جرت الانتخابات الرئاسية الفرنسية على وقع أزمة الكورونا التي أدت الى أزمة إقتصادية، سياسية، اجتماعية ومعنوية لا مثيل لها لا في فرنسا و حتى في أوروبا، لم يلاحظ الفرنسيون فعلاً وصول الانتخابات الرئاسية، لقد كانت أولوية الفرنسيين كانت في مكان آخر.

وكثيرون كانوا يتسآلون عما إذا كانت الانتخابات ستحصل، خصوصاً بسبب الإجراءات التي فرضتها الدولة بحجة حماية المواطنين من جائحة الكورونا والتي حدت بشكل جدي الحريات العامة، لكن رأت الدولة الفرنسية أنه من الحكمة أن رفع الإجراءات أسابيع قليلة قبل الانتخابات الرئاسية والسماح للمواطنين بإزالة الكمامات والمشاركة. التناقض في الإجراءات، الأزمة الاقتصادية، غلاء المعيشية والانعكاسات الاجتماعية والنفسية أنهكت الشعب الفرنسي. في هذا السياق أتت الانتخابات الرئاسية الفرنسية.

مناورة ما قبل الانتخابات

حصل ما كان يأمله الرئيس إيمانويل ماكرون وهو مواجهة مارين لوبان في الدورة الثانية و ضمان انتخابه كما كان الحال في 2017، ويجب التنويه أنه للمرة الثانية ينتخب الفرنسيون مارين لوبان في الجولة الأولى وبكل الأحوال أصبح انتخاب اليمين المتطرف في فرنسا علامة فارقة، في ظل استياء الشعب وغضبه من السياسات المتوالية في فرنسا منذ عهد الرئيس نيكولا ساركوزي، أكانت هذه السياسات من اليمين أو من اليسار، ليس هناك من مصادفة أن تصل رئيسة الجبهة الوطنية مرة ثانية إلى الدورة الثانية بمواجهة مع الرئيس إيمانويل ماكرون. إذا راجعنا الاحتجاجات والتظاهرات التي حصلت خلال الخمس سنوات الماضية ومنها حركة السترات الصفراء التي دامت أكثر من سنتين، ثم مجيء “كوفيد” ليقضي عليها، قد نفهم بعض الشيء كيف ولماذا وصلت مارين لوبان مرة ثانية إالى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية.

تبرز عدة أسئلة بعد إعادة انتخاب الرئيس إيمانويل ماكرون. رغم فارق النقاط بين إيمانويل ماكرون ومارين لوبان، هل يمكن للأخيرة أن تفوز بالانتخابات الرئاسية؟ هل يمكن لليمين المتطرف أن يحكم فرنسا؟ هل سيعيد إيمانويل ماكرون اختراع “برنامجه السياسي” حيث سيستقر باستمرار؟

ليس من الصدفة أن عدة نقاط في البرنامج السياسي لمارين لوبان تروق للشعب الفرنسي خصوصاً أنه في الوقت الحاضر هناك صعود للحركات والأفكار القومية ليس فقط في فرنسا لكن في أوروبا بشكل عام.
مشكلة مارين لوبان الأولى هي إرث أبيها جان ماري لوبان التي تحمله على أكتافها ولا تستطيع التنصل بسهولة من هذا الإرث وتاريخ حزب الجبهة الوطنية. إنه تقريباً الحزب الوحيد في فرنسا الذي نرى فيه مزج ما بين الناحية العائلية على عدة أجيال، لكن يشكل هذا الحزب عقبة كبيرة بوجه رئيسة الجبهة الوطنية، التي تحاول منذ سنوات تحسين صورة حزبها وعلاقاته. لكن تغيير صورة الحزب وتحسين أداءه وإبعاده ولو بشكل نظري من محيط اليمين المتطرف لا يكفي لكي تصل مارين لوبان أو حزبها إلى سدة الرئاسة.

