د. أنطوان شاربنتييه*
تأتي زيارة وزير خارجية فرنسا، جان إيف لودريان، إلى لبنان في إطار القيام بلقاءات ومشاورات حول الأوضاع في الشرق الأوسط، خصوصاً الملفين اللبناني والسوري، وذلك بعد أن فرضت الولايات المتحدة “قانون قيصر”، الذي ظاهره سوريا وباطنه الإقليم كله حيث تأثر كل من لبنان والعراق والأردن بتداعياته.
ومن دلالات زيارة لودريان إلى لبنان أنها جاءت بعد إجراء اجتماع بين كل من فرنسا وألمانيا وبعض الدول الأوروبية مع الولايات المتحدة، بمشاركة الفاتيكان، لبحث مستجدات الشرق الأوسط حيث تطرقوا على وجه الخصوص إلى الأوضاع على الساحة اللبنانية. أيضاً، جاءت الزيارة بعد اجتماع البطريرك الماروني، مار بشارة الراعي، مع رئيس الجمهورية اللبناني، ميشال عون، عقب الإجتماع الذي أشرنا إليه.
والسؤال هنا: ماذا في توقيت زيارة لودريان؟ ماذا يحمل في جعبته؟ كل هذه الأمور تطرح الكثير من تساؤلات، وأبرزها: هل يحمل معه مشروع حل؟ أو هناك من مخرج ما تريد باريس طرحه على الدولة اللبنانية؟ أو لدى لودريان رسالة من الدول الأعضاء الذين إجتمعوا بمشاركة الفاتيكان؟
في الأوضاع الطبيعية، يمكن النظر إلى الزيارة على أنها عادية، لكن الغريب فيها اليوم هو إهتمام فرنسا وأوروبا بما يحصل من مجريات على صعيد الساحة اللبنانية رغم ضلوعهم، كشركاء، في الظروف المستجدة التي تعصف بها؛ فعلى سبيل المثال، تعد واشنطن من المشاركين بما يحدث عبر “قانون قيصر” وعقوباتها التي فرضتها على لبنان، كما سوريا. فكيف لهم أن يساعدوا في الحل وهم جزء من المشكلة وشركاء لأمريكا في العقوبات المفروضة؟
اليوم، نحن نستغرب ما يحدث. إذا كان لوديان يحمل مشروعاً يساعد فيه لبنان، فذلك يتناقض مع الواقع الفرنسي الداخلي حيث نرى الساسة عاجزين عن إيجاد حلول للمشكلات الداخلية، ومنها جائحة “كورونا” على سبيل المثال؛ بالتالي، تتناقض تصريحاتهم مع أفعالهم خصوصاً عندما يتحدثون عن إيجاد حلول لبعض الدول. برأيي، هذا الأمر لا يتعدى إطار المناورات السياسية، إلى جانب وجود رسائل ما يريد الأمريكي أو غيره توجيهها عبر لودريان، الذي بات دوره يقتصر على “ساعي بريد”.
إذا كانت فرنسا فعلاً تريد مساعدة لبنان، فأول ما يجب أن تقوم به هو إعادة تفعيل مؤتمر “سيدر”، القائم على القروض لا المساعدات، الذي عطلته بحجة الإصلاحات، بينما تعرف تماماً أن جوهر النظام اللبناني لا يعطي فرصة نجاح لأية إصلاحات لا سيما في وضعه الحالي. إذا كانت حقاً تريد المساعدة فعليها القيام بإصلاح النظام اللبناني، الذي يعد صنيعتها لكونها الدولة التي إستعمرته حتى العام 1943، من خلال التأثير المعنوي الذي تحظى به.
ما هو واضح تماماً عدم وجود نية حقيقية لمساعدة بيروت، بل على العكس هناك سعي للضغط على الدولة و”تدجينها” أكثر فأكثر خصوصاً وأنهم يعرضون مشاريع تصب في خانة الهيمنة الإقتصادية، وبالتالي تخدم مصالحهم الموجودة في لبنان والتي بات الجميع يعرفها، وأهمها شركات التنقيب عن النفط والغاز.
