د. عبدالله الأشعل*
عايشت هذا الموضوع لعدة عقود وأستطيع أن أخلص بعض النتائج ومنها ما يخص إتفاق السلام بين الإمارات وإسرائيل نرى بأن التسمية خاطئة لأنه لا يستوفي أركان إتفاق السلام من الناحية العلمية بل يصلح لأن يكون إتفاق للتعاون والدفاع المشترك. فإتفاق السلام عادة ما يعقب حالة حرب بين الطرفين، ويكون هدفه الوحيد معالجة آثارها لكنه يعكس قوة كل طرف في الميدان، وهو ما لا ينطبق على الإمارات التي تتقارب مع إسرائيل لدوافع خاصة بها.
في هذا الشأن، إنطلق البعض يهاجم وينتقد بينما أيد البعض الآخر الخطوة، ولسنا هنا بصدد تقييم خطأ وصوابية هذا الحدث، كما لا يمكن مقارنة إتفاق الإمارات مع “كامب ديفيد” أو “أوسلو” أو “وادي عربة” فهذه الأطراف كانت أراضيها محتلة إذ أنها دفعت ثمناً لإنسحاب إسرائيل وهو الإعتراف بها حيث كان يجب التحفظ على هذا الأمر خصوصاً وأنه ليس لها حدوداً رسمية إذ أنها تعتمد على قوتها لتوسيع رقعتها الجغرافية، كما أن الدول المعترفة بها لا تقبل ضم القدس والإساءة للمسجد الأقصى.
على كل حال، فصلت السلطة الفلسطينية بين حكومة وشعب الإمارات، فالأخير يقف مع الشعب الفلسطيني بينما حسابات حكومته تسير في إتجاه آخر. الحق أن كل الشعب الإماراتي سيتأثر بقرار حكومته هذا؛ فإذا كان هدف الفصل هو الثقة بأن الشعوب هي من تمسك بحقوق الشعب الفلسطيني، قياساً على الشعب المصري الذي يقف بغالبيته الساحقة ضد إسرائيل وسياساتها. لكن هذه النسبة ليست مع فلسطين وليست ضد الإمارات، فالشعب المصري إنقسم حول الأخيرة ودعمها لنظام الحكم المصري الجديد العام 2013، ناهيك عن موقف “الإخوان المسلمين” منها وهذا طبيعي.
وعند النظر إلى ما حدث مع منذ 40 عاماً وتحديداً مع إبرام صفقة “كامب ديفيد”، نرى بأن رد الفعل تجاه مصر رسمياً وشعبياً يختلف عنه اليوم لوجود ثلاثة أسباب؛ السبب الأول، تفكك الكيان المصري والعربي وإنقسام الدول العربية وما تعيشه من صراعات، إذ لم تعد على خط الصراع مع إسرائيل.
السبب الثاني، إختراق إسرائيل للمنطقة العربية حيث “تعهدت” واشنطن الحكام بينما إستهدفت إسرائيل الشعوب. فعندما أبرمت مصر الصفقة، كان رد الفعل كاسحاً إذ فرقت الشعوب العربية بين السلطة وبين الشعب، ولقد لمست ذلك عندما كنت أعمل في السفارات المصرية في الخليج، خاصة في السعودية. أما موقف الحكومات حينها، فكان مناهضاً لمصر على الأقل من الناحية الشكلية إذ نجد أن بعض الدول العربية هي التي إشتركت في إخراج مسرحية التعاون مع إسرائيل نكاية بـ “مصر الناصرية”، التي وضعت إسرائيل نهاية لها ولهذا العصر بالإنكسار الكبير العام 1967. بعض الدول إستغلت هذا الحدث على أوسع نطاق، فوقفت موسكو تحارب واشنطن من وراء جبهة الرفض العربية التي ضمت إيران الثورة وليبيا والجزائر والعراق ومنظمة التحرير الفلسطينية وسوريا، وقد أسفر الموقف المعارض لإتفاق مصر وإسرائيل صدور قرار مقاطعة الأولى وقطع كافة العلاقات معها، أعقبه قرار آخر بتعليق عضويتها في جامعة الدول العربية ونقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس، بالإضافة إلى قرار صدر عن منظمة المؤتمر الإسلامي بتعليق عضويتها في المغرب، على الرغم من دور الملك الحسن الثاني في ترتيب سيناريو زيارة القدس وما أعقبها من أحداث، وقد لاحظت أن الشعوب العربية كانت متعاطفة مع معارضي إتفاق “كامب ديفيد” إذ كان هذا التعاطف دفاقاً مع الفلسطينيين ولا يزال قائماً.
