د. عبدالله الأشعل*
المشروع الصهيوني أوسع من فكرة الصهيونية، وهو يهدف إلى تجنيد كل الأدوات بما فيها التظاهر بإحترام القانون أو نبذه، إذا كان ذلك لصالح المشروع، وهو يهدف أساساً ليس فقط إلى تحقيق الفكرة الصهيونية في فلسطين وإنما تقديم الضمانات اللازمة لحماية هذه الفكرة عندما تتجسد في صورة إسرائيل وأهم مهدداتها هي مصر؛ لذلك، إنه مهما قدَّم النظام في مصر من تطمينات وترضيات لإسرائيل، فلن تقنع إلا بإبادة مصر وليس فقط إخضاعها. ولقد إستخدم المشروع الصهيوني العديد من الأدوات نرصد منها عشرة أساسية.
الأداة الأولى، القوة العسكرية الساحقة والحصول على السلاح وتصنيعه وعدم التوقف عند مستوى معين فيه؛ لذلك، فإن الجيش الإسرائيلي هو نموذج للجيش المحترف ذو الكفاءة العالية بالمقارنة مع الجيوش العربية لأنه يستعين بخبرات متنوعة وشبكة تعاون هائلة على المستوى العسكري مع الدول المتقدمة، التي تقدم له هذه الخدمة على سبيل العون والمساعدة، كما أنه لا يشكل عبئاً على الإقتصاد، كما هو الحال بمصر، لكونه يعد مصدر وأساس طمأنة المواطن إلى الثبات في هذه المنطقة. لذلك، فإذا إهتزت قوة الجيش، كما حدث في الأيام الأولى في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 وكما يحدث بالمواجهات مع حزب الله، فإن ذلك سيؤدي إلى تفكك إسرائيل وهجرة اليهود إلى البلاد التي جاءوا منها. من هنا، هم يدركون أن قوتهم الساحقة هي أساس لتثبيت دولتهم، وإخضاع المنطقة العربية، كما أنه أساس إحترام العالم لهم بإعتبارهم “دولة عسكرية” ولكنها ديمقراطية، على خلاف عميق بالتفاصيل مع البيئة العربية.
فالقوة العسكرية وسحق العرب بها هي أساس نظرية رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، والتي تقوم على إخضاع العرب وضمان تسيد إسرائيل، في حين يتمنى العرب الصداقة معها بأرواحهم وأموالهم دون أن يطالبوها برد ما إغتصبته من أرض عربية أو الكف عن الجرائم التي هي نتيجة لإستخدام القوة بهدف سحق العرب، والتي تعد فكرة من صميم العقيدة الصهيونية؛ لذلك، إن التعويل على المبادرة العربية للسلام، كما تفعل السعودية الآن، هو مجرد مبرر سطحي لتأجيل الإعتراف بإسرائيل لأنها قُدمت منذ عقدين من الزمن ولم تعد تصلح مع دخول المنطقة عصر “القرن الإسرائيلي”.
الأداة الثانية، إختراق العالم العربي عن طريق الحكام ومحاولة ذلك مع الشعوب، وهذه الطريقة هي التي ضمنت بقاء إسرائيل. إن فساد النُظم العربية وقمعها لشعوبها شكل ضمانة لأمن إسرائيل وتأميناً لوجودها المتميز.
الأداة الثالثة، الإعتماد المطلق على الولايات المتحدة في الدعم من جميع وجوهه، السياسية والعسكرية والإقتصادية وغيرها، فهي التي تمكن إسرائيل في المنطقة على أساس هيمنة واشنطن الكاملة على الحكام العرب خاصة بعد إنتهاء الحرب الباردة، والملاحظ أن حلاً من روسيا والصين لم يعد لديهما الغيرة من هيمنة واشنطن على المنطقة العربية، كما حدث في الخمسينات والستينات من القرن الماضي إبان الحرب الباردة العالمية.
الأداة الرابعة، شعور إسرائيل بأنها تستولي على كل فلسطين وأنه من الضروري توفير كل مقومات الحياة لكل اليهود في العالم، الذين سوف يفدون إليها وسط بيئة شعبية معادية وبيئة رسمية موالية؛ لذلك، أظن أن هذه هي الإشكالية الكبرى التي تمنع إستكمال المشروع الصهيوني. لهذا السبب، لا يخفي سفراء إسرائيل في مصر، بالتحديد، أن مهمتهم هي تطويع الشعب المصري لصالح إسرائيل ورفع العداء من قلب المصريين لها.
