قبل عشر سنوات، كانت تركيا صديقة الجميع ومقربة من الجميع، وعلاقاتها الخارجية مع دول الجوار والشرق الأوسط وأوروبا أكثر من جيدة، تشوبها غيوم من حينٍ للآخر لكنها سرعان ما تتبدد.
لم يكن في بال أحد أن تتحول سياسة أنقرة من “صفر مشاكل” إلى “دائماً مشاكل”، وأن تتحول محبة الشعوب لها إلى نقمة حقيقية منها، لا سيما بعد تدخلها في الدول التي إجتاحها ما يسمى بـ “الربيع العربي”، وليخرج نفوذها إلى إعادة حلم إحياء نفوذ إمبراطوري سقط بتحالف أوروبي – عربي أوائل القرن الماضي.
تركيا والشرق الأوسط
زيارات ودية وإلغاء لتأشيرات الدخول وإتفاقيات وعلاقات ثنائية وإنفتاح تركي على المشرق من أوسع الأبواب، وتطبيع تركي مع كل الدول العربية في كل المجالات وخاصة الإقتصادية ونشاطٌ سياحي وفني والكثير غير ذلك، إلى أن بدأت أحداث “الربيع العربي”، من تونس إلى مصر فليبيا وسوريا، لتظهر حقيقة السياسة التركية.
على الفور، سارعت أنقرة إلى دعم “الإسلام السياسي” بكل تياراته، إذ لطالما أحب الرئيس رجب طيب أردوغان لقب “خليفة المسلمين”، فكان من أول الداعمين لزعيم “حركة النهضة” الإخوانية التونسية، راشد الغنوشي، و”تهليله” لسقوط الرئيس المصري الراحل، محمد حسني مبارك، ليعلن دعمه الكامل لصديقه الرئيس الراحل، محمد مرسي، معتقداً بقائه في السلطة بحيث سيتمكن من خلاله التدخل بمصر قبل أن يتمكن الجيش من إستلام السلطة، بقايدة الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، ويقطع عليه الطريق لا بل يؤثر عليه في تدخلاته الليبية.
أما في سوريا، كانت عشر سنوات كفيلة بأن تعطي تركيا فرصة التمدد فيها تحت عنوان مزعوم “حماية الأمن القومي” من الكرد أو غيرهم، بينما المخطط هو إعادة الكثير من المناطق السورية التي تعتبر “إرثاً عثمانياً” تريد أنقرة إسترجاعه وضمه إلى حدود دولتها، كحال لواء إسكندورن ومدينة حلب “عصب الإقتصاد السوري” التي بذلت جهداً كبيراً في محاولة قضمها، حيث لم ينسَ أحد بعد دورها، من خلال “الجهاديين”، ناهيك عن إستمرارها بالتغلغل شرقاً ودعم كل التيارات الإسلامية وفي مقدمتها تنظيم “الإخوان المسلمين” – فرع سوريا، ولا تزل حتى الآن مستمرة في دعمها لهم لا بل أصبح إستثمارها ناجح فيهم حيث تستخدمهم في تمددها في بلادٍ أخرى.
بالفعل بدأت تركيا بقضم سوريا لكن ليس من الناحية العسكرية فقط، بل من الناحيتين التعليمية والثقافية من خلال سياسة “التتريك” والتغيير الديموغرافي ضمن مناطق سيطرتها، وما تبعها من جرائم أخرى من سرقات وقتل وقصف وإحتلال أراضٍ، لكن الشق الأهم يبقى في “المد العثماني” خصوصاً وأن لدى الرئيس التركي حلم يتجدد يومياً، ولم يدخر جهداً في تحقيق هذا الحلم.
الكنز الأفريقي
لم تحقق تركيا نتائجاً مثمرة سواء تونس أو مصر أو حتى سوريا. فعلى الرغم من دعمها لجماعة “الإخوان المسلمين” في كل بلدٍ تشهد صراعات، لكن ذلك ليس سوى واجهة لأطماع أكبر من ذلك بكثير. حقيقة، لا يهم أنقرة من يحكم إن كان علمانياً أو إسلامياً بقدر ما يهمها الولوج إلى البلاد والتغلغل فيها وتحقيق مكاسب إقتصادية بالمقام الأول، فالقوة الإقتصادية تشكل “مفتاح” التمدد العثماني الذي يحقق باقي الأهداف الأخرى.
