السفير د. عبدالله الأشعل*

بعد هذه المدة الطويلة وإتضاح أن النتائج المؤكدة لهذه الصفقة لصالح المشروع الصهيوني وإعتبار إسرائيل أنها “الجائزة الكبرى” لإخراج مصر من معادلة القوة، لم يعد هناك شك بأن هذه الصفقة كانت تقزيماً لمصر وكسباً خيالياً لإسرائيل. وفي، هذه المناسبة، تتراجع وتندحر كل المبررات التي قدمت لتبريرها ومن أهم هذه المبررات أربعة.

المبرر الأول، إستردت مصر سيناء، وأنه بغير الصفقة كان يمكن لإسرائيل ان تضمها مثل بقية الأراضي المحتلة. أما الرد على هذا المبرر فهو أن مصر استردت سيناء فعلاً ولكنها تحت نظر إسرائيل وضمن مخططها، كما أنها عادت محملة بالكثير من القيود بالإضافة إلى أن المقابل كان اطلاق يد إسرائيل في المنطقة ومصر، ورهن الإرادة المصرية كاملة. وقد ظهر هذا المبرر ليرد على الناصريين بحيث تكون المعادلة ضد الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، ولصالح الرئيس أنور السادات، لأن الرئيسس عبد الناصر “أضاع” سيناء بينما إستردها السادات، ناهيك عن شلل الادارة المصرية لسيناء مما تكشفه المقارنة بين إدارة إسرائيل لسيناء وادارة مصر لها اخذاً بعين الإعتبار حساسيتها بالنسبة لإسرائيل، مقابل سياسة الحكومة المصرية “العرجاء” اتجاهها امتداداً لموقف القاهرة التاريخي من الحدود الشرقية.

أما المبرر الثاني، فهو ما وعد به الرئيس السادات من أن السلام مع إسرائيل سيؤدي إلى سلام شامل في المنطقة، ولكن الواقع أن السلام معها طمأنها من خطر مصر، وأطلق يدها استخفافاً بها أولاً، ومحاربة مصالحها وتوسع المشروع الصهيوني فى المنطقة العربية على النحو الذي أعلنه رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، في أكثر من مناسبة. فلم تعد إسرائيل محاطة، كما كانت تزعم، بـ “بحر من العداء” العربي، بل تساقط العرب وتواطؤوا معها ضد بعضهم البعض، وصارت إسرائيل هي مركز القوة والطريق إلى واشنطن عند كل الحكام العرب، وانتهى الأمر بـ “صفقة القرن”، التي كانت نتاجاً طبيعياً لـ “صفقة السلام” بل أن “سد النهضة” هو من حصادها المر.

أما المبرر الثالث، فهو ما ذكره الرئيس السادات كذباً من أن الصفقة ستؤدي إلى توفير تكاليف المواجهة مع إسرائيل واستغلالها في تنمية مصر وازدهارها، لكن أحوال مصر طوال العقود الأربعة الأخيرة شاهدة على عدم مصداقية هذا الوعد خلال تسويقه للصفقة التي وضع كل ثقله وراءها.

أما المبرر الرابع والأخير، فهو أن الصفقة اوقفت الحرب بين مصر وإسرائيل، بينما نقلت هذه الحروب إلى بقية المنطقة وهذا افتراء كبير لأن العلاقة بينهما، بعد الصفقة، وفرت على إسرائيل جزءاً كبيراً من ميزانيتها العسكرية، كما أن “إنسجامها” لا يبرر الهجوم العسكري من إسرائيل عليها. يضاف إلى ذلك أن مصر كانت دائماً ضحية العدوان الإسرائيلي، وهذا المبرر معناه أنها لم تعد تعتبر إسرائيل عدواً يمكن التحسب له؛ لأنه ما دامت مصر في اتفاق كامل معها، فليس هناك مبرر لكي تخشى مصر من إسرائيل رغم أنها لا تزال تعتبرها عدواً، إلا أن إسرائيل نقلت العدوان العسكري على مصر إلى مستوى أكثر خطورة وهو عزلها في الإقليم وتهديد وجودها.

فإذا كان الرئيس السادات قد أخطأ خطأ استراتيجياً كبيراً وهو يعلم أن إسرائيل تعتبر مصر “كل العرب”، وأن سيناء هي كل الأراضي العربية المحتلة. والسؤال هنا: هل عمد إلى تحقيق أمجاد شخصية له على حساب الرئيس عبد الناصر ومصر أم أن تكوينه الثقافي والذهني لم يكونا مؤهلين له في التعامل مع إسرائيل بعد “حرب أكتوبر”؟ وهل معاهدة السلام بنصها هي السبب في خسائر مصر والعرب أم أن العقلية التي ادارت العلاقة مع إسرائيل هي المشكلة؟

هناك الكثير من المؤشرات التي تظهر أن الرئيس السادات كان قصير النظر، وأنه وضع نفسه على خلاف مع العرب؛ ولذلك، قبِل بأن تتخلى مصر عن دورها العربي، وبتحجيم الجيش المصري فى داخل أراضيه، وبأن مصر فرعونية وليست عربية تاركاً الباب لكل المتربصين بها لكي “ينهشوا” فيها، ومكَّن أطرافاً عربية، بالتعاون مع إسرائيل، لإزاحتها من المشهد العربي وضياع أوراق القوة لديها. لذلك، إن تفتيت العالم العربي وإشعال الحرائق، في سوريا واليمن وليبيا ومحاصرة مصر، هي من نتائج لـ “صفقة السلام” تلك.

أما البداية الصحيحة، فتحتاج إلى فكر جديد وليس إلى نصوص. فقد أديرت السياسة الخارجية المصرية لسبعة عقود استناداً إلى “الغرائز” السياسية للحاكم وليس إلى المصالح الإستراتيجية المعتبرة للوطن، وهذه مشكلة أكبر سنعالجها في دراسة أوسع.

ورغم ذلك، هناك في مصر من يعتبر الرئيس السادات “عبقرياً” مقابل من يعتبره عميلاً فيما أنا شخصياً أستبعد الفرضين لأن القضية تحتاج إلى تقييم علمي موضوعي على المستويين التاريخي والإستراتيجي، علما بأن المستوى الأول يفترض أن تحليل سلوك الرئيس السادات وفقاً للظروف والمعلومات المتاحة له فى ذلك الوقت وألا نحمله ما كشفت عنه الوثائق والأيام فغيرت قواعد تقييم هذا السلوك، لكن المؤكد أن “العلاقة التعاقدية” مع إسرائيل كانت ضرورية مع ثلاثة تحفظات. التحفظ الأول أن مصر لا بد أن تحتفظ بمجاليها الطبيعي العربي والأفريقي وألا تسمح لإسرائيل بحرمانها منهما. أما التحفظ الثاني فهو أن “صفقة السلام” لا تعني انتهاء الصراع والتنافس بشرط أن تستند قرارات الحاكم على مصالح استراتيجية اساسية وليس إلى هوى أو حسابات شخصية. أما التحفظ الثالث والأخير، هو فهم خطوط التعامل مع إسرائيل والولايات المتحدة على أساس أنهما “حزمة واحدة”.

لكن السؤال: هل يمكن لحاكم مصري أن ينشئ هذه المعادلة التي تجبر إسرائيل على سلام شامل في المنطقة وعلى أرض فلسطين؟ هذا ما ننتظر أن تكشف عنه الأيام القادمة.

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصور: بوابة الوفد – الميادين.

موضوع ذا صلة: هل تصلح “المبادرة العربية للسلام” بديلاً عن “صفقة القرن”؟