الأداة الخامسة، تمزيق المنطقة العربية بالمؤامرات وتضييع هوية المنطقة العربية والإسلامية حتى تتهيأ لإستقبال الهوية الجديدة الصهيونية.
الأداة السادسة، التربص بأية محاولة لوعي الشعوب العربية والديمقراطية؛ لذلك، قادت المؤامرة على كل الثورات العربية، كما جاهرت إسرائيل بأن أمنها وسلامها رهن بإستمرار الفساد والإستبداد العربي وقهر الشعوب ونهب خيرات البلاد، وأن يكون المنصب أهم من الوطن، مع تغيير العقيدة السياسية والعسكرية للحكومة والأمن والقوات المسلحة بحيث لا تصبح إسرائيل هي العدو وإنما الشريك والحليف.
الأداة السابعة، إستخدام الإعلام العربي والعالمي لإرهاب المثقفين والكتَّاب الذين يهاجمون المشروع الصهيوني والسياسات العدوانية الإسرائيلية، حيث تتمتع إسرائيل بمكانه عالمية تساعدها على الإطاحة بأي منصب حتى لو كان الكونغرس الأمريكي. وقد درجت بعض وسائل الإعلام العربية، كقناة الجزيرة، على إستضافة بعض المتحدثين الصهاينة وهو ما يعد إختراقاً للجماهير العربية الجاهلة والمشتتة، بسبب سياسات الحكومات العربية. لذا، من الخطر أن يطل هؤلاء علينا وحدهم عبر الشاشات العربية إذ لا بد إما التعقيب عليهم أو أن يكون هناك ضيف عربي موازي. وتكمن حجة قناة الجزيرة في حرية الإعلام وترحيب إسرائيل بأي صوت عربي في إعلامها، علماً بأن هذا وذاك يعتبر ممهداً للتطبيع ومهدراً للصورة البشعة التي كونها المواطن العربي إتجاه كل ما هو إسرائيلي.
الأداة الثامنة، دفع العرب إلى الإفتتان الشعبي بالنموذج الإسرائيلي، ويساعد على ذلك الكتَّاب والمتحدثون العرب اللذين يمتدحون إسرائيل وديمقراطيتها وتقدمها العلمي مقارنة بالتخلف والدكتاتورية فى بلادهم، متجاهلين حقيقة أن إسرائيل هي سبب التخلف والإستبداد العربي وهي التي تحرس الوضع الراهن في المنطقة العربية.
الأداة التاسعة، ضرب الإسلام بالمسلمين، وقد رأيناه في صورة “داعش” الذي صنعته الولايات المتحدة ودربته إسرائيل وموله الخليج لكي تسيئ إلى الإسلام والمسلمين وتخرج صورة نمطية للمسلم، في أصوله الأولى خاصة، مع حرص الحكام العرب على تغييب عقول الشعوب وفرض الأكاذيب عليهم على أنها حقائق.
الأداة العاشرة والأخيرة، سلاح الإغتيالات، فسجل إسرائيل مشهور به. لكن الغريب هو سكوت العالم عن تلك الجرائم وكأنه حق مشروع لها بأن تتخلص من الشخصيات العلمية والسياسية العربية غدراً وغيلة.
أما خصائص المشروع الصهيوني، فألخصها بما يلي:
1. أنه مشروع مكتمل نظرياً بأدواته وأهدافه، لكن تطبيقه على الأرض ومحطاته تتحدد حسب الظروف؛ فكلما تراجعت المنطقة العربية، وثب المشروع الصهيوني فى الفراغات ونقاط الضعف التي تصيب العرب. فعلى مستوى العلاقات الخارجية مثلاً، كان العرب يحرصون على عزلة إسرائيل في العالم ويقطعون علاقاتهم مع من يعترف بها، لكن مصر هي التى بددت هذا الكسب بصفقة “كامب ديفيد” التي أفادت الرئيس الراحل، أنور السادات، شخصياً لكنها أضرت بمصر والعرب ضرراً بليغاً.
