د. عبدالله الأشعل*

في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2020، نشرت الأمم المتحدة إتفاقية ترسيم الحدود بين تركيا وليبيا مما أثار عدداً من التساؤلات، خاصة أن مصر واليونان أبرمتا إتفاقية مماثلة ومتداخلة في موضوعها ضمن نفس المنطقة، شرقي البحر المتوسط، وهذه المقالة تهدف إلى تنوير الرأي العام غير المتخصص بهذه المسائل.

المسألة الأولى: ما هي شروط المعاهدة المطلوب تسجيلها؟ وهل التسجيل ملزم أم إختياري؟ ومن هي الجهة التي تتقدم لتسجيل المعاهدة؟

إن أية إتفاقية دولية تنطبق عليها الشروط والأوصاف هي قابلة للتسجيل لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة. والمعاهدات نوعان؛ معاهدات ثنائية، أي بين دولتين، ومعاهدات متعددة الأطراف، أي بين أكثر من دولتين. والمعاهدات من النوعين، مهما كان الموضوع، واجبة التسجيل متى استكملت المعاهدة شرائط صحة إنعقادها. يخرج من هذه المعاهدات إتفاقيات القروض، والتفاهمات، والبروتوكولات. على سبيل المثال، لا يستوفى “إتفاق فيينا”، حول الملف النووي الإيرانية 2015، شروط المعاهدة، كما يخرج، في نظرنا من ضرورة التسجيل، إعلان المبادئ في أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية (وهي شخصية قانونية دولية لها حق إبرام المعاهدات) وإسرائيل، وكذلك الأمر “إعلان المبادئ” في الخرطوم، نفس العام، بين مصر والسودان وإثيوبيا حول “سد النهضة”.

ويلاحظ أن تعريف المعاهدة التي يجب التصديق عليها تضع شروطها الدساتير الوطنية، أما قانون المعاهدات فيضع شروط صحتها من حيث الأهلية القانونية للأطراف وغيرها من الشروط. بالنسبة إلى التسجيل، يجب تسجل كل المعاهدات الثنائية والمتعددة الأطراف والمعاهدات المنشئة للمنظمات الدولية الحكومية، فيما الإتفاقية المنشئة للمنظمات غير الحكومية فلا يلزم تسجيلها. بالنسبة إلى الجهة، فيقوم طرفي المعاهدة الثنائية بتسجيلها، أما المعاهدات متعددة الأطراف فيقوم بالتسجيل الدولة التي تودع تصديقات الأطراف لديها، والتي تذكر ضمن بند صريح في الإتفاقية.

المسألة الثانية: لماذا فكرة التسجيل؟ وما مدى إلزاميتها والعقوبة على عدم التسجيل؟ وما قيمة التسجيل؟

حتى الحرب العالمية الأولى، شاعت المعاهدات السرية ضمن العلاقات الدولية، والتي كانت سبباً في إنتهاك الديمقراطية داخلياً وإشتعال الحروب بين الدول دون أن تدري الشعوب بالإتفاقات والتحالفات التي تبرمها حكوماتها. ولذلك، نشطت فى أوروبا حركتان لمكافحة سرية العلاقات الدولية قدر المستطاع؛ الحركة الأولى داخلية بالإصرار على أن يتضمن الدستور الوطني حظراً للمعاهدات السرية وتنشيط عملية تصديق البرلمان على المعاهدات حتى تصبح قابلة للسريان، ولقد كان الدستور الأمريكي أسبق الدساتير التي منحت الرئيس سلطة إدارة العلاقات الخارجية وإبرام المعاهدات ولكن مع إطلاع الكونغرس على تقدم المفاوضات وعلى ألا يتم التوقيع إلا بموافقة الأخير، أو نصيحة الكونغرس كما نص الدستور.

أما الحركة الثنائية فهي التي ألحقت عند إنشاء عصبة الأمم، على نص المادة 18 التي حظرت الدبلوماسية السرية، وبطلان المعاهدات السرية، وعدم قدرتها على النفاذ ما لم تسجل في الأمانة العامة للعصبة، وهذا التشديد كان مطلوباً حتى يتم القضاء على ظاهرة الدبلوماسية السرية. إلا أن هذا الأمر لم يمنع من إستمرار الدبلوماسية السرية التي شكلت أحد العوامل المسببة لنشوب الحرب العالمية الثانية.

