يان فان زيبروك*
“الهندسة الاجتماعية”
ماذا تعني كلمة “الهندسة الاجتماعية” قبل أي شيء؟ هناك عدة تعريفات مختلفة منها ما هو مرتبط بالعلوم السياسية وعلم النفس. بالنسبة للعلوم السياسية، فإن الأمر يتعلق بالتعديل الواسع النطاق؛ وفي علم النفس؛ هي دراسة سلوكيات اجتماعية معينة. في جمع لما سبق، يمكن القول بأنها “تعديل المخطط للسلوك البشري”.
خلال مدة 30 عاماً، تم بناء عملية كاملة من “الهندسة الاجتماعية”. لقد تمكن المسؤولون الفرنسيون، لسنوات، من إعداد جيل جديد من الفرنسيين، ليصبحوا معزولين بشكل متزايد، يظن أنه هو من يحكم هذا الكوكب خصوصاً بعد قدوم المهاجرين، قاطني هذه المناطق المعزولة أو الغيتوات، للعمل وكسب العيش، بدلاً من توفير وسيلة تعارف، بينهم وبين السكان الأصليين، من أجل التعرف على بعضهم البعض وإيجاد صيغة من الاحترام المتبادل.
نظمت الدولة الفرنسية عمليات “جمع شمل” الأُسر، ضمن ما يسمى اليوم بـ “الغيتو”، وهي نسخ طبق الأصل من تلك الموجودة في المجتمع الأمريكي، حيث يسود العنف والكراهية، وتساعد على تنامي وانتشار الارهاب حيث يعاني الكثيرين منهم من عمليات السجن او الموت كل عام. سوء الفهم هذا بين الطرفين، انطوى، من خلال هذه الحقائق، على ردود فعل عنصرية متزايدة، عزل الناس وغيرها من الامور التي قد تستغلها للأحزاب السياسية من أجل “ركوب” موجة الفوضى تلك.
وفي الوقت نفسه، كان تدمير البنك المركزي الفرنسي، على يد الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان في 3 يناير/كانون الثاني من العام 1973 عندما كان وزيراً للمالية هو الضامن لسلطة اتخاذ القرار بشأن الميزانية وسلطة السيطرة على الاقتصاد، اثر كبير حيث اُجبرت الحكومة الفرنسية على الاقتراض من البنوك الخاصة بمعدلات فوائد ربوية في الوقت الذي دخلت فيه فرنسا، وأوروبا عموماً، في “زمن الديون”.
أوائل الثمانينيات، جاء الاشتراكيون إلى السلطة، من خلال شخص فرانسوا ميتران الذي شكل “أمل” الطبقة العاملة والفقيرة، غير انه اتخذ اجراءات صارمة لإرضاء المفوضية الأوروبية وألمانيا في أقل من سنتي حكم، اذ تحول من “مدافع عن العمال” والى “مناضل” ضد العنصرية هذا إذا كانت تلك المعركة “نبيلة”.
يجب علينا ألا نخدع أنفسنا بشأن نضاله هذا، وهو الحاصل على وسام “الفرانيسك” الذي اقر أبان حكومة فيشي الموالية لالمانيا الفاشية في الحرب العالمية الثانية، حيث انه عمل ضد جبهة التحرير الوطني الجزائرية. غير انه ما لبث ان توجه نحو الاشتراكية، وابتعد عن جان ماري لويان زعيم “الجبهة الوطنية” حينها.
من اجل فهم ماهية “الجبهة الوطنية”، انها تدور حول حركة قريبة من منظمة OAS، وهو حركة استخدمتها الولايات المتحدة لمحاربة ديغول، سعت إلى إبقاء الجزائر ضمن فرنسا على عكس ما كمان يفعل ويريد ديغول. شاركت هذه المنظمة في مذبحة العام 1971 بباريس، حيث تعرض الجزائريون المقربون من “جبهة التحرير الوطني” للضرب واٌغرقوا في نهر السين، كما حاولت المنظمة نفسها اغتيال الرئيس ديغول.
ما يمكن الإشارة إليه هنا، أن جبهة الوطنية ما زالت تحت تأثير المخابرات الفرنسية في “العمليات السوداء”، ففي ملف معمل “لافارج” الذي تم تركيبه في المناطق التي كان يسيطر عليها تنظيم “داعش”، أظهرت التحقيقات وجود روابط بين المديرية العامة للأمن الخارجي، وكان أحد المتهمين في القضية، وهو رئيس أمن المصنع، عضو في حزب مارين لوبان، الجبهة الوطنية، والذي احتل الحزب المركز الخامس في الانتخابات الأخيرة.