من هنا، شكلت ليبيا أرضاً خصبة لتحقيق الحلم التركي “أفريقياً”. فالتحكم بقرار حكومة الوفاق “الشرعية” جاء بمردود مثمر على أنقرة، وأصبح هذا البلد الغني بثرواتٍ ضخمة بوابتها على البحر المتوسط من جهة، وعلى القارة السمراء من جهةٍ أخرى، حيث سارعت إلى إنشاء القواعد فيها وعقد الإتفاقيات الثنائية التي تضمن بقائها فيها إلى أطول وقتٍ ممكن، إضافة إلى تعطيل أي حل سياسي يراد منه إنقاذ البلاد. كما يمكن القول بأنها قد نجحت، بطريقة أو بأخرى، في زج الإسلاميين ضمن الحياة السياسية الليبية، وهذا ما تبين من ملتقى تونس للحوار الوطني الليبي الأخير، من خلال ورقة الأسماء “الإخوانية” المرشحة والتي فرضها بالقوة بمساعدة ودعم قطري.
وما يبرر هذا الحلم، هو حديث الرئيس التركي الشهير، والذي إنتشرت له مقاطع فيديو، يشير فيه إلى أن مصراته والعديد من المدن على الساحل الليبي هي “لنا”، أي تقع ضمن النفوذ العثماني.
من وجهة رأي البعض، قد تكون ليبيا بعيدة عن تحقيق الحلم العثماني المزعوم، لكنها تشكل مركز إنطلاق التمدد التركي في القارة الأفريقية بطرق حديثة تعتمد على إستخدام تقنيات جديدة، أبرزها المراكز الثقافية والمدارس الدينية التي تعمل على نشر التطرف من خلالها والقضاء على كل ما هو معتدل، كما حدث في الصومال التي وصلت الأذرع التركية إليها وقبلها السودان التي أطبقت فيها على جزيرة سواكن، على البحر الأحمر، بموجب عقود طويلة الأمد.
الصومال والفكر “الإخواني”
نجحت تركيا بالسيطرة على مدارس “حركة الخدمة” في عددٍ من الدول الأفريقية، وفي مقدمتها الصومال، مستغلة علاقاتها السياسية والإقتصادية وبحجة محاربة “الخصم الأول” لأنقرة فتح الله غولن، إذ تم تحويل المدارس الصومالية إلى مراكز تدريب ودروس دينية تتناسب والفكر الإخواني، مستفيدين من علاقتهم مع رئيس الصومال إلى درجة تغيير أسماء بعض المدارس والمعاهد في الصومال، كتغيير إسم “معهد العلوم الصحية” ليصبح “معهد أردوغان المهني العالي للعلوم الصحية”.
فالغاية التركية من الإطباق على الصومال هي إدراك الرئيس أردوغان أن إحكام سيطرته عليها سيمنحه ثقلاً كبيراً في الملف الليبي، إذ أن توطيد الوجود التركي أفريقياً عبر مقديشو سيجعل لأنقرة تأثيراً مباشراً على دول شمال أفريقيا ومنها مصر، بطبيعة الحال، التي تواجه معها صعوبات فيما يخص أزمة شرق المتوسط، كما أنها “الورقة البديلة” عن السودان، بعد سقوط الرئيس عمر البشير، وهو ما يؤكد على أن النوايا التركية في أفريقيا هي نوايا إستعمارية لا تختلف عما يُحاك لهذه القارة من قبل الغرب.
من هنا، يبدو أنه من المتوقع أن تشهد القارة السمراء تمدداً تركياً كبيراً وأكبر مما يبدو عليه الوضع اليوم، فالرئيس أردوغان يريد حجز مقعده الدائم فيها كمنافس وخصم للغرب الأوروبي، بخاصة فرنسا، في آن ولأهداف ستتبين في حينها أبرزها إبتزاز أوروبا من بوابة طرابلس الغرب.
الدين والقوميات
بعد المعارك العنيفة التي شهدتها منطقة ناغورنو كاراباخ، سارعت تركيا للدخول على هذا الخط الأزمة لدعم حليفتها أذربيجان. وبصرف النظر عما حدث من دعم تركي واضح في هذا الشأن، يمكن التوقف عند نقطة مهمة وهي أن الدعم لم يقم على أساس ديني، فبأذربيجان دولة شيعية، وتركيا سنيَّة، بل من باب الدين والقومية “الطورانية”.