بإعتقادي، ليس لدى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ولا وزير خارجيته أي مشروع حل فعلي ما لم يصب في مصلحتهم، كما أنهم لا يستطيعان تخطي الحد المفروض عليهم أميركياً. إذاً، إن مفاعيل الزيارة واضح تماماً وهو الضغط على لبنان للتخلي عن فكره المقاوم، والتخلي كلياً عن المقاومة خدمة إسرائيل وأمريكا، والجميع يعلم ماهيتها.
في تكملة لما سبق، يبدو بأن هناك محاولات للضغط على المقاومة والحد من تعاظم قدرتها ومحاصرتها من الداخل عبر الإلتهاء بالمشاكل الداخلية. فليس من قبيل الصدفة إعلان لودريان على لقائه بالبطريرك الماروني خصوصاً بعد تصريحه الأخير عن مسألة حياد لبنان وتحييده عن المشاكل الإقليمية، وكأنه جزيرة نائية بنفسها ليست لها جذور وعلاقات بمنطقة الشرق الأوسط، وكأن ما يحدث حوله لا يعنيه. من هنا، يتبين لنا لماذا تضمن جدول الزيارات “زيارة البطريرك”، الذي يعتبر رئيس طائفة ورئيس كنسي ولا يتبوأ أي منصب سياسي أو إقتصادي.
ما تجدر الإشارة إليه هنا هو تصريح البطريرك الراعي أنه بصدد تحضير قانون أو إقتراح يجعل من لبنان بلداً حيادياً وعلى أن يعرضه على الفاتيكان. ما هو لافت اليوم، أن رجال الدين باتواً وكأنهم يقررون سياسات لبنان المستقبلية دون العودة إلى الدولة الشرعية أو رئيس الجمهورية، المسيحي الماروني.
هذا التصريح بمضامينه وتزامنه مع الزيارة، يوحي بأن هناك شيء ما تحت الطاولة ما بين البطركية المارونية وفرنسا، من هنا علينا ترقب المستقبل لنرى إن كانت باريس تدعم إقتراح البطريرك أو أنها تستمع له فقط بسبب طبيعة العلاقات التاريخية بينهما. لكن السؤال الأبرز هنا: هل يستطيع لبنان أن يكون على الحياد في وجه ما يحدث حوله، سواء في سوريا أو فلسطين أو العراق؟
بالعودة إلى الزيارة، طرح الوزير لودريان بعض النقاط بعد زيارة رئيس الجمهورية، منها مسألة اللاجئين السوريين، الذي يريد الغرب توطينهم بطريقة أو بأخرى في لبنان معرقلاً عملية عودتهم تحت ذريعة “العودة الآمنة”، في حين أن من أفقدهم حقوقهم هو دعم الغرب للحركات “الجهادية” والتنظيمات الإرهابية. كما شدد الوزير أيضاً على قوات اليونيفيل وحضورها على الحدود الشمالية مع فلسطين المحتلة وهو مشروع يعول عليه الغرب للحد من حركة المقاومة اللبنانية، وهو الأمر قد يكشف عن أحد الأسباب الجوهرية لهذه الزيارة.
أخيراً، يمكن القول بأن كل ما سبق يصب في بوطقة محاصرة لبنان ومنعه من إيجاد منافذ غير تلك التقليدية التي تعود عليها خصوصاً “التوجه شرقاً” نحو الصين وروسيا؛ بالتالي، ليس الوزير الفرنسي أكثر من “مرسال” بعثت من خلاله واشنطن رسالتها.
*محلل سياسي لبناني – فرنسي.
مصدر الصور: فرانس 24 – النشرة.
موضوع ذا صلة: مواقف لودريان تستبق زيارته إلى لبنان