وأن مصر هي الثورة التقدمية ضد الملكيات الرجعية والمتزمتة، وأن هذه الثورات التقدمية تنشد الحرية للشعوب الأخرى ولكن ضد اﻹستعمار وليس ضد حكامها.
هكذا، صارت دول عدم اﻹنحياز في علاقات تاريخية مع مصر، وفي العام 1967 صارت الولايات المتحدة “الشيطان الأكبر” وأنها هي من تتبنى إسرائيل. لذلك، فإن الثورة الليبية وطرد الولايات المتحدة منها كان عقوبة لواشنطن وتأمين لمصر، ولقد نشرت مصر هذا النوع من الثورات، التي هي في الواقع إنقلابات عسكرية، لتشكيل جبهة الدول التقدمية ضد جبهة الدول الرجعية. أما موسكو التي كانت حليفة للعصر الناصري، فقد أصبحت غريماً وعدواً في عصر الرئيس الراحل، أنور السادات، بعد أن دخل المعسكر الغربي ضد المعسكر الشيوعي.
أيضاً، الغريب بهذه المناسبة أنه بعد قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، تم توظيف عدد من الفيديوهات لتبرير قتله وأهمها أنه كان يؤيد تنظيم “القاعدة”، وتصويره مع مجاهدي أفغانستان ضد اﻹتحاد السوفيتي، ووجوده مع أسامة بن لادن في صورة واحدة متناسين أن خاشقجي هو من أركان الإعلام والنظام السعودي، وأن السعودية هي التي وظفته مع تنظيم “القاعدة” ومع بن لادن السعودي وغيرها، كما أن واشنطن هي التي صنعت “القاعدة” وحركة طالبان وتنظيم “داعش”، وكانت السعودية تمول كل هذه الأنشطة؛ ومع ذلك، فإن الصحافي السعودي لم يرتكب إثماً يعاقب عليه.
بعد ذلك وعندما زار الرئيس عبد الفتاح السيسي موسكو بمناسبة الذكرى 75 لإنشاء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، أطنبت الصحف المصرية في الحديث عن العلاقات التاريخية بين مصر وروسيا، وقررت أن هذه العلاقات الحالية هي علاقات تاريخية بينها. التاريخ يقول إن علاقات مصر وروسيا اختلفت في مراحل التاريخ، ففي العهد القيصري كانت مصر في المعسكر الغربي ضد موسكو ولم تنشئ مصر علاقات دبلوماسية إلا في العام 1944 بعد أن سمحت لها بريطانيا وأمريكا في إطار “شهر العسل” بينها وبين موسكو على جميع الجبهات العسكرية، وهي لحظة واحدة في هذا الزمن الممتد. ثم طارد الرئيس عبد الناصر الشيوعيين قبل أن تضطره الظروف للتحالف مع موسكو؛ ولأن هذا التحالف لم يكن أيديولوجياً وإنما مصلحياً تماماً كما فعلت حماية موسكو للشيوعيين المصريين، فكان هذا الملف نقطة تماس واحتكاك مع الحليف السوفيتي “الطبيعي” وهو مصطلح أزدهر دون مضمون، فصار الحلفاء الطبيعيون كالعلاقات التاريخية لا مضمون لها.
وبعد هزيمة مصر الشاملة في العام 1976، نال اﻹتحاد السوفييتي حظه من النقد والتجريح ونشط الكاتب الراحل، محمد حسنين هيكل، وغيره لتكييف الحالة بأنها “هزيمة لموسكو من واشنطن” و”هزيمة للسلاح السوفيتي من قبل السلاح الأمريكي”، وهذه تحليلات تافهة كانت تنطلي على السذج من جيلنا لأننا أدركنا بعد ذلك أن نظام الحكم في مصر هو الذي جلب لها الهزيمة والعار. ومع ذلك، بقي النظام واستقرت الهزيمة لأن النظام نفسه، وليس العلاقات مع موسكو، هو سبب الهزيمة والتراجع والنكبات؛ لذلك، عندما جاء الرئيس السادات إختار “الحضن” الأمريكي في إطار نقد السوفييت وتحميلهم ثمن الهزيمة.
إنطلى الأمر على الكثير من البسطاء، وروج له هيكل أيضاً على مضض رغم أنه حاول التقليل من نصر أكتوبر ونسبه إلى الرئيس عبد الناصر وليس للرئيس السادات. وفي مرحلة الأخير، ساهمت مصر بالحملة الأمريكية ضد اﻹتحاد السوفيتي في أفغانستان، وهي التي أرسلت المصريين للجهاد في كابول وكان الرئيس السادات أحد أسباب إنهيار اﻹتحاد السوفيتي، كما كان المسؤول عن دفع مصر إلى الحضن الإسرائيلي والأمريكي في “كامب ديفيد” التي نشهد ثمارها المرة في مصر والعالم العربي منذ ذاك الحين إلى الآن. لذلك، لم أفاجأ بظهور رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في مسقط، يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 2018، وظهور وزيرة الرياضة الإسرائيلية في قطر، ووفد رياضي إسرائيلي في الإمارات، واستعداد وزير الخارجية السعودي للتطبيع معها سعياً إلى “السلام” الإسرائيلي.
خلاصة القول، إن العلاقات بين مصر وروسيا تقلبت عبر التاريخ وحسب نظام الحكم إذ لا يمكن وصفها بـ “التاريخية” ذلك أن أسباب التقارب اليوم سبقها عداء كبير. كما أن هذه الأسباب لا تتماثل مع أسباب التقارب في العصر الناصري، حيث كانت الحرب الباردة على أشدها. إنه تقارب المصالح بين نظم الحكم في البلدين، إذ لا تزال المسافة كبيرة بين مكونات القرار في البلدين، ومضمون المصالح التي تؤدي إلى التقارب الشكلي في الغالب والذي أغرى بعض “السفهاء” من الكتاب بـ “التبشير” بأن مصر تقوم بإستبدال أمريكا بروسيا، وأن ذلك مهارة من القيادة المصرية. هذه سفاهة وجهل بالواقع وبمفردات الوضع في مصر وعلاقته بواشنطن. هذا التقارب الشكلي، دفع البعض إلى توقع نتائج مبالغ فيها وأهمها عودة السياحة الروسية إلى مصر وهو توقع يتجاهل الكثير من المعطيات حيث ينطبق هذا التحليل على علاقة مصر بأية دولة عربية أو أجنبية.
فلقد شهدت علاقات مصر بالعرب وإسرائيل وبريطانيا الكثير من التقلبات، لكن العامل الأساسي الحاسم لهذه العلاقات هو موقف نظام الحكم في مصر، وحتى العلاقات المصرية – السعودية كانت أشد تقلباً حتى حقبة الرئيس السادات، ومنذ إعترفت مصر بالمملكة العربية السعودية بعد وفاة الملك فؤاد الذي رفض الإعتراف بعدة أشهر. إن الاسراف في استخدام وصف “التاريخية” نفاق سياسي أو جهل، ألا أن هناك بعض الأحداث والشخصيات التي أثرت في التاريخ بصرف النظر عن نوع التأثير، مثل أودولف هتلر ونابليون بونابرت وشارل ديغول وجمال عبد الناصر وعبد الفتاح السيسي ومحمد بن سلمان والملك عبد العزيز ومحمود فوزي وعبد المنعم رياض وسعد الدين الشاذلي وسعد زغلول وأنور السادات وغيرهم. أما الأحداث التي تشكل عصب التاريخ فهي لا تحصى.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصور: الميادين – فرانس 24.
موضوع ذا صلة: أزمة التأريخ في مصر: الثورات نموذجاً