ولإكمال المخطط العثماني الجديد، لا بد من إنتهاج سياسة متينة تؤكد للحلفاء أن أنقرة حليف قوي لهم خاصة عند الشدائد، ما يجعلها تكسب ولاءهم بسرعة قصوى. فإن كانت السياسات المعنية لتلك البلاد ضعيفة، يقوم مخططو السياسة الأتراك بدرس نقاط ضعف كل حليف وكيفية مساعدته أو إختراقه.
على سبيل المثال، فلقد ذكرت العديد من المعلومات عن قيام حكومة الرئيس أردوغان بنقل مرتزقة سوريين إلى باكستان، حليفة تركيا، للقتال إلى جانبها في الصراع بمنطقة كشمير المتنازع عليها مع الهند، دون مراعاة للقانون الدولي أو حتى أدنى مراعاة للهند كدولة لم تتعرض لأنقرة لا سياسياً ولا عسكرياً، من دون أن ننسى قوة نيودلهي من مختلف الجوانب.
من وجهة نظر الكثير من المحللين، إن هذه المساعدة تخفي وراءها الكثير لا سيما مسألة التمدد شرقاً ناحية الصين، وتحديداً إلى إقليم شينجيانغ ذات الأغلبية الإيغورية المسلمة المرتبطة بها إثنياً فلقد سبق لها أن نقلت العديد منهم إلى الشمال السوري للقتال ضمن الفصائل التي تدعمها. يتزامن ذلك مع الحملة الأمريكية على الصين فيما يخص حقوق الإنسان فيه، وضغط واشنطن من خلال وزير خارجيتها، مايك بومبيو، الذي إستمر ذكر الأمر في خطابات ممتالية من دون فارق زمني يذكر. أيضاً، هذه المساعدة قد تخفي وراءها شغفاً إقتصادياً خصوصاً بعد الدخول الصيني على البلاد والتوقعات بمستقبل واعد لإسلام أباد.
من الجهة الإثنية أيضاً، لا يمكن لنا إغفال النفوذ التركي في شبه جزيرة القرم والصراع التاريخي بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، في القرن التاسع عشر، وهزيمة الأولى فيها.
من خلال ما سبق، ترمي المحاولات التركية إلى إيجاد موطئ قدم من القوقاز إلى الصين مستخدمة الناحيتين القومية والدينية، وهو ما سيوقع أنقرة في صراع مستقبلي حتمي مع موسكو خصوصاً إذا ما زاد العبث في “حديقتها الخلفية”.
تبادل للثقافات.. والتطرف
تسعى أنقرة للدخول على خط البلقان، أو بالأحرى العودة إليه، من خلال نشر ثقافتها ودعمها المساجد بالأموال والمنح، ناهيك عن الإتفاقيات التجارية حيث تعتبر الدول بأمس الحاجة إليها في زمن يجتاح فيه فيروس “كورونا” إقتصادات العالم.
هذه السياسات الناعمة بدأت تأتي بثمارها، وتسحب البساط من تحت أرجل الكثير من الدول، لا سيما روسيا التي تمتلك نفوذاً تاريخياً هناك، شيئاً فشيئاً حتى أنها إقتربت من حدود الدول الأوروبية، سواء من جهة البلقان أو البحر المتوسط.
يبقى الركن الأهم هو إستحواذ أنقرة على المساجد ما يعني قدرتها على نشر فكرها الإخواني المتطرف والتحكم بالكثير من المسلمين الذين يعيشون في تلك المنطقة، كألبانيا وكوسوفو وصربيا، على غرار الحالتين السورية والليبية؛ بالتالي، يمكنها تشكيل تهديد حقيقي لنفوذ روسيا ودول أوروبا يتم الكشف عنه عندما تسنح الفرصة للإنقضاض السياسي، كالمقايضة في الملفات، أو غيره.
أخيراً، ما يظهر جلياً أنه لا توجد دولة في المحيط القريب والبعيد لا تخلو من “الخطر” التركي، في الإتجاهات الأربعة، ما دفع بالعديد من الأصوات إلى مطالبة روسيا بوضع حد لهذا التمدد خصوصاً، الأخير يعتبر، وبنظر الكثير من المحللين، نوعاً من “الشراكة” مع الولايات المتحدة إذ أن واشنطن تريد قطع الطريق على المشاريع الصينية – الروسية، أو تعطيلها على أقل تقدير، وذلك من خلال دعمها القوي للإسلام السياسي الممثل اليوم بتركيا.
*المدير التنفيذي في مركز سيتا.
مصدر الصور: تركيا بالعربي – نون بوست – الحرة.
موضوع ذا صلة: هل يعيد “المجلس التركي” إحياء “الطورانية الجديدة”؟