أظهرت خبرة التعامل مع مختلف الطوائف والخلفيات الثقافية أننا جميعاً بحاجة ماسة إلى طبقتين من الثقافة أو المعرفة: الطبقة الأولى هي ثقافة المهنة والثانية هي الثقافة العامة فمثلاً الديبلوماسي يحتاج إلى صقل مهنته بدراسات فنية في علمه كما يحتاج إلى الإلمام بطبقة ثانية مرتبطة بالأولى وتعينه على صقلها ثم أنه بحاجة إلى ثقافة عامة تربطه بالمجتمع.

ومن الواضح أن هذه الطبقات من الثقافة والمعرفة تختلف حسب المهنة والبيئة والخلفية التعليمية وحسب المجتمع وتطوره أو تغيره، وقد اتضح أيضاً أنه كلما كان المجال اللصيق بعقيدة الإنسان أو بذاته كلما كانت الثقافة في هذا المجال أوجب وأكثر إلحاحاً وسوف نقصر هذه المقالة على الثقافة الدينية اللازمة لهذه المرحلة ونقدمها في ثلاثة مقالات ، فقد لاحظت أن الناس يمكن أن يؤدوا الطقوس الدينية ويمكن أن يحفظوا بعض آيات القرآن الكريم ويتزودوا بقدر من كتب السيرة والسنة وغيرها من المعارف المرتبطة بالدين ولكنهم يفتقرون إلى مبادئ الثقافة الدينية الذي يهتم هذا المقال بها وهذه المبادئ هي:

أولاً، أن الله خلق كل شيء ثم خلق الإنسان وكلفه بإعمار الكون وزوده بالعقل والحرية وصخر له كافة المخلوقات وحثه على أن يلتمس وجود الله في نفسه أولاً وفي خلق الله ثانياً وأن يتفكر في طريقة الخلق وخلق السماوات والأرض.

ثانياً، أن الله خلق آدم أولا الذي خلقكم من نفس واحدة ثم خلق منها زوجها وأسكنهما الجنة وحذرهما من شجرة في الجنة ولكن ظهر الشيطان فأغرى آدم وحواء بأكل ثمار هذه الشجرة وأضلهما فخالف تحذير الله لهما بأن الشيطان للإنسان عدو مبين فنزل إلى الأرض بعضهم لبعض عدو وسار في الأرض وفقاً لقواعد وردت في القرآن الكريم وهي أن الشيطان يحث على حب الشهوات وأن الله يحرس الإنسان من وساوس الشيطان وتأكيداً على حرية الإنسان وامتلاك عقله فإن الله خيره بين أن يعبد أو يكفر وبين أن يأخذ جانب الله أو جانب الشيطان ولكن الله سبحانه أوضح له بجلاء طريقة الحساب ومصير عمله وأنه لن يظلم فتيلا وأن مهمته في الأرض هي إعمارها أي أن يكون نافعاً للأرض وأهلها وأن يكون عابداً لله متبعاً لأحكام الدين وهو التوحيد أساساً وأن النفس البشرية ألهمت الفجور والتقوى ولكن عقل الإنسان هو الذي يختار الفجور أو التقوى ويتحمل الإنسان مسؤولية عمله.

ثالثاً، أن كل مولود ميت وما بين الميلاد والموت حياة قصرت أو طالت وأن هذه الحياة دار العمل فإذا خرج منها أصبح في دار الحساب وأخبرنا القرآن الكريم أن الحياة في الدنيا مهما كانت طويلة بمعايير البشر فإنها قصيرة بمعيار الدار الآخرة ولذلك كان الإنسان عابراً في هذه الدنيا واللبيب هو الذي يستثمر هذه الدار العابرة لكي يبني له مستقراً في الدار الأبدية .

