د. عبدالله الأشعل*
المعلوم أن المفاوضات تكون مثمرة عندما تتحدد مشكلة الخلاف بين الطرفين ولكل واحد وجهة نظر وفق مصالحه. كما أن المفاوضات تكون لازمة عندما تكون الأرضية صالحة للأخذ والرد، ويكون كل طرف قد حدد موقفه من القضية محل التفاوض. إلا أن نظرية المفاوضات المعروفة عبر التاريخ قد تعطلت قواعدها في قضية “سد النهضة”.
منذ البداية، أظهرت إثيوبيا عزمها على بناء السد بمواصفات معينة، وضربت ستاراً من السرية على أعمال البناء لا بل إنها لم تقدم الدراسات الصحيحة التي تعين مصر على تقدير مدى الأضرار التي قد تصيبها من جراء بناء السد، وظلت تردد أنها لن تضر بدول المصب وأن السد هو مسألة ضرورية للتنمية وأنه “أمل” الشعب الإثيوبي للإنطلاق إلى عهد جديد.
أيضاً، تبين أن الحكومة الأثيوبية تمد الشعب بمعلومات مضللة في حملة كراهية ضد مصر وشعبها بحيث إعتبر المواطن فيها أن هذا السد، حتى لو أفقد مصر وجودها، لازم لإحياء بلاده، وأن مصر ظلت تفرض هيمنتها المائية عليها، وأن السد ضروري لكي تفرض إثيوبيا سيادتها على النيل الذي اعتبرته ملكهاً لها وليس ملكاً لمصر، وأنها تحصل على المياه اللازمة لها وما يفيض عن حاجتها يمكن إطلاقه صوب مصر والسودان حيث وربط وزير الخارجية الإثيوبي، غيدو أندارغشيو، بين زوال الهيمنة المصرية بهذا السد وتحرر إثيوبيا من الإستعمار الإيطالي مصوراً مصر على أنها “العدو الجديد” الذي قيض الله لإثيوبيا حكومة وطنية تحقق الإستقلال المائي، كما حققت في الماضي الإستقلال السياسي.
لقد قدمت الحكومة الإثيوبية مجموعة من المزاعم القانونية وكلها يشكل إنتهاكاً للقانون الدولي وأبرزها تلك التي تتعلق بحصص مصر من المياه، وعزم إثيوبيا على عدم الإتفاق معها، وتنفيذ ما تشاء من مشروعات من طرف واحد لفرض أمر واقع ولتفعل مصر ما تشاء.
في المقابل، لم تحرك القاهرة أو إعلامها ساكناً تجاه هذا الإفتراء والإستعلاء والإستخفاف والتحدي بل اكتفى رئيس الوزراء، الدكتور مصطفى مدبولي، بأن وعد بتشديد العقوبات على كل من لا يراعي الترشيد في إستخدام مياه النيل دون أن يعلق بكلمة واحدة على اجتماع قيادة لجنة تنسيق إقامة السد التي أكدت أنها لن تُشرك معها أحداً في ملئه وإداراته وأن لها مطلق الحرية فيما يتعلق به، ولن تقدم ضمانات لسلامة السد أو الرد على المخاوف من إنهياره. رغم كل ذلك، تعلم مصر جيداً أن المفاوضات مضيعة للوقت ولن تحل مشكلة حجب المياه عنها أو ترغم أديس أبابا على أية زحزحة عن موقفها، وهي لا تزال تأمل في أن مجلس الأمن سوف يضغط على إثيوبيا لمواصلة المفاوضات العبثية تماماً، كما تفعل إسرائيل مع الفلسطينيين، على الرغم من أن المجلس إستنفد سلطته بالإحالة إلى الإتحاد الإفريقي، الذي تحدته إثيوبيا وقررت المضي منفردة في مشروع الألفية حيث وجدت تعاطفاً في الوسط الإفريقي حيث لمست مصر بنفسها ثقلها في هذا الوسط.
والأسئلة كثيرة هنا، وأبرزها: هل المفاوضات، التي قررت إثيوبيا أنها عبث ولن تستأنفها وإن وافقت على استئنافها، تهدف إلى إقرار مصر صراحة بالخط الإثيوبي حيث لم تكتف الأخيرة بسكوت القاهرة على هذا الخط وكأنها تقره وإنما تريد مزيداً من الإذلال بأن تنتهي المفاوضات حتى تقر مصر بمزاعمها وتسلم بحقها منفردة في مياه نهر النيل ما دامت هي دولة المنبع الأساسية؟ هل تدرك الحكومة المصرية خطورة الملف والموقف الاثيوبي منه أم أنها وصلت هي الأخرى إلى التسليم بأنه “قضاء وقدر” وعلى الشعب المصري أن يواجه هذه الكارثة بالصبر الذي اعتاد عليه.
كان بودي لو أعلنت الحكومة عن تفسير، ولو قصير، للموقف علماً بأن إجراءات الترشيد يمكن أن تحل جزءاً من مشكلة نقص المياه على أن تبدأ هي بوقف تلويث النيل من مصانعها خصوصاً وأن لدينا ترسانة من التشريعات والقرارات التي تضمن ذلك ولكن لا يطبق منه. في مقال آخر، سنقدم برنامجاً متكاملاً للتعامل مع المشكلة من نقطة الإستعصاء وحتى نبرئ ذمتنا أمام مصر وأجيالها القادمة في ظل هذه الجائحة الأخطر.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصورة: أخبار اليوم.
موضوع ذا صلة: الوساطة الغائبة في أزمة “سد النهضة”