السبب الثالث والأخير، إن صدور الخطوة من مصر، أكبر الدول العربية التي خرجت منذ سنوات من “حرب أكتوبر” محررة أراضيها وحدها، أربكت الرأي العام العربي وجعلته يتردد في الحكم على الرئيس الراحل، أنور السادات، بالعمالة. بالطبع، إستغلت بعض الحكومات المعادية له هذه النقطة، وإنطلق إعلامها ضد مصر كلها.
في هذا السياق، أريد أن أسجل ثلاثة ملاحظات؛ الملاحظة الأولى، أن الرئيس السادات لم يكن يمثل عموم الشعب المصري، الذي رفض التطبيع مع الكيان الغاصب رغم حملات الكذب والتضليل والوعود الجوفاء. ورغم سجن المعارضين والتنكيل بهم، إنتهى الأمر إلى إغتيال الرئيس السادات. ولكن هذا الإغتيال لم ينهِ عملية التقارب مع إسرائيل، وموافقة مجلس الشعب وبعض أساتذه الجامعة على الصفقة كان أمراً مفهوماً لبرلمان شُكل كله بالتزوير.
الملاحظة الثانية، كشفت “كامب ديفيد” أموراً خطيرة تعتبر أهم محطات المشروع الصهيوني وإختراق مصر والعالم العربي أيضاً، ولا ندري إن كان الرئيس السادات مقتنعاً بما فعله أم نادماً عليه، لكن كبر عليه التراجع، كما لا يمكن التعويل بالكامل على موقف إسرائيل وواشنطن وإن كانت هذه التغيرات لا يمكن إغفالها بالكامل.
الملاحظة الثالثة، على الرغم من قطع العلاقات المصرية – العربية بقي التعاون ضد إيران ولصالح الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، بتعليمات أمريكية. وخلال إنشغال الرئيس السادات بالتقارب مع إسرائيل وتقديم مصر “هدية” لها، كان يفخر بأنه لا يعبأ بالشعب. أما رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، مناحيم بيغين، فلم يبرم أمراً وتحفظ بموافقة البرلمان الإسرائيلي الديمقراطي بخلاف البرلمان “الكرتوني” في مصر حينها. يمكن القول بأن إسرائيل ذُهلت من سهولة إستدراج الرئيس السادات، وإن كان البعض فيها قد تظاهر بمعارضة خطوة مصر في “حرب أكتوبر” وسحرهم بإستعادة سيناء. لذلك، أقر الرئيس السادات، بعد الإنسحاب الإسرائيلي منها، خطة تعمير سيناء، ثم مات الحديث عنها وحل محلها سيناء “المتمردة – الخائنة” المتحالفة مع العدو الإسرائيلي ليليها سيناء “الإرهاب”.
بتقديري، تبقى عين إسرائيل على سيناء منذ ظهور خطة الدولة اليهودية، والشعب فيها لم يعارض دولته أو حكومته وذلك لسبب بسيط هو أن الحكومة تمكنت من اصطياد أكبر دولة عربية، وقد تخدم المشروع الصهيوني.
لقد بُنيت إسرائيل على ديمقراطية اليهود لصالح المشروع، في حين لم يقم حكام مصر وزناً لأي شيء إلا لمصالحهم وحساباتهم؛ فحتى الشعب الذي إجتهدوا في تجهيله وإستغفاله وإنفاق أمواله كي يضيع عقله لم يقيموا له وزناً. أنا شخصياً أعول على الفصل بين الحاكم والشعب رغم صعوبة الأمر. لذلك، إن تحصين الشعب ضد نزوات الحاكم و”السرطان” الصهيوني والحاكم المتصهين هو الحل. إن مهمتنا تثقيف الشعوب وإيقاظها، ومحاولة التعافي من هذا المرض هي مسألة تستحق المحاولة والصبر عليها بشرط ألا ترتبط عملية تحرير الشعوب، من المؤامرة عليها، بشخص معين وأن تصبح منهج حياة متواصل. تلك هي الطريقة الوحيدة لتجنب الصدام مع الحاكم في نفس الوقت. وتطبيقاً لهذا الخط، فإنني واثق بأن الشعوب العربية ستنجح في ترك الحاكم بمفرده لمغامراته مع إسرائيل مع الحفاظ على الزخم العربي، وإسترداد فلسطين من الإحتلال الصهيوني في معركة طويلة يقدَّر أن تطول كثيراً.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصور: نون بوست – الخليج أونلاين.
موضوع ذا صلة: مخاطر إسرائيل على مصر بعد إختراقها للعرب