د. عبدالله الأشعل*
قطع القانون الدولي العام شوطاً طويلاً في باب المعاهدات الدولية بإعتبارها وسيلة من وسائل إدارة العلاقات الدولية، واضعاً بالإعتبار أن الدولة قد تضطر إلى عقد معاهدة ما، خصوصاً معاهدات السلام، تحت الضغط.
لذلك، حرصت إتفاقية الأمم المتحدة لقانون المعاهدات، لعام 1969، على تنقية إرادة الدولة وإرادة ممثليها من العبث والإكراه، وهو نوعان؛ الإكراه المادي ويمكن تعقبه وإثباته في معظم الأحيان، والإكراه المعنوي الذي يدخل ضمن تقدير الدولة، وهو واقعياً يعد في صلب نظريات العلاقات الدولية. ومع ذلك، لو إستطاعت الدولة إثبات أنها تعرضت لضغط معنوي ظاهر يمكن تبيانه، فإنها تستطيع أن تفسخ المعاهدة.
لكن وحتى الآن، ظل القانون الدولي خالٍ من حكم لمسألة مدى مخالفة الدولة لدستورها في إبرام المعاهدة. ولكن حدث تطور هام للغاية وحذر في نفس الوقت، وطبعاً منطلقاً من غايات سياسية واضحة، ذلك أن العلاقات الدولية تحركها مصالح الدول ومدى قوتها لحماية مصالحها ثم تغلفها بالغلاف القانوني. من هنا، فإن دراسة العلوم السياسية أساس في فهم المعاهدات والتصرفات القانونية الدولية إذ لا يمكن إجتزاء المعاهدات من سياقها السياسي وحصرها في مقررات قانونية، كما هو الحال حتى الآن ضمن مقررات كليات الحقوق في مصر، لكنها تنبهت فيما بعد.
وبحكم تخصصي السياسي والقانوني وخبرتي الدبلوماسية، بسَّطت هذا المفهوم منذ أكثر من ربع قرن ضمن كتاب، صدر العام 1995، بعنوان “القانون الدولي المعاصر” الذي تطور مفهوم طرف المعاهدة سياسياً لكنه لم يتطور بالمقابل في النظرية التقليدية. كما لاحظت، إن قضاة محكمة العدل الدولية المنتمين إلى المدارس التقليدية للقانون لم يتمكنوا من فهم وظيفتهم القضائية ذات البعد السياسي. وبالفعل، كان السؤال الذي وضعته أكاديمية القانون الدولي في لاهاي، عندما امتحنت في دبلومها العام 1979، هو التعليق على فقرة من حكم المحكمة ضمن قضية المصايد الآيسلندية تقول “إن المحكمة، وهي محكمة قانون، لا يمكنها أن تفصل في القضية بموجب القانون الراهن (الذي كان محل تطور في مؤتمر الأمم المتحدة لقانون البحار والذي أنتج اتفاقية 1982)، كما لا تستطيع أن تتوقع القانون القادمlex lata & lex ferenda قبل صدوره.”
صدر الحكم في العام 1974، وهو العام الذي بدأ فيه المؤتمر وإستمر لثماني سنوات. فلو تجاهلت المحكمة وأعلنت عدم قدرتها على التصدي للنزاع بين إيسلندا وبريطانيا بحجة عدم وجود قانون (فراغ القانون)، لكان الصراع المسلح هو البديل الذي سينهي النزاع على المصايد لصالح الطرف الأقوى.
لقد ظل القانون الدولي يعول على الدولة كشخص من أشخاص القانون العام، وهي التي تنفذ أحكامه على إقليمها وعلى رعاياها حتى منتصف تسعينات القرن الماضي. والثابت أن تغير الحكومات لا يؤثر على إلتزام الدولة بالمعاهدات، لكنه الآن صار بمقدور النظام الجديد أن يتملص من المعاهدات، خاصة تلك المتعلقة بالقروض إذا أثبت أن النظام القديم فسَّر الدستور بطريقة يتمتع فيها بسلطة إبرام المعاهدات وطوع القضاء والتشريع لهواه، وهذا شرط أول. أما الشرط الثاني، أن يثبت النظام الجديد أن النظام القديم قد إستخدم القروض بشكل لا يفيد الإقتصاد القومي أو أنها المال طلب لدوافع أهواء الحاكم القديم.
لم يعرض على القضاء الدولي حالات تصلح كي تعد سوابق قضائية، لكن العمل الدولي يحاول أن يوفق بين الطرف الثالث، لجهة حسن النية في معاهدات القروض وسوء نيته، واستقرار المعاملات الدولية ومصالح الشعوب التي تعاني من الحكم الفردي الذي يوجه علاقات الدولة الخارجية لمصالحه ومصالح طائفية دون دراسات علمية تقي الإقتصاد المشاكل البنيوية، وأن يكون قرار الإقتراض مبنياً على حسابات الطائفة الحاكمة.
هذه القاعدة تقف على مشوار طويل من محاولات تحرير الشعوب المستعمرة بالقوة الأجنبية أو بالحكم المستبد، وكان الفضل في ذلك للفقه السوفيتي الذي إخترع نظرية “المعاهدات غير المتكافئة”، وهي تقوم على أنها عقدت من قبل الدولة خلال إحتلالها خارجياً أو داخلياً مع الدولة المحتلة، وهي المعاهدات الاستعمارية. اليوم، زال الإستعمار التقليدي وحل محله حكام الدول المتخلفة الذين يتواطؤن مع دول ومؤسسات دولية لإغراق البلاد بالديون من أجل منافع سياسية أو مالية أو إقتصادية ولا تعود بالنفع على الشعوب.
لكن هذه النظرية يجب أن تؤخذ بحذر لأن الحكومة التي تبرم عقود القروض قد لا تكون مصالحها ظاهرة. وفي هذه الحالة، يكفي أن يكون ضررها ظاهراً على الدولة من خلال دراسة الدوافع والظروف وأوجه استخدام القرض وغيره من الملابسات.
بدأ تطبيق هذه النظرية على العراق العام 2005 عندما قرر الفقه الأمريكي أن مغامرات الرئيس الراحل، صدام حسين، ضد إيران لا يلزم الشعب العراقي بدفع تعويضات عنها، لكن الدافع هنا كان سياسياً أمريكياً محضاً هدفه حرمان إيران من الحصول على تعويضات تنقص من الأموال التي قرر مجلس الأمن تفويض أمريكا وبريطانيا معاً في وضعها ضمن صندوق يصرف منه على العراق. وقد نُهب هذا الصندوق، وسمحت واشنطن لعملائها الجدد بإقتسام عوائده، كما وضعت تحت يدها بالمليارات حتى الآن.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصورة: وكالة الإنباء الكويتية – كونا.
موضوع ذا صلة: دور القانون في عصر الإنهيار الإمبراطوري*