اليمين المتطرف والرئاسة

فيما يتعلق إمكانية اليمين المتطرف للحكم في فرنسا، من الضروري تحديد ماهية اليمين المتطرف أولاً وقبل كل شيء حول ما إذا كان حزب مارين لوبان لا يزال كذلك. لقد أدى التدهور وانعدام الثقافة السياسية في فرنسا وأوروبا إلى تغيير كل الخطوط السياسية الكلاسيكية جميعها، كما أن الفروقات بين اليسار واليمين تكاد تكون معدومة. لسوء الحظ في الوقت الحالي، لا يمكن لأي حزب سياسي أن يدعي أنه يستطيع أن يحكم في فرنسا، وفقاً لمفهوم الحكم الكلاسيكي والتقليدي المعروف حتى سنوات قليلة مضت.

أما بالنسبة لإيمانويل ماكرون، فقد كان فوزه حتى الجولة الثانية غير أكيد. السؤال الذي يطرحه الكثير من الناس: هل إن كان هناك مرشحة أخرى غير مارين لوبان تملك نموذجاً مشابهاً لإرثها، الذي تكلمنا عنه ضد إيمانويل ماركون، كان هذا الأخير قد تم انتخابه؟

يتوقف الكثير من المراقبين والصحفيين منذ إعادة انتخاب إيمانويل ماكرون للتنبؤ بما ستكون عليه سياسة هذا الأخير للسنوات الخمس المقبلة. ومع ذلك، لمحاولة التنبؤ كيف ستكون سياسة إيمانويل ماكرون للسنوات الخمس المقبلة، يجب أن نفهم ما يحدث داخل المجتمع الفرنسي، مع الأخذ في الاعتبار الحالة الإجتماعية والمعنوية للشعب الفرنسي، وهمومه التي ليست بالضبط نفس اهتمامات الأوليغارشية الفرنسية. في الوقت الحالي، يرى الفرنسيون الحرب على أعتاب منازلهم، ويرون قوتهم الشرائية تتضاءل يوماً بعد يوم، فضلاً عن ارتفاع الأسعار سواء في الطاقة أو الغذاء، ونقص في المواد الأاساسية سواء للأفراد أو للشركات أو المعامل.

يفترض أيضاً فهم ما يحدث على الساحة الدولية لمحاولة تخمين مجال المناورة الذي يتمتع به القادة الأوروبيون حالياً، بما في ذلك القادة السياسيون الفرنسيون. بالطبع هناك حرب في أوكرانيا، وهي حرب الولايات المتحدة ليس ضد روسيا فقط، بل حربها في أوروبا وضدها. لكن هناك قضايا أخرى مثل الحرب في شمال سوريا، الوجود الفرنسي والأوروبي في إفريقيا، المواجهة مع روسيا، الضغط الصيني على القارة الأوروبية، حروب الطاقة، مسألة الهجرة ومكافحة الهجرة، نزيف العقول الأوروبية، إفقار المجتمعات الأوروبية، بسبب العولمة المتوحشة.

نتيجة لذلك، يراهن البعض في فرنسا على أوروبا لمواجهة المستقبل، معتقدين أن في “الاتحاد” قوة، ولكن قبل ذلك يجب أن نرى ما إذا كان الاتحاد الأوروبي موحداً حقاً وعلى أي أساس؟

لقد كشفت أزمة كوفيد عن عيوب أساسية على هذا المستوى، وبهذه الطريقة سنتمكن من وضع توقعات شاملة لما ستكون عليه فترة الخمس سنوات القادمة في فرنسا، مع العلم أن الأمور يمكن أن تتحسن أو تزداد سوءاً، في غضون ذلك، يستعد الفرنسيون للانتخابات البرلمانية التي تأتي تقليدياً بعد ستة أسابيع من الانتخابات الرئاسية. هل سيحصل الرئيس إيمانويل ماكرون على أغلبية في البرلمان كما كان الحال في عام 2017، هنا تكمن المعضلة الأساسية التي ستحدد بعض الشيء المسار السياسي للسنوات الخمس المقبلة في فرنسا.

مصدر الصورة: الميادين – فرانس 24.

موضوع ذا صلة: فرنسا العلمانية أمام تحدي التطرف و”الإنعزالية الإسلامية”

د. أنطوان شاربنتييه

باحث في الشوؤن الأوروبية – باريس