وفيما يتعلق بالتعليم والمدارس والجامعات، شهدنا “إصلاحات” خرج منها المزيد والمزيد من الشباب غير المتعلمين. هذه “الهندسة الاجتماعية”، تحت ستار “المساواة”، إعادة صياغة جميع الكتب المدرسية، إذ كان الهدف إرسال الشباب في أقرب وقت ممكن للعمل من دون معرفة أساسياته، إنشاء جيش يخضع فقط لأوامر، وإنشاء جيل من “المستهلكين”. في الجامعات، تم التركيز على التخصص، وليس اتباع النهج القديم بحيث يتم مناقشة معلومات متعددة من فروع معرفية أخرى إذ يسمح للطلاب بأن يكون لدهم معرفة ببعض القطاعات الأخرى ايضاً، وهو نموذج تتبعه الجامعات الأمريكية حيث يكمن الهدف منه في فصل الأشخاص عن هذه “الهندسة الاجتماعية”.
فيما يتعلق بالباكالوريا الفنية، وبعد فتح الجامعات المتخصصة، أصبحت قيمتها المعنوية ضئيلة بالمقارنة من شهادات تلك الجامعات والمعاهد. وفي إشارة مهمة هنا، لم يعد يدرس التاريخ الفرنسي، والأدب الفرنسي تم الاستعاضة عنه بنصوص من الصحف، وعلوم الرياضيات أصبحت كـ “الذبيحة”. بالتالي، لم تعد شهادة البكالوريا حاجة للوصول إلى عالم الأعمال.
القنوات التلفزيونية والدعاية “البروباغندا”
هذه المقولة معروفة لدى الجميع، لكن هل هي مفهومة بالشكل الصحيح؟ للمفارقة، لقد قام الجيش بإجراء تحليل لمجموعة كاملة من العمليات والدراسات النفسية للسلوك البشري جيداً، خصوصاً تلك التي تهتم بردود الفعل لدى الأفراد، حيث استفادت منها الشركات التجارية الضخمة بشكل كبير.
إن الهدف بسيط وهو كيفية تحويل قناة تلفزيونية إلى سلاح دمار شامل للنفسية والعقل البشري، وتوجيههم إلى الحانات بدل تثقيفهم. على سبيل المثال، يقول الكاتب ماري بينيلدي، في إحدى مؤلفاته، إنهم يشترون الأدمغة عبر الدعاية ووسائل الإعلان. هذا، وببساطة، من أجل الدخول إلى سيكولوجية الأشخاص وتحضير عقولهم لأحداث غير مقبولة أو متوقعة مثل دعم الاستبداد، تغذيتها بمصائب الناس لكسب الجمهور، والأداء المالي الجيد، إذ يتم دفعهم إلى حالة من “النرجسية” يمتد تأثيرها على أطفالهم في المستقبل.
لقد أصبحت ثقافة فرنسا، والغرب، هي تشويه المقدسات، تدمير عناصر العائلة من الأعلى الى الأسفل، من الآباء إلى الأطفال.
تدمير العائلة
تسعى أحد القوانين إلى تدمير عمق قيمنا، وأبرزها قانون تبني الأطفال من قبل الأزواج المثليين، إذ من المحتمل أن يتم إقراره تحت ضغط “لوبي المثليين”. هذا القانون، بطبيعة الحال، يثير انقساماً حاداً كونه غير محكوم ببيانات علمية بل تحليلات نفسية. بناء على هذه الإيديولوجية وبدلاً من البحث الحقيقي، فهم يريدون أن يعطوا نوعاً من “الحياة الطبيعية الخيرة” للجميع ويجبرون الناس على قبول حقيقة مفادها إمكانية الأزواج المثليين بتبني الأطفال بالرغم من أنهم على دراية تامة بأن تعليم الطفل يكون من خلال اب وأم. إن الأطفال الذين لا يتلقون تعليماً مثالياً ومتوازناً من خلال الوالدين سيواجهون، للأسف في كثير من الأحيان، صعوبات في الحياة مستقبلاً. إن هذه الايديولوجية “المقيتة” تحاول اقناعنا بأنه لا توجد فوارق بين الرجال والنساء.
إضافة إلى ما سبق ومنذ فترة وجيزة، تم إقرار قانون جديد ينص على أن الاعتداء الجنسي على الأطفال لم يعد جريمة كبرى بل جريمة صغيرة، كلمة صغيرة ولكن فارق بسيط لا يعدو كونه مجرد تشجيع على لمس القاصرين دون هذا الأمر لا يجعل أقل شرارة.