وعندما حطت الحرب العالمية الثانية رحالها بكل أهوالها، نشأت الأمم المتحدة وأدرك واضعوا الميثاق أنه يستحيل حظر الدبلوماسية السرية؛ من هنا، حرصوا على عقوبة عدم التسجيل حيث ألزم الميثاق الدول، في المادة 102 وحسب قواعد الجمعية العامة المنفذة لهذا الإلتزام، بالإسراع في تسجيل المعاهدة، وقد جرى العمل على أن يتم تسجيلها بعد استكمال مراحل إبرامها بما ذلك التصديق عليها. بالتالي، باتت المعاهدة غير المسجلة باطلة وغير قابلة للتنفيذ.

أما عقوبة عدم التسجيل، فلقد تمثلت في عدم قدرة أطراف المعاهدة الإحتجاج بها أمام أي جهاز من أجهزة الأمم المتحدة، وأهمها مجلس الأمن والجمعية العامة ومحكمة العدل الدولية. وبذلك تمتنع المحكمة عن تطبيق المعاهدة غير المسجلة على النزاع في المنازعات، كما ترفض تفسيرها وتتعامل معها على أساس أنها غير موجودة.

المسألة الثالثة: هل للأمم المتحدة أن ترفض تسجيل المعاهدة المخالفة للميثاق أو القانون الدولي أو التي تبدو أحكامها متناقضة (مثل اتفاقية مصر واليونان، واتفاق تركيا وليبيا)؟ وهل لأسبقية التسجيل دخل في المفاضلة بين المعاهدتين؟

لا تملك الأمم المتحدة رفض تسجيل المعاهدات لأي سبب مما ذكرت، لأن التسجيل هو مسألة إدارية لإلتزام قانوني، وتنشر الأمم المتحدة كافة المعاهدات المسجلة هدفه العلنية وقدرة الإطلاع عليها. أيضاً، ليس لأسبقية التسجيل أي أثر، كما أنه ليس من سلطة الأمم المتحدة البحث في مدى التناقض بين معاهدتين، كالحالة الماثلة، كما أن التسجيل لا علاقة له بمخالفات للدستور الوطني لأنه لا يخلع عليها صفة الشرعية ولا يؤثر على قيمتها القانونية وإنما يقف أثر عدم التسجيل على عدم الإعتداد بها أمام أجهزة الأمم المتحدة وحدها، فيما تبقى حجيتها خارج الأمم المتحدة.

بالإضافة إلى ذلك، لا يجوز لدولة ما أن تستند إلى عدم تسجيل المعاهدة من أجل فسخها أو الإفلات من إلتزاماتها فيها. وطبيعي أن المعاهدات التي تعدها لجنة الأمم المتحدة للقانون الدولي تخضع لإلتزام التسجيل حيث تقوم الأمم المتحدة نفسها بالتسجيل نيابة عن كل أعضائها. فعندما أبرم “إتفاق روما” المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، ظلت إيطاليا الدولة المودع لديها حتى تاريخ معين ثم نقل الإيداع إلى الأمم المتحدة رغم أنه لا علاقة للمنظمة الدولية بهذه المعاهدة. ومن الملاحظ أيضاً، أن أحكام محكمة العدل الدولية وقرارات أجهزة الأمم المتحدة لا تسجل وفق المادة 102.

الخلاصة، إن الخلاف بين معاهدة تركيا – ليبيا ومصر – إليونان يظل كما هو رغم التسجيل، ولا يسبق أحدهما الآخر في القيمة بسبب الأسبقية، فالتسجيل لا يجعل الأمم المتحدة شاهداً أو ضامناً لتنفيذ أطراف المعاهدة لبنودها.

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصور: العربية نت – سي.أن.أن عربية.

موضوع ذا صلة: هل يجوز إبطال المعاهدات الدولية لمخالفتها الدستور الوطني؟