إن الله سبحانه وتعالى ألزم آدم وحذره ولكن آدم لم يلتزم فعفا الله عنه في المرة الأولى ثم أن آدم فضله الله بالعلم من لدنه على الملائكة الذين ميز الله آدم عليهم بالعلم اللدني على التفصيل الذي ورد في سورة البقرة كما أن الله فضل آدم على الملائكة للمرة الثانية عندما أمرهم بالسجود لآدم وهي ميزة ينفرد بها الله سبحانه وتعالى ولكن آدم لم يقدر هذه الميزة؟

ومن ناحية ثالثة ميز الله آدم على الملائكة بأن خصه بالعقل وحرية الاختيار في أعلى درجات القرار وهو الإيمان أو الكفر بينما الملائكة اختاروا أن يخلقوا عابدين لله دون اختيار منهم ولذلك يقول الصالحون إن آدم أو الإنسان عموماً إذا ألغى أرادته ودعا الله أن يوجهه إلى طاعته صار من ناحية رابعة أفضل من الملائكة ولذلك عندما جادلت الاقوام السابقة أنبياءها رفضاً لرسالتهم واستكثرت أن يبعث الله هؤلاء الأنبياء من بينهم وتطلبوا أن يؤمنوا بالرسالة إذا كان النبي ملكاً وهم لا يعرفون أن الإنسان عموماً والأنبياء خصوصا أفضل من الملائكة على النحو الذي فصلناه.

رابعاً، أن آدم نزل عليه الدين وجوهره توحيد الله وظل هذا الدين من آدم إلى محمد وتكفل الله بحفظ الدين إلى قيام الساعة فالمحافظة على التوحيد هو جوهر جميع الشرائع كما أن مسيرة الدعوة انقسمت عبر ملايين السنين من آدم إلى محمد إلى مرحلتين المرحلة الأولى هي مرحلة النبوة على خلاف بين كتاب السيرة في عدد الأنبياء في هذه المرحلة ولكنهم جميعاً كانوا يذكرون تباعاً بأصل الدين كلما تقادم العهد بالبشرية وانحرفت عن طريقها .

أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الرسالات وبدأت بموسى ثم عيسى ثم ختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي أخبرنا القرآن أنه خاتم النبيين وأنه نزل بمعجزة القرآن فلا نبي بعده ولا قرآن بعده مما يعني أن حياة البشرية بعد محمد أقرب إلى يوم القيامة من حياة الإنسان على الأرض السابقة على هذه الرسالة الخاتم .

خامساً، أن الله أخذ ميثاق ثلاثة طوائف يشهدوا له بالوحدانية الطائفة الأولى هي ذرية بني آدم والطائفة الثانية هم الأنبياء وقد ميز الله ميثاق النبيين بقوله تعالى فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين.

أما الطائفة الثالثة فهم بنو إسرائيل الذين اختارهم الله برسالة موسى ثم تلاها برسالة عيسى مصدقاً لكل ما قبلها ولكن بني إسرائيل لم يحتملوا هاتين الرسالتين على النحو الذي فصلته سورة البقرة بشأن بني إسرائيل.

سادساً، أن كل الشرائع السابقة على محمد صلى الله عليه وسلم هي مراحل وطبقات في هذا الدين الواحد ولذلك نص القرآن الكريم على أن الدين عند الله هو الإسلام والإسلام هو دين كل الأنبياء من آدم إلى محمد وأن الكتب الثلاثة المقدسة نزلت تباعاً وذكرها القرآن الكريم في أكثر من موضع التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن وكلها تكرس جوهر الدين.

الجدل حول مصير من آمنوا بموسى أو عيسى أهو إلى النار أم إلى الجنة جدل عقيم وهو متروك لله سبحانه تعالى وليس من شأننا أن نقرر مصير هؤلاء ولكن الثابت أن اليهودية والمسيحية مراحل وتشريعات في هذا الدين وصولاً إلى القرآن الكريم وهو الكتاب الجامع والخاتم ولذلك فإن وصف الإسلام ينطبق على كل أتباع الشرائع الأخرى في إطار رسالة الإسلام ولا يجب الخلط بين تقدير الله لهذه الطوائف وحسابه لها وبين نظرتنا نحن إليهم فنحن لا نحكم عليهم وإنما يحكم عليهم ويفصل في شأنهم خالقهم وقد أكد الرسول الكريم ذلك في حديث صحيح أيها الناس لا تتألوا على الله أي لا تحددوا لله ماذا يفعل مع عباده فالله خلقهم وهو أرحم بهم ويختص برحمته من يشاء من عباده.