في هذا المجال، يجب ذكر ما قاله أحد وزراء الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، إن “الأطفال لا ينتمون إلى والديهم”. فإلى من ينتمون إذاً؟ هذه الرغبة في الهيمنة، ستودي بهؤلاء الأطفال الصغار إلى لعب أدوار متناقضة، فيصبح الصبي فتاة والعكس صحيح. يتم تعليم الطفل، في سن مبكرة، على “تمزيق” مبادئ العائلة، إذ سيصبح هناك بعد كبير يفصل ما بين الآباء والأبناء. إنها “المكيافيلية النقية”.
عالم الأعمال
شهد قطاع الأعمال العديد من التحولات كجزء من ممارسة “الهندسة الاجتماعية” هذه، إذ بات من الضروري ألا يقف العمال سوياً. لقد حان وقت “الذئاب والطيور الجارحة”. سابقاً، كان العمل محلاً للاكتفاء، ومصدراً للسعادة كما لو كان الشخص ضمن عائلة تحتضنه. كل ذلك أصبح من الماضي، حيث استبدلت هذه القيم بآلية مبنية على الخوف، والرغبة في “تحطيم” زميل العمل، مما لا يدع مكاناً للود بين الزملاء.
لقد تم تسيير هذا النظام جيداً من قبل القائمين عليه لا سيما مع إدخال مصطلح “العالم التنافسي” المستوحى من النموذج الأمريكي، بحيث يهدف إلى عزل العمال بعضهم عن بعض، خصوصاً في بعض الشركات الكبيرة، جعله دائم المراقبة لزميله في العمل. ففي بعض الشركات الكبيرة، يتم دراسة الموظفين الجدد من خلال تقنيات علم النفس والدراسات السلوكية، لوضع مقدم الطلب في حالات معينة يسهل عليهم معرفة ردود فعله المستقبلية على نفس الأحداث الواقعية، وبالطبع من دون علم مقدم الطلب نفسه.
من خلال ما سبق، يمكن إجراء ربط ما بين معدل الأمراض والضغوط النفسية. فأمراض كالسرطان، على سبيل المثال، مرتبطة بظروف العمل، إضافة إلى عمليات الانتحار ايضاً.
اليوم، أصبحت الاضرابات سيئة للغاية، فهي وسيله لتقسيم العمال خصوصاً وان الاحتجاجات الاجتماعية تقودها النقابات التي يتم تمويلها من قبل الاتحاد الأوروبي بدلاً من ايجاد التغييرات الإيجابية.
بناء على كل ما سبق، نرى وجود ميل إلى تقسيم المجتمع للوصول إلى هدف نهائي يكمن في التأسيس لسلطة ديكتاتورية. فهل يمكن لفرنسا أن تقع فعلاً في حرب أهلية؟ كما الولايات المتحدة، إننا نشهد تشكيل مجموعات من الأفراد الذين يلتفون حول خصائص مشتركة معينة، مثل كراهية الإسلام، كراهية الفرنسيين، الكراهية بين العمال، فمن خلال كل تلك الكراهية، توجد فرصة لنشوب حرب أهلية.
إن الوضع الاقتصادي سيجعل فرنسا “يونان أخرى”، والتي كانت أول دولة تختبر داخل أوروبا. لقد نسي هؤلاء “المهندسين” شيئاً واحداً لكنه اساسي وهو أن الإغريق أبقوا على تقاليد العائلة، لا سيما من خلال مبدأ المساعدات المتبادلة؛ أما فرنسا، فقد فقدت هذا المبدأ بالفعل منذ زمن بعيد. فإذا وقعت هذه الأزمة، فإننا لن نشهد حربا أهلية وحسب، بل يوم “اثنين أسود” كما يحدث في كل عام. سيقتل الناس بعضهم البعض حتى تضع القوة العسكرية حداً لها وستكون تلك هي النهاية (أخيرا؟!) لـ “الديمقراطية الغربية” التي تخيلها الكثير من الأوروبيين.
في ختام القول حول “الهندسة الاجتماعية”، إن هذه التصرفات السياسية، سواء كانت متعمدة أم لا، تعطينا صورة عن المجتمع الفرنسي الحالي.
هنا، أريد أن أوجه الشكر الجزيل لوالدتي للمساعدة في كتابة هذا النص.
*باحث في مركز “سيتا”
مصدر الصورة: فرانس 24 – موقع برازيل 247.