2. أن المشروع سخَّر كل شئ لتقدمه بما في ذلك الإمعان بالديمقراطية والنزاهة آخذاً بالحديث الشريف أن “الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ويهزم الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة”.
3. إنعدمت لدى المشروع كل القيم الدينية والأخلاقية، وإستباح كل شئ في سيبل إزدهار المشروع.
4. باطن المشروع خلاف لما يظهره. لقد تظاهرت إسرائيل بأنها تريد مكاناً في فلسطين لليهود المضطهدين، فحصلت على “قرار التقسيم” وتظاهرت بأن السلام ممكن بين اليهود والعرب، كما أشارت إلى نظرية “حل الدولتين”، وتظاهرت بأنها قبلت “قرار التقسيم” وهي التي رفضت تطبيقه أصلاً. لكنها كانت تلوم العرب، في نفس الوقت، على عدم قبوله حتى إذا ما قبلوه فاجأتهم بأنها لم تعترف به يوماً.
5. لا تهتم إسرائيل بالوثائق القانونية، وإنما تستخدمها لخدمة المشروع، فهي تؤمن بأن السبب الأساس في تقدم مشروعها يكمن في القوة والبطش وإستئناس الحكام العرب.
6. التحلي بالصبر الإستراتيجي والإهتمام بأي تقدم بمعيار إسرائيل، فكان إنهيار مصر العام 1967 هو ما فتح الباب أمام تقدم مشروعها في مصر والمنطقة العربية بكاملها.
7. يعاني المشروع الصهيوني من أزمة الشرعية والإعتراف والأخلاق، ولذلك تكثر في الأدبيات الإسرائيلية هذه المصطلحات. فتل أبيب مصرة على تكرار الإعتراف بها لعل ذلك يشكل طمئنة لها لكونه يضفي عليها شرعية ليست فيها. كما أن زعماءها يرددون بكثرة أن الجيش يتمتع بأخلاقيات عالية، بينما هو في الواقع أهم ما تفتقده هي وجيشها.
8. يعتمد المشروع على هدفه الأساسي الكامن بالإستيلاء على كل فلسطين، لكنه ليس واثقاً من المستقبل ويتحرك على أرض زلزالية؛ ولذلك، وقعت إسرائيل في أزمة التناقض بين محاولاتها دعم الثقة بنفسها وشعورها العميق بعدم الأمان. لهذا السبب، تركت حدودها للظروف وصرحت بأن أمنها يقف عند النقطة التي تشعر فيها بالأمان، لكنها لن تشعر بالأمان مطلقاً لأن اليهودي بطبيعته يعلم أنه لا ينتمي لليهودية وأنه أول من خرج على التوراة وأن القرآن الكريم فضح تلاعبهم بها وكيدهم للعرب والمسلمين.
9. محاولة إضفاء الشرعية الدينية بقانون الدولة اليهودية استناداً إلى أن “قرار التقسيم” قد إستخدم هذا المصطلح ولكنها في الحقيقة دولة اليهود وليس الدولة اليهودية. وبرغم أن رجال الدين اليهود لا يزالون يحرفون التوراة، إلا أنهم، داخل إسرائيل وخارجها، مجندون لخدمة المشروع.
أخيراً، تلك هي أدوات المشروع الصهيوني وخصائصه التي تستحق من العرب الدراسة الأمينة والمراجعة لأن القضية تتعلق بالوجود العربي؛ لذلك، إنشغل المثقفون العرب بما أرادت إسرائيل أن ينشغلوا به وهو أن الصراع العربي – الإسرائيلي أكان صراع وجود أم صراع حدود، وهذه صيغة بلهاء لأن الصراع كان وهماً. لقد أثبتنا ذلك في مقالة سابقة أن الصراع من الخرافات والأساطير في الثقافة العربية، فالمشروع الصهيوني خطط أساساً كي ينهي الهوية العربية والإسلامية للمنطقة ولتحل محلها الهوية الصهيونية.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصور: فلسطين اليوم – يورو نيوز.
موضوع ذا صلة: إرتفاع المؤشر الصهيوني وتراجع المؤشر العربي عبر قرن من الزمان