والثابت أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده الصحابة وخاصة عمر بن الخطاب دل سلوكهم على أن الرسالات لا ينسخ بعضها بعضاً بدليل أن عمر رفض أن يصلي في كنيسة القيامة وإنما صلى في مكان آخر احتراماً لدور العبادة في المسيحية وما دام الجميع يتجه إلى الله فإنهم يلتقون في نفس المربع ومادام الإسلام متصلاً من آدم إلى محمد ومؤكداً في جميع الرسالات لهذه الحقيقة فإن محمد لم يأت بجديد وإنما جاء بالقول الفصل والنهائي الذي تضمنه القرآن الكريم وما دام الرسول هو خاتم النبيين وتنقطع بعده رسائل السماء إلى الأرض فإن رسولنا الكريم انفرد بثلاثة مزايا على سابقيه:

الميزة الأولى، أنه بنص الحديث الشريف هو اللبنة التي يكتمل بها الدين لقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم.

الميزة الثانية، أن معجزات الأنبياء السابقين كانت تحدياً وإقناعاً لأقوامهم وفيما برعوا فيه ولم تكن جزءاً من صلب الرسالة ولكن معجزة محمد هي جوهر الرسالة وهي القرآن الكريم الذي كان معجزة الرسول كما حفل القرآن بمعجزات لا حصر لها وسوف نفصل في مقال آخر الفرق بين معجزة القرآن والمعجزات في القرآن.

سابعاً، ما دام الدين واحداً فلا معنى لتعدد الأديان لأن التعدد يعني الشرك وهي مرحلة ما قبل التوحيد ولذلك يجب أن يراجع الجميع بما في ذلك الأزهر الشريف هذه الحقيقة وألا يخصص مقرراً دراسياً في جامعة الأزهر حول مقارنة الأديان لأن الدين واحد وأن الشرائع غير السماوية والاجتهادات الفلسفية لا ترقى إلى مستوى الدين والدين قاصر على من أرسله وهو الله سبحانه وتعالى ولذلك يخطئ من في قلبه مرض ضد الدين فينسب إليه الإرهاب وغيره من أدران البشر لأن الدين بحكم التعريف يحض على التعايش والإحسان إلى الناس وقدسية النفس البشرية وكرامة الإنسان وحريته في أعلى درجاتها فلا يجوز أن تلصق الجرائم بالدين وإنما تلصق بالإنسان أياً كان انتماؤه الشرائعي وهو عندما يرتكب هذه الجرائم فإنه يخالف تعاليم دينه أو عقيدته الأرضية التي يعتنقها أكثر من 50% من سكان العالم .

ثامناً، أن الله أهلك الأقوام التي كذبت الرسل وبعث النبيين من أقوامهم إلى أقوامهم وكان من أدوات الإهلاك هو تسليط الطاغية على هذه الشعوب وكان الشعب المصري هو النموذج الظاهر في قصة فرعون الذي عبده المصريون ولكنه لم يشك لحظة واحدة في أن ألوهيته أداه سياسية لقهر الشعب المصري على التسليم له ولذلك بعث الله موسى من بني إسرائيل وليس من المصريين وبعثه مباشرة إلى فرعون لأن المصريين عبدوه وسلموا له فلم يصبحوا أهلاً للخطاب.

مصدر الصور: أرشيف سيتا.

إقرأ أيضاً: الفتن في قصة موسى كما صورها القرآن الكريم

السفير د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية الأسبق / أستاذ محاضر في القانون الدولي والعلاقات